الإلحاد القرآني من اليقين الجمعي إلى الشكّ الفردي
[size=40]16يناير 2016بقلم معـاذ بنـي عامـرقسم: الدراسات الدينيةحجم الخط
-18
+للنشر:[/size]
سأفتتحُ موضوعتي هذه بسؤال تأسيسي، ثم أبني عليه مجمل ما أنا بصدده: كيف لنصٍّ –النص القرآني- قرَّ في المخيال الإسلامي، على أنّه يدعو إلى وحدانية الله واعتباره الواحد الأحد، أن يحتمل نسقاً مغايراً لتلك الوثوقية الإيمانية؛ أعني نسقاً إلحادياً كما أشارت إليه العنونة أعلاه؟.
عليَّ أن أبني نسقيتي التي تُعزِّز فكرة الإلحاد القُرآني على قاعدة التوحيد الأساسية (= لا إله إلا الله) كما أقرّها علم الفقه الإسلامي تأسيساً على حديث (بني الإسلام على خمس...) ورد في صحيح بخاري/ باب الإيمان؛ وتمّ اعتمادها قنطرةً لاهوتيةً عبورها واجب بدئي، لمن أراد أن ينتقل من مرحلة عدم الإيمان أو الإشراك، إلى مرحلة التوحيد بالله كإله واحد لا شريك له؛ ومن ثم سأدخل إلى النص القرآني ذاته وأرى إلى أي مدى يسمح بالإلحاد ويعترف به جزءًا من الصيرورة الإنسانية وجدلياتها، حتى في علاقاتها الإيمانية.
وإن -بداية- قرّت قاعدة (لا إله إلا الله) باعتباره ركنًا أول من أركان الدين الإسلامي، إلا أنّي أعتبرها -وفقاً لمقتضيات ما أنا بصدده ههنا- تصلح بمثابة قاعدة أخيرة في اللاهوت الديني، نظراً لما تنطوي عليه هذه القاعدة من آلهةٍ تستوجب نسفاً معرفياً، لغاية الوصول إلى الله، إذا ما خَلُصَ الباحث عنه إلى أنّه إله يستحق أن يكون واحداً لا شريك له. وأن يبتدئ الإنسان إيمانياته بيقينيات دينية، شيء غير منسجم مع الصياغة اللغوية لـ (لا إله إلا الله)؛ فالله ذروة لاهوتية قصوى، سمتٌ عالٍ في المعمار الديني الفردي، نظراً للحِراك المعرفي الذي قد يستغرق عمر الإنسان لغاية تنقية لاهوتياته من الشوائب الإشراكية. ولا معنى لثبات (لا إله إلا الله) في المدونة الإسلامية، كشيء تسليمي تثبّت في الزمن الجمعي، أن يكون قاعدة فردية مطلقة تحكم العلاقة الروحية بين الله والإنسان، أي أنّ ما ثبتّه العقل الجمعي على أنّه قنطرة لاهوتية بدئية، وأقرّه بوصفه لحظةً مطلقة في الزمن التوحيدي، لا يمكن أن ينطبق على زمانية الفرد الباحث عن حقيقة الله اللاهوتية وحضوره في التجربة الفردية.
إنّ اللحظة الزمانية للفرد الواحد، تحديداً تِلْكُمُ اللحظة التي يولد فيها الفرد ولادةً واعية إلى لحظة موته المادي، هي لحظة غير ثابتة على المستوى اللاهوتي، فما ثَبُتَ وتثبَّتَ عند ذاتٍ ما لا يعني انطباقه على ذاتٍ أخرى بالضرورة، لما تنطوي عليه عمليات البحث المعرفي من (هدم/ بناء) غير مُتناهٍ، لا سيما فيما تعلّق بولادة الله في رَحم العقل الفردي، واليقين المتحصّل من هذه الولادة. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هنا: كيف لامرئ يبحث عن الحقيقة اللاهوتية أن يقرّ بالله إلهًا واحدًا لا شريك له إقراراً مبدئياً، دون أن يعرف التاريخ اللاهوتي والتمثّلات التاريخية لهذه الآلهة، لمجرد أنّ العقل الجمعي أقرَّ بهذه القاعدة كقاعدة أولى ينبغي على الجميع التسليم بها تسليماً نهائياً، تحت وطأة التكفير المبدئي، المفضي يقيناً إلى قتل أكيد؟.
