الاستخدام النفعي للدين في الغرب
[size=40]19يناير 2016بقلم غيضان السيد عليقسم: الفلسفة والعلوم الإنسانيةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
لم يقتصر التوظيف النفعي للدين على أمّة أو حضارة أو ثقافة بعينها؛ بل امتدّ ليشمل معظم الحضارات والثقافات في الغرب والشرق على السواء، وإذا ما توقفنا عند هذه الظاهرة في الغرب، فإنه يمكننا أن نتوقف طويلاً عند حالات عديدة، على سبيل المثال لا الحصر، تمّ توظيف الدين فيها لتحقيق أغراض نفعية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية.
فالاستخدام النفعي للدين يعني توظيف الدين لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية أو سياسية أو شخصية. وسواء تمّ هذا الاستخدام من جانب جماعات سياسية بعينها، أو من جانب أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للمشروعية الاجتماعية والسياسية والقانونية، فالنتيجة واحدة: تحويل الدين إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية[1]. فإذا ما وقفنا مع فجر الحضارة الغربية والتي تمثلت في بلاد اليونان وحضارتهم المجيدة، وجدنا ذلك الاستخدام النفعي للديانة اليونانية التي آمنت بـ "زيوس" رب الأرباب والسلطة والقانون، الذي انتصر تماماً على كل الأقوياء والعمالقة، وتمكن من السيطرة على قوى السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وكان "زيوس" ومعه أحد عشر إلهاً يمثلون كافة الآلهة الإغريقية. وقد تمّ استخدام هذا الدين بصورة نفعية جداً؛ حيث نظر أتباعه إلى الآلهة بوصفها وسائل تحقق رغباتهم، وهم يُصلوّن إليها ويعبدونها عندما يحتاجونها ولا سيما في أوقات الضرورة والحرب[2]. وهذا يتضح من وظيفة كلّ إله؛ فـ"هيرا" زوجة "زيوس" إلهة الزواج يلجأ إليها الراغبون في الزواج فهي الملهمة بالشريك الصالح، و"أبولون" إله الشمس الذي يلجؤون إليه في فصل الشتاء للتخفيف من وطأة البرد القارس...، وهكذا مع: "أرتميس" إلهة الصيد، و"أفروديت" إلهة الحب، و"أثينا" إلهة العلم والحكمة والفن، و"آرس" إله الحرب، و"هرمس" رسول الآلهة، و"ديونسيوس" إله الخمر والعنب الذي اقترن بالممارسات الإباحية، و"هادس" إله الموت والجحيم، و"بوسيدون" إله الأوقيانوس الذي يعيش في البحار، و"هيفستوس" إله النار. ومن هذه البداية يمكننا تصور كيف كان الدين اليوناني المبرر والغطاء لتحقيق المصالح والغايات السياسية والتخلص من المعارضين السياسيين بعيداً عن التهم السياسية الحقيقية؛ حتى لا يتحول هذا المعارض إلى بطل قومي تلتف حوله الجماهير العريضة، فهذا "انكساجوراس" المناوئ السياسي للسلطة الحاكمة حينذاك، يتم سحبه بعيداً عن ساحة السياسة إلى ساحة الدين ليفوز بأول لقب "كافر" في التاريخ، فيتهم بالإلحاد (432 ق.م) ويُنْفَى إلى مدينة "لامبساكوس" التي تقع على الشاطئ الجنوبي للدردنيل.
الأمر نفسه يحدث مع سقراط أحد أهم فلاسفة اليونان القدامى الذي خشي عِلية القوم ورؤساؤهم على أولادهم من تشربهم لتعاليمه المثالية، كما حدث مع ابن "أنيتوس" رجل المال والأعمال، صاحب السلطة والنفوذ، الذي آمن بآراء سقراط وفلسفته فنفر من تجارة أبيه ومهنته، مفضلاً الحكمة على الجاه والثراء[3]. ولما كانت خصال سقراط وأفعاله التي اشتهر بها بين الناس تمنع تُهم اللصوصية أو العمالة والتواطؤ مع الأعداء أو الخيانة للوطن. فهو العفة مصورة في إنسان، كذلك لا يستطيع أحد في أثينا كلها أن ينكر مواقفه البطولية في مواقع أثينا الحربية، وكيف أنقذ القائد العظيم "السيبياد" في موقعة "بوتيديه"، بأن حمله وهو جريح على كتفيه بضع مراحل، أمّا في موقعة "دليوم" فإنه أنقذ حياة "زينوفون" حين سقط عن جواده وشُجت رأسه، ولما قرر الجيش الأثيني الانسحاب في تلك الموقعة الخاسرة، بقي "سقراط" في المؤخرة، يتقهقر بظهره في خطى وئيدة جداً ليحمي ظهر الجيش من هجمات المطاردين. فلم يبق أمام أعداء "سقراط" إلا أن يطعنوه في عقيدته وفلسفته، باسم الدين وباسم النظام الاجتماعي[4]. وسرعان ما يُعدم سقراط جراء اتهامه بإنكار الآلهة التي تعترف بها الجمهورية الأثينية ودعوته إلى آلهة جديدة. وإذا ما تمّ استغلال الدين في حالة "سقراط" لتحقيق مكاسب اجتماعية، فإنه بالمثل تمّ استغلاله لتحقيق مكاسب سياسية، كما حدث في حالة "أرسطو" أعظم فلاسفة اليونان بلا منازع، الذي كان المعلم والمربي للقائد العظيم "الإسكندر المقدوني"، ولذلك حُسب عليه، فلما خبا نجم "الإسكندر" بوفاته عام 323 ق.م، استأنفت الأحزاب المناوئة لمقدونيا نشاطها المعادي التي تذكرت نشيداً قد كتبه "أرسطو" يمجّد فيه الملك "هرمياس" فاتهموه بالإلحاد. لكنه تمكن من الفرار قبل أن يكرّروا معه ما فعلوه مع أستاذه "سقراط" مردداً مقولته الشهيرة: "لن أسمح للأثينيين أن يخطئوا في حق الفلسفة مرّتين"[5]. وإذا ما انتقلنا من بلاد اليونان القديمة إلى أوروبا في العصور الوسطى، فسوف نرى إلى أيّ مدى تمّ استخدام الدين بصورة فجّة من أجل تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية واجتماعية، تمثلت في ذلك العدوان الاستعماري على بلاد الإسلام، الذي اتخذ مظهراً دينياً، وعُرفت حروبه باسم الحروب الصليبية. فقد أعلن الغربيون أنّ دافعهم الوحيد لشن حروبهم ضد العالم الإسلامي هو الدافع الديني المتمثل في رغبتهم في تأمين طريق الحجاج المسيحيين إلى كنيسة القيامة بالقدس، بعد زعم الباباوات ورود الشكاوى الكثيرة إليهم من الحجاج عن سوء معاملة المسلمين لهم أثناء أداء فريضة الحج هناك. كذلك رغبتهم في استعادة الصليب المقدّس (صليب الصلبوت) الذي كان في حوزة المسلمين في بيت المقدس. بينما الحقيقة غير ذلك تماماً، والتي تمثلت في مصالح اقتصادية نتجت عن سوء الأحوال الاقتصادية في أوروبا عموماً، وطمعاً في خيرات بلاد الشرق الغنية التي تفيض عسلاً ولبناً كما أعلن أحد الباباوات. كما رغب الأمراء والفرسان في حلّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن طبيعة النظام الإقطاعي الظالم في الغرب الأوربي، كما تمثلت المصالح السياسية في الاستجابة لاستغاثة الإمبراطور البيزنطي "رومانوس الرابع" على يد السلاجقة المسلمين. وهكذا أُخفيت كلّ هذه الدوافع الحقيقية وأعلنت الدوافع الدينية - في أسوأ استغلال للدين- فرسموا الصليب على صدورهم ودروعهم وأعلامهم ليوهموا الناس بأنهم يحاربون لنصرة المسيحية من عدوان المسلمين، ذلك القناع الذي سرعان ما سقط عندما دخلوا بيت المقدس في الحملة الصليبية الأولى وأبادوا أهلها دون تفرقة بين المسلم والمسيحي واليهودي.
كما أنه لا يمكن أن نرصد ذلك الاستخدام النفعي للدين في الغرب دون أن نشير إلى صورة بلغت من الفجاجة حدّ الاشمئزاز، حيث استغل رجال الإكليروس في الكنيسة الكاثوليكية الدين أسوأ استغلال؛ فقاموا ببيع صكوك الغفران ليس فقط للأحياء من الخاطئين بل ولأقرباء الموتى، جراء تحصيل مبالغ مالية مقابل مغفرة خطاياهم.
كما تمّ استغلال الدين بصورة نفعية في هذا العصر لصالح السياسة بصورة أسوأ من الصورة السابقة، إن لم تكن أبشع منها، فيما عُرف بالحق الإلهي المقدّس للملوك؛ حيث استبد ملوك العصور الوسطى وزاد استبدادهم، وأصبحت الديكتاتورية هي نظام الحكم الشائع في غالبية أنحاء أوروبا، واعتمد الملوك في تبرير هذا الاستبداد وتلك الديكتاتورية على ما يُعرف باسم "الحق الإلهي المقدّس"، حيث كان الملك يعتقد أنه خليفة الله في الأرض، وأنه مفوض شخصياً من الله تعالى في حكم هذه المجموعة من البشر في دولته الخاصة، ومن ثمّ لا يجوز لأفراد الشعب أن يثوروا على ممثل الله أو أن يتمردوا على إرادته، وتصبح كلّ أوامر الملك ونواهيه مستمدة من وحي الله تعالى، وواجبة النفاذ دون اعتراض.
كما تمّ توظيف الدين في أوروبا على طول العصور الوسطى وصولاً إلى بدايات العصور الحديثة لترسيخ الاستبداد وإلهاء الفقراء بدلاً من أن يثوروا على أوضاعهم، ينخرطون في التدين لعلهم يلتمسون فيه عوضاً عن حياة الحرمان في الدنيا، ويعوضهم الدين عن ذلك بجنات وثواب في الآخرة يُحرم منهما الأغنياء، والنتيجة أن يرضخ الفقراء ويستسلموا للاستبداد.
كما أخذت السياسة الاستعمارية عند الفيلسوف الفرنسي ليبنتز قناعاً دينياً، فمع أنّ مشروعه سياسي في المقام الأول إلا أنه غُلِّفَ بتبريرات دينية تبشيرية، حيث يصرح بأنّ مشروعه الاستعماري الذي قدّمه للملك لويس الرابع عشر لغزو الشرق واحتلاله بأنه يرى في هذا المشروع الإرادة الإلهية تتجلى بطريقة خاصة ووعد الله الأكيد بالنصر لهم في كلّ الظروف. كما يتحدث مرّة أخرى مستحضراً روح الحروب الصليبية وآليتها في التخفي وراء قناع الدين فيقول: "وفي عصرنا هذا أراد السلطان العثماني التركي نقل عاصمة الإمبراطورية من القسطنطينية إلى القاهرة لكنّ الانكشاريين عارضوه. هكذا شاءت العناية الإلهية كي يبقى هذا البلد مفتوحاً أمام المسيحيين حتى يستطيعوا سحق إمبراطورية الترك"[6]. وهو إذ يستحث ملك فرنسا على استعمار الشرق ابتداء من مصر، يتحدث باسم الله والإنسانية، فيقول: "فرنسا رابحة في كلّ الحالات فقضيتها عادلة أمام الله وأمام الإنسانية"[7]. الأمر الذي جعل ماركس يصيح صيحته المشهورة "الدين أفيون الشعوب"، والتي ينتقد فيها الدين لفصله الدنيا عن الآخرة ولدعوته الفقراء إلى أن يستسلموا وييأسوا من الدنيا طمعاً في الآخرة واكتفاءً بها[8]. وإذا ما انتقلنا من التاريخ إلى العصر الراهن ومن الغرب الأوروبي إلى الغرب الأمريكي، فإننا سنجد الاستخدام النفعي للدين بصورة جلية واضحة، فإنه إذا كان قد استخدم كقناع في الغرب الأوروبي لكسب التعاطف الجماهيري ومؤازرة الشعوب من خلال عاطفة الحماس الديني، إلا أنه في الغرب الأمريكي ينزع القناع ويقدّم نفسه على أنّه استغلال نفعي واضح للدين كما بدا في البرجماتية الأمريكية دين أمريكا وفلسفتها، التي ترحّب بوجود الله وبالدين عموماً إذا كان ذلك يمكن أن يعود بالنفع على صاحبه في الحياة الدنيا. فالمعتقدات تُصرف تماماً كما تصرف أوراق النقد، فإذا لم تكن لها قيمة وفائدة في حياتنا اليومية المباشرة؛ أصبحت زائفة بلا رصيد ولا قيمة.
فلا غرابة إذا وجدنا البرجماتي يتناول المسائل الدينية من وجهة نظر الحاجات الإنسانية ذاتها، فلا يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن أدلة لإثبات وجود الله تعالى، وإنما هو يمضي مباشرة إلى الوقائع، فيجعل نقطة بدئه هي "التجارب الدينية" نفسها. وانطلاقاً من هذا الموقف يمكننا أن نفهم قول مؤسس البرجماتية وليم جيمس عندما سُئل عن الدين فقال: "لست أدري هل هو حقيقي أم لا؟ ولذا سأضعه موضع التجربة"[9]. ولذلك فهو لا ينظر إلى الدين باعتباره طقوساً أو فرائض وإنّما ينظر إليه باعتباره شعوراً أو عاطفة ذات فائدة مباشرة، فعلى الرغم ممّا يكتنف التجربة الدينية من قلق وصراع وأزمات نفسية، فإنّ من المؤكد أنّ شعور الإنسان بوجود قوة عليا تستطيع أن تجد لديها الغوث والعون من شأنه أن يأخذ بيدها دائماً في هذه الحياة. والدين عند البرجماتيين أمر شخصي في جوهره، وليس من المهم أن نعرف الأسس النظرية التي تقوم عليها عقائد الدين، بل المهم أن نقف على ثماره ونتائجه، وذلك على مستوى الدين كله من أعلى قمته وهو "الله" سبحانه وتعالى إلى آخر ما يمكن أن تعتبره أمراً دينياً، فالله ـ عندهم- كما يقول جيمس في كتابه "البرجماتية": "إذا كان فرض الله يعمل عملاً مشبعاً بأوسع معنى للكلمة، فهو صادق، وذلك لأنّ البرجماتية لا تنبذ أي فرض إذا كانت هناك نتائج مفيدة للحياة كامنة فيه"[10]. ومن ثمّ فإنّ الرجل المتدين (أياً ما كان إيمانه الديني) يشعر بأنّ علاقته بذلك الموجود الأعلى الذي يتعلق به هي مصدر قوته وطاقته ورجائه في الحياة، وهو يستمد من تلك العلاقة نفسها سعادة وسلاماً وغبطة روحية، ما كان يمكن مطلقاً أن يحصل عليها من طريق أخرى؛ فهو على حق، طالما أنّ وجوده له فائدة عملية، فليس هناك حق في ذاته، لكنّه حق بالنسبة إلى نتائجه العملية في الحياة أو ما يسميه البرجماتيون بالقيمة المنصرفة Cash Value.
خلاصة القول يقبل جيمس وأتباعه البرجماتيون كلّ القيم الدينية مادام لها منفعة وفائدة عملية في حياة البشر. ومن ثمّ فلا مانع أبداً عند الغربيين من تقديس ما هو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي إذا كان سيعود بالنفع المباشر عليهم. فلا غرابة أن يقول جورج بوش عندما قام بغزو العراق زاعماً أنّ ما يقوم به هو "حرب صليبية"، والآن تقول الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إنّ الحرب على سوريا "حرب مقدّسة". وهذا عين ما قصدته بالاستخدام النفعي للدين في المجتمعات الغربية القديمة والمعاصرة.
وفي الختام يجدر بنا أن نشير إلى استنكار بعض المفكرين والفلاسفة لذلك الاستخدام النفعي للدين من قِبل الحكام ورجال السياسة فيما أسموه بتدنيس المقدّس وتقديس المدّنس، ولكنهم ألقوا باللائمة ـ في المقام الأول- على رجال الدين الذين يزودون الحكام بالنصوص اللازمة لتبرير ذلك التوظيف النفعي للدين، ممّا حدا بـ"ديدرو" أن يقول مقولته التي صدَّرنا بها هذه المقالة.