« مع النقد يتجدد
الوعد بالمستقبل» دريدا
كثيرة هي الكتابات والمقالات
والمطبوعات التي تغزو وجودنا اليومي، فالجميع يكتب ويحاضر ويخاطب في كل
شيء بدءاً من السياسة ومروراً بعلم النفس والاجتماع والاقتصاد والفلك
وانتهاءً بالأدب والنقد والفن والرقص والشعوذة والجنس والتنجيم وكرة القدم،
فثمة مهارة واقتدار لا يتردد البعض ولا يجد غضاضة أو صعوبة تذكر في الخوض
والسباحة فيه تحت أي ظرف .. بما فيها السباحة في اليابسة وتلك «سنة الحياة»
لدى البعض، فالمسألة لا تحتاج إلى بطولة من نوع ما، اتقان أو خبرة أو
معرفة - أو جهد ولو بالحد الأدنى ، فنحن في زمن الرجل السوبر مان ـ الذي
يقوم بكل الادوار والوظائف ـ صغيرها وكبيرها، فالسوبرمان ـ لا تتحقق وظيفته
وتكتمل إلا بشرط واحد بسيط هو التقمص والتمثيل والسماح للنقائض والتضاد
بالحلول والاقامة في شخصيته دون اكتراث، واللافت للنظر ان ثمة كتابات
وأوراقاً تطبع وكتباً وشهادات والقاباً تمنح باسم ـ النقد ـ وأكثرها في
بلادنا، تتعلق بالنقد الأدبي ، هذا الحقل الذي يمكن ممارسة الاشتغال عليه
براحة بال أكثر لمن يؤثرون السلامة غير ان المتابع لهذا الاشتغال لن يفوته
ملاحظة زمور تطفو على السطح، هذا الاشتغال وهو الغياب الطاغي للنقد رعم
الكثرة التي يومئ به المشتغلون عليه والكم الموجود على المساحة المنشورة
والمطبوعة فهو حضور في الكم وغياب في الكيف وهذا الكم ـ يتمظهر، إما
متملقاً للنص ومادحاً للكاتب واما ضائقاً وقادحاً للعمل الأدبي وصاحبه
ومسفهاً لهما وكلا الاتجاهين ـ إما واقعان تحت ضغط العلاقات الشخصية بالعمل
موضوع النقد وصاحبه أو مدفوعاً تحت حمى موقف فكري مسبق أو نظرة ايدلوجية
مغايرة، وقليلة هي الكتابات أو تكاد تكون نادرة التي تحاول الاقتراب من جسد
العمل الأدبي وتسعى إلى المحاورة القرائية والتداخل الحواري معه بغية
الاضاءة أو الكشف أو التفكيك.. إن الناقد في حالات عديدة اصبح كالجندي الذي
تتحدد وظيفة ذهابه إلى المعركة بخيارين لا ثالت لهما إما الانتقام ـ واما
للتسليم بوجاهة الآخر، وهذا لا يعني ان النقد يكتمل ويتحقق ضمن هذه
المقارنة.
لكن النقد سيظل موضع اتهام في الاسهام بحجم الدمار والذي يطال الأشياء من
حولنا .. لكون النقد القائم في المشهد الأدبي والثقافي أحياناً لم يعد لدى
بعض القائمين عليه سوى دور ووظيفة رمزية هو المصادقة على حالة واحدة في
مشهد متنوع يتم اختزال النقد والحاقه بدور شرطي الآداب والرقيب الفني ..
الذي يسمح بمرور كل شيء سوى النقد والاعتراض، النقد المنسي والمغيب لما
يعتور حياتنا من خراب وذائقتنا من التدمير .. وحريتنا من الأسئلة.. انه نقد
يغرق في تأمل رونق العبارة والانشاء .. ويحجب الوقائع والأشياء.
المصدر:
الثقافية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعتقلات.. الثقافية
سلطان عزعزي
« كل يقين هو سجن»
نيتشه
يحفل المشهد الثقافي بمناذج عدة للمثقف العربي، وتحولاته الدراماتيكية
وتقلباته السريعة في المواقف والمواقع، والأدوار بدون أدنى صعوبة أو جهد
يذكر، فهو يتمظهر تارة في صورة المثقف الداعية والمخلص، أو التأثر ومشعل
الحرائق وتارة اخرى في المثقف المثقل بالخيبة واليأس والهزيمة، والانتقام،
لكنه سيغدو في صوره المتعددة نموذجاًصارماً للامتلاء بالحقائق والمسلمات
واليقين، الذي لا يقبل النقاش والمراجعة، فهو مسكون بحقائق مقدسة تمت
المصادقة عليها وإلى الأبد، واللافت أن هذه النماذج كلها تغدو احياناً سيرة
لمثقف واحد، تتقاطع عليه ـ أدوار ومواقف متناقضة ومتنافرة حد الهوس ـ فهو
يأتي بصورة الثائر المتمرد الذي يحض على تغيير الوضع الفاسد في المجتمع في
مرحلة تاريخية معينة والمطالب بالحرية والعدل ـ معتقلاً تحت تصوراته طائفة
واسعة من الناس وجعلهم اسرى لمقولاته وشعاراته، ثم لا يلبث في مرحلة اخرى
أن يتحول إلى داعية متحمس يرى في الوضع القائم وضرورة الحفاظ على منجزاته
من أهم الأوليات الوطنية والضرورات التاريخية.
يذهب ـ لا ماريه ـ للقول «كلما زاد الإنسان ثقافة زاد تبريراً» إن ارتهان
المثقف إلى الحسم النهائي والتصنيف والحدية في اطروحاته وتنظيراته المختلفة
ـ والإعلاء من شأن ما يطرحه وتقديمه على طبق من المسلمات والحقائق الجاهزة
والأجوبة المغلقة، ادنى إلى خلق صورة كارثية ـ للمثقف ـ ودفع به إلى الدمج
والقبول في شراك المؤسسة، هذه المؤسسة التي تعيد إنتاج فكرة القبول بفكرة
الوهم بأنه الممسك بخفايا الأمور والعارف بحقائق التاريخ والمتكهن بآفاق
المستقبل، بين فترة واخرى وبحسب المقتضيات والحال، وهذا الترويج رسخ نظرة
اجتماعية ازاء المثقف وادواره للحفاظ على نسق لهذه الصورة يتم توظيفه بين
فترة واخرى.
اشكالية الصورة الدرامية للمثقف، أنها صارت الوجه الآخر للعملة الرديئة
لواقع التخلف والازدواجية والانفصام الذي يقيم في جسد الواقع الاجتماعي ـ
ليتمظهر جلياً في صورة انفصام كاركاتوريه للمثقف وشخصيته.
فلا غرابه أن نجد المثقف الثوري والمحرض والمنتقم بالأمس قد تحول إلى داعية
للتصالح والمهادنة والحفاظ على ماهو كائن، مع تقديرنا لبعض الاستثناءات
وإن ندرت.
المصدر :
الثقافية