بموجب ما ثبتّه العقل الديني الجمعي، تصبح (لا إله إلا الله) قاعدة للاستسلام، تستبطن إكراهاً لاهوتياً عنيفاً، يمارس نوعاً من الاستلاب على الخيار الفردي، إلى حد أنّ ذروة العطاء اللاهوتي الإنساني وما يمكن أن ينتج عنه من دهشة ناسوتية كبيرة، ستُلغَى بمجرد إخضاع الزمن اللاهوتي للفرد الواحد، للزمن اللاهوتي الجمعي، وختنه مرة واحدة وإلى الأبد، تحت وطأة بتر الأجساد. إذ إنّ الدهشة التي يمكن أن تنتج عن اكتشاف الله وحضوره في العالَم من قبل عقل فردي، معطلّة سلفاً ولا معنى لها على المستويين المعرفي والجمالي، فالله –والحالة هذه- سياق سيكولوجي انفعالي، وليس سياقًا أنطولوجيًّا فاعلاً.
إذاً، ثمة صدام بين لحظتين زمانيتين، الأولى جمعية تفترض قبولاً استسلامياً بقاعدة (لا إله إلا الله)، وتعتبر أنّ ما قرَّ في زمن قديم هو بمثابة دفق سرمدي يستوجب طاعة عمياء، دونما إعمال للعقل في هذه القاعدة، لغاية إكمال البناء المعماري الديني. والثانية فردية تجنح ناحية التحقّق في زمانيتها المعرفية، والمكابدة الذاتية في تهديم منظومة الآلهة التي تنطوي عليها (لا إله إلا الله)، لغاية التأكّد من أحقية الله بالأحادية والتفرّد. وعادة ما يصل الصِدام بين اللحظتين إلى مرحلة فصل الرؤوس عن الأجساد، لا سيما ساعة تتعارض اللحظة الزمانية الفردية القائمة على البحث والتمحيص، مع اللحظة الزمانية الجمعية القائمة على التسليم والاستسلام.
وإذا كان لقاعدة التوحيد الأولى (= لا إله إلا الله) أن تتأتّى باعتبارها ركنًا أول من أركان الإسلام، فإنّ النص القرآني يفترض بها أن تكون قاعدة أخيرة في العلاقة بين الله والإنسان، ولكن علينا أن ننتبه إلى قضية جدّ هامة فيما يتعلق بأركان الإسلام، ألا وهي أنّ تمظهراتها في المخيال الإسلامي وتداعيات ذلك على مدار ألف ونيف من السنين، اقترنت –بموجب علم الفقه الإسلامي- بثقافة الحلال والحرام. أعني أنّ أركان الإسلام أخذت كقضية تسليمية لا كقضيةٍ تمحيصية، فأركان الإسلام بموجب العقل الفقهي ليست مجال جدل ونقاش واحتدام بين اللاهوت الديني وناسوت العقل؛ بل تستوجب إيماناً قاطعاً دفعة واحدة من اللحظة الأولى، وإلا وجب العقاب الشديد في الحياتين الدنيوية والأخروية. لذا لا مجال لوضع الركن الأول من أركان الإسلام على طاولة البحث العقلي، والانتقال به إلى آخر المراحل الإيمانية، من خلال الاشتغال على منظومة الآلهة وسبر الإمكانات التي تنطوي عليها، وصولاً إلى مرحلة خلو اللاهوت إلا من إله واحد، ألا وهو الله.
هذا شيء كارثي بموجب العقل الفقهي، واجتراءٌ على الله، لأنّ اللحظة الأولى التي سُكّت فيها مصكوكة (لا إله إلا الله) هي لحظة مفارقة للزمن، بصفتها لحظة دافقة من أعلى علّيين، وما على الإنسان إلا تقبّل هذا الدفق بوصفه شيئًا ثابتًا غير قابل لأيّ زحزحة أنطولوجية على المستوى الإبيمستولوجي.
إنَّ الختان اللاهوتي الذي يتعرّض له الإنسان المسلم لحظة ولادته الطبيعية، وذلك بإقحام قاعدة (لا إله إلا الله) على منظومة التلّقي الديني عنده، إقحاماً إكراهياً يقوم على التسليم للجماعة وشرطها الاستسلامي، يُبطل الفاعلية التواصلية بينه وبين الله، ويحدث شرخاً في العلاقة الروحية بينهما، نظراً لانطواء هذا الختان على بتر لفاعليات العقل البشري وقدرته على الوصول إلى الله عبر عمليات أيض معرفي قد تستغرق عمراً بأكمله.
لكنّ حادثة قرآنية ستنسف ما أقرّه العقل الفقهي في الركن الأول من أركان الإسلام، وستجعل من قاعدة (لا إله إلا الله) قمة الهرم اللاهوتي لا قاعدته التأسيسية؛ فذروة النشاط الديني بالنسبة إلى الإنسان –بموجب حادثة النبي إبراهيم كما وردت في النص القرآني- هو إلحاد مبدئي وشكّ بوجود الله أصلاً، لغاية الوصول إليه عبر إحداث إزاحة معرفية كبرى في مسارات الإنسان الدينية، فالإنسان سَيُقرّ بأحادية الله في النهاية لا في البداية؛ تحديداً في لحظة ولادته الواعية بعد أن يخوض تجربة الهدم والبناء اللاهوتيين، لا في لحظة ميلاده المادي، لمجرد أنّه ولد لأبوين مسلمين. فالنص القرآني الذي قرَّ كنصٍ يُسلّم تسليماً كلياً بوحدانية الله وفردانيته وفرادته الأنطولوجية، بصفته الفاعل الأول والأخير لهذا الوجود، هو ذاته الذي يحضّ على أشكلة العلاقة اللاهوتية بينه وبين الإنسان، عبر إعمال العقل في المعطيات الوجودية، لا سيما تلك المتعلقة بوجود الله وفرادته على بقية الآلهة، ونقلها من طور الاستسلام اليقيني إلى طور الجدل الذاتي، منتصراً بذلك للحظة الزمانية الفردية بصفتها لحظة الفعل العقلي وجودياً، على حساب اللحظة الزمانية الجمعية بصفتها لحظة مفارقة للشرط الإنساني ومؤطرة لجدلياته في يقينيات قَبْلية.
وقد كان لآية قرآنية: {إِنَّ إبراهيم كان أُمَّةً} (النحل/ 120) أن تحرّر قاعدة (لا إله إلا الله) من إسار اليقينيات المبدئية القائمة على تمثلاتها من حيث هي مقولة سرمدية إلى أفق البحث الذاتي الذي يطال كل ذات تروم بحثاً عن الله، لناحية أنّ إبراهيم يحتمل شرطاً إمكانياً على المستوى الزماني ليصير أي ذات باحثة عن الحقيقة الإلهية. فاللحظة الزمانية التي تمثّلها إبراهيم ليست حصراً بإبراهيم على نحو مخصوص، بقدر ما هي لحظة عابرة للذوات الباحثة عن الله، فأي لحظة تحتمل جدلاً بين الذات وحقيقة هذا الوجود والسبب الذي انبنى عليه هذا المعمار الكبير، هي لحظة إبراهيمية بامتياز، فإبراهيم الـ (أمّة) هو نُتَفٌ، شظايا، ذوات لا حصر لها، أمكن تجميعها في بنية واحدة تجنح ناحية التحقّق في علاقة جدلية مع الله. لكنّ إقرار إبراهيم بالله –نهاية جدله اللاهوتي- إلهًا واحدًا لا شريك له، لا يعني إخضاع الذوات الأخرى لتلْكُم النتيجة بحدّ ذاتها، فهي نتيجة خاصة بإبراهيم تحديداً، لكنّ إمكانها الزماني عابر للذوات، مع ما تحتمله التجارب الأخرى من مفارقات، تبعاً للقدرة المعرفية والقدرة على تمثّل التجربة وإرهاصاتها المتتابعة، فالأجساد والعقول استطاعات تبعاً لاختلاف الذوات الحاملة لها.
إذا كان لآية {إِنَّ إبراهيم كانَ أُمَّةً} آنفة الذكر، أن تؤسّس للحظة زمانية ذاتوية –إبراهيم العابر للأزمان- على حساب يقين جمعي يدفق من أعالي السماء، فإنّ آيتي {فَنَظَرَ نَظْرَةً في النجوم (88) فَقَالَ إِنِّي سقيم (89)} (سورة الصافات)، ستحفران عميقاً لبدايات التجربة الإلحادية التي تمثّلها إبراهيم.
هنا تبدأ اليراعة بالشقشقة خارج إطار الصدفة اليقينية، عبر التطلّع إلى السماوات وإعمال البصر في موجودات الكون، والبصيرة في ما وراء هذه الموجودات. إنّها صرخة مدوّية تنطلق من الذات وترتطم بجدران الكون وتحدث ثقباً في بنيته العتيدة، بصفتها قلقة –أي الذات الباحثة عن الحقيقة اللاهوتية- قلقاً وجودياً من شأنه زعزعة يقينياتها، وبثّ الرعب بين جنبيها. فالذات الإبراهيمية الكلية كما تجلّت في آيتي {فَنَظَر نَظْرةً في النجوم (88) فَقَالَ إنّي سقيم (89)} (سورة الصافات)، سيفتّتها النص القرآني إلى أجزاء وشظايا في آية: {إِنَّ إبراهيم كانَ أُمَّةً}؛ فإبراهيم إذ يصرخ صرخته اللاهوتية العظيمة: {إنِّي سقيم}، فإنّه يُنيب إنابة ضمنية عن ذواتٍ إنسانية لا حصر لها، ينبغي عليها –هذه الصيغة لا تحتمل إكراهاً لاهوتياً لأنّ بعضهم غير معني بالشأن الديني أساساً، بقدر ما تحتمل إضماراً تشاركياً- هي الأخرى أن تستلهم هذا الدور الكبير، وتسلك مسلكه بصفته اجتراحاً ذاتوياً يطبع العلاقة بين الله والإنسان، بطابع الحرية الفردية لا بطابع التسليمات والاستسلامات الجمعية.
وليس معنى خوض التجربة أن يصل المرء إلى ما وصل إليه إبراهيم، الأهم أن يفعّل سياقات البحث، لكي تكون التجربة الدينية بين الإنسان والإله تجربة فردية، تتعدّد على عدد الكائنات البشرية، بحيث تختلف كل تجربة عن الأخرى، ما يمنحها خصوصية فريدة.
إذاً، نحنُ أمام سياق قرآني يدفع باتجاه تعزيز النهج الفردي فيما يتعلق بالعلاقة بين الله والإنسان، لكي لا تتحوّل العلاقة بينهما إلى علاقة عبودية استسلامية، بل إلى علاقة تستند إلى الحرية والقدرة على الاختيار.
للتقدّم خطوة ناحية الأمام، وبلورة السياق الإلحادي كما تجلّى في النص القرآني، سأستحضر الآيات (76 – 78) التي وردت في سورة الأنعام، وأربطها مع الآيتين 88 و89 الواردتين في سورة الصافات.
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيم مَلَكُوتَ السَّمَاوات وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنين (75) فَلَمَّا جَنَّ عّليْهِ اللَّيلُ رَأى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلين (76) فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغَاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّين (77) فَلَمَّا رأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر فَلمَّا أَفلتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونْ (78)}. (سورة الأنعام)
{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم (88) فَقَالَ إِنِّي سقيم (89)} (سورة الصافات)
في سورة الصافات ستأخذ الصرخة الإبراهيمية طابعاً روحياً بالمعنى الديني أو بُعداً باطنياً بالتعبير الصوفي، وفي سورة الأنعام ستأخذ طابعاً عقليّاً ينحى منحى التطبيق العملي. فالقلق الروحي تموقع عقلياً في ذهن إبراهيم، وامتدّ إلى العالَم، بحثاً عمّا يُطمئن هذا القلق الكبير. وقد كان لتموضعات هذا القلق أن تنحو منحى مظلماً في البداية، لناحية موافقة الظلام اللاهوتي الذي يستشعره إبراهيم مع أولى خطواته العملية في حل هذا اللغز الاستشكالي، فالظلام الداخلي اقترن بظلام خارجي، لذا كان الليل أولى علامات هذا التجلّي، فالبداية كانت بكوكب تمظهر له ليلاً حيث خشوع الكائنات وركونها إلى النوم والسكون، وشقشقته بالتالي على ظلامه وإنارته لجزءٍ من عتمته اللاهوتية. ومع نور هذا الكوكب كان المدماك الأول في المعمار الناسوتي الإبراهيمي قد بدأ بالتهدّم، فذاك النور الخفيف انداح من أعالي السماء إلى الداخل وهناك أعمل معوله النوراني في العتمة الداخلية الصلدة، فبدأ إسمنتها بالتآكل شيئاً فشيئاً.
الخطوة الثانية كانت مع القمر، والقمر أشد سطوعاً من الكوكب، بما يعني أنّ جهاز العتمة الداخلية في طريقه إلى إنارة أكثر على المستوى اللاهوتي. فالتطبيقات الخارجية للقلق الداخلي بدأت تؤتي أكلها، وذاك الشكّ المتعاظم في الداخل بدأ يلتحم بوشيجة تضامنية مع موجودات هذا العالم، مما خلق نوعاً من التضامن بين الذات من الداخل والعالم من الخارج، سعياً وراء تجلية لاهوتية تضغط على الذات العاقلة، بإزاء علاقتها بمن هو وراء هذا العالم كاملاً.
الخطوة الثالثة كانت في هاجرة النهار والشمس مشرقة، لذا شقشق النور الإبراهيمي وبدأ يغرّد في وضح النهار. فما كان مظلماً في الروح استنار بالشكّ العقلي الذي انسحب مداه إلى موجودات العالم الظاهرة.
الخطوة الرابعة كانت قد ابتدأت من الخطوة الأولى، لناحية عدم انسجام الشكّ الإبراهيمي مع موجودات هذا العالم، فهي أقل شأناً من أن تردم هوته اللاهوتية العميقة، فصرخته المدوية ارتطمت بموجودات هذا العالَم وأحدثت خرقاً هائلاً في معمارها لذا شعر بعدم جدواها. إنّه يروم كائناً غير مُتناهٍ يستطيع احتواء دفقات خافيته اللامتناهية، لذا أتت الدفقة الأخيرة خارج سياقات العالم المرئي، بحسب النص القرآني: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ حَنِيفَا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكين} (الأنعام 79)
وهكذا، ثمة سياق قرآني يعمل على 1- نسف الركن الأول من أركان الإسلام كما أقره العقل الفقهي، وينقله من إسار التسليم الجمعي إلى أفق البحث الذاتي. و2- تأكيد الدور الإلحادي في كتاب لطالما روّج على أنّه كتاب لا يحتملُ أيّ زحزحة إبيمستولوجية، فيما يتعلق بالعلاقة الأنطولوجية بين الله والإنسان؛ فما قرَّ كقاعدة بدئية في المخيال الإسلامي، هو –بموجب هذه الورقة- ذروة لاهوتية، قمة معمار ديني يمكن أن يستغرق المرء عُمراً في بنائه، لا سيما بعد تأكيد ولادته الواعية وإعمال شرطه المعرفي في حقيقته الوجودