لأزهر والرقابة..تاريخ من الصدام والجدل يتجدد مع أزمة «(فيلم «نوح»)
تاريخ من الجدل والصدام يسيطر على العلاقة بين الإبداع والمؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر الذى يلعب دائماً دور الرقيب إلى جانب الجهات الإبداعية المختصة، حيث يملك الأزهر الحق قانوناً فى منع تداول أى كتب أو أعمال فنية داخل الجمهورية يرى أنها تسيء لتعاليم الإسلام أوتلك التى تجسد الأنبياء والرسل.
وقد تجددت تلك الأزمة على الساحة من جديد مع فتوى وقرار الأزهر بمنع عرض الفيلم العالمى «نوح « الذى يجسد النبى نوح عليه السلام مؤكدًا أن مثل هذه الأعمال تتنافى مع مقامات الأنبياء والرسل وتمس الجانب العقائدى وثوابت الشريعة الإسلامية وتستفز مشاعر المؤمنين، وذلك برغم إجازته من الرقابة.
وترجع تدخلات المؤسسات الدينية فى صميم عمل الرقابة إلى قرار وزير الإعلام رقم 220/ 976 بشأن القواعد الأساسية للرقابة على المصنفات الفنية، والذى نص فى مادته الثانية على عدم جواز «إظهار صورة الرسول (صراحةً أو رمزًا)، أو صور أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة أو سماع أصواتهم، وكذلك إظهار صورة السيد المسيح أو صور الأنبياء عمومًا، على أن يراعى الرجوع فى كل ذلك إلى الجهات الدينية المختصة».
وحصل الأزهر عام 1994 على سند قانونى للتدخل فى عمل الرقابة بموجب فتوى من قسميّ الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، ومفادها أن «للأزهر وحده الرأى الملزم لوزارة الثقافة فى تقدير الشأن الإسلامى للترخيص أو رفض الترخيص للمصنفات السمعية أو السمعية البصرية».
الأمر الذى أثار حالة من تراشق الانتقادات بين المثقفين والأزهر حيث يرى المثقفون أن تلك النوعية من الأفلام روائية وإبداعية فى المقام الأول وليست أفلاما وثائقية حتى يوجه لها انتقادات بكونها صادمة للمشاعر الدينية أوتتعارض مع التعاليم الدينية، موجهين انتقادات للأزهر بالجمود والتزمت تارة وعدم الالتزام بالقواعد التى يضعها تارة آخرى بالنظر إلى تطبيقها أحياناً وإغفالها أحياناً آخرى من وجهة نظرهم، داعين إلى أن تكون الرقابة ذاتية من المجتمع نفسه ليحدد ما يقبله وما يرفضه عبر الجهات الرقابية المختصة، مؤكدين أن سلاح المنع والمصادرة لا يمكن اعتباره سلاحًا فعالًا فى مواجهة السماوات المفتوحة وثورة الاتصالات، بل إنه يشجع على اختراق القواعد المُقررة، وأن الحرية والرد على الفكر بالفكرالآخر هو السبيل الوحيد لمواجهة التطرف والخروج على صحيح العقائد..
بينما يتمسك الأزهر وعلماء الدين بموقفهم فى تلك المعارك رافضين التزحزح عنه باعتبار أن هذا الموقف يستند إلى إجماع فقهى بين العلماء الثقاة الذين بحكم تخصصهم لهم الحق فى تحديد ماهو جائز أو محرم شرعاً .
ومن جهة آخرى مازال الجدل المجتمعى حول أحقية السلطة الدينية فى منع تلك الأفلام والمعايير التى تستند إليها فى تقرير ذلك محتدما على أشده على مواقع التواصل الاجتماعى التى يرى روادها أن هذا يعد نوعا من الانغلاق والتناقض معتبرين أن منع تلك الأفلام الروائية يتناقض مع السماح بعرض الأفلام التى تتضمن ما يصفونه بالانفلات الأخلاقى والاجتماعى وتلك التى تهبط بالذوق العام وتتعارض مع تقاليد المجتمع وأعرافه، ملوحين بمشاهدة الأفلام الممنوعة مثل «نوح» عبر الانترنت.
من جهته اعتبر الناقد السينمائى طارق الشناوى فى تصريحات صحفية تعليقاً على موقف الأزهر من فيلم «نوح» إن الرقابة على المصنفات الفنية غير ملزمة بعرض الأفلام على الأزهر الشريف لأخذ الموافقة عليها قبل عرضها فى السينما، مشيراً إلى أن فيلم «آلام المسيح» تم عرضه من قبل ولم يبدِ الأزهر اعتراضاً، بينما كان يجسد السيد المسيح، وتضمن مشهداً صريحاً للصلب.
وأشار الناقد السينمائى إلى أن فيلم الرسالة ظل 30 عاماً، ومصر هى الدولة الوحيدة التى لا تعرضه بسبب موقف الأزهر، ثم تم عرضه على التليفزيون المصرى الرسمي، مضيفا «فكرة التحريم المطلق التى طبقها الأزهر أحياناً يتم العمل بها، وأحياناً لا، وإذا كانت القرارات مرتبطة بفترة زمنية فمن الأفضل أن يتنحى الأزهر جانبا».
ويرى د. صلاح قنصوة، رئيس لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة ضرورة عدم وجود أى رقابة أو وصاية دينية على الأعمال الإبداعية، مؤكداً أن الرقابة الوحيدة المسموح بها هى من الجهات المتخصصة فى مجالات الإبداع والثقافة احتراماً لذلك التخصص، معتبرا أن هذا الأمر ليس له أى دخل بالدين لأن الدين فى حد ذاته مسئولية فردية يحاسب الناس عليها فرادى أمام رب العالمين، مضيفاً «لا نريد كهنة ورجال دين يلعبون دور الرقيب والمهيمن كالعصور الوسطى وآن الآوان لنتخلى عن ذلك كمجتمع وعلى كل تخصص أن يحدد قيوده وسقف الحرية الخاص به».
واعتبر فى تصريح للأهرام أنه إذا وجد أى عمل إبداعى يتضمن أى شيء يفسد المجتمع فالمجتمع ومؤسساته فقط من لهم الحق فى النقاش حول ذلك كل وفق تخصصه وعلى كل مجال أن يضع معايير يلتزم بها العاملون به بعيداً عن سلطة الدين.
من جانبه قال د.عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إن هناك أدلة كثيرة لا حصر لها استند إليها العلماء والمجامع الفقهية قاطبة على تجريم وتحريم تمثيل الأنبياء والرسل وحظر التصريح بإعلان أى فيلم يتضمن ذلك وبالطبع تحريم مشاهدته، مؤكداً أن ذلك ليست له علاقة بمنهج مؤسسة دينية بعينها أو غيرها من المؤسسات لأن هذا رأى السلف والخلف من العلماء الثقاة.
وانتقد من يقول إن ذلك انغلاق فكرى أو تحجروثبات على رأى دون مبرر واصفاً المنتقدين بكونهم لينى العقيدة ولا يبالون من حياتهم إلا بإشباع شهواتهم المادية أو غير المادية، على حد تعبيره، لأن هناك ثوابت وقيما راسخة قد يكون مردها إلى تشريعات السماء أو أعراف المجتمعات الإنسانية يجب مراعاتها.
وشن إدريس هجوماً على من يتهمون المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر بفرض رقابة على الثقافة والإبداع بدعوى الحلال والحرام على عكس ما يرون هم، مضيفا «من يحدد الحلال والحرام هم المتخصصون فى الدين والفقه من العلماء الثقاة وليس أحد آخر, كما لا يصح لغير الطبيب أن يشخص مرضا ويصف له الدواء. وهذا لا يعد وصاية على الناس ودعاة هذا الاتجاه بغير تخصص يتخذون الدين مطية لكل راكب ومن المعروف أن الدين علم لا يتقنه إلا من تبحر فيه ودرسه.
كما أن الحرية فى كل المجتمعات الإنسانية ليست مطلقة كما يتخيل البعض كذباً وإنما هى مقيدة بضوابط دينية واجتماعية ويجب احترام تلك الضوابط حتى لا تتحول الحرية إلى انفلات أخلاقى يرفضه أى مجتمع متحضر أياً كانت عقيدته وانتماءاته الفكرية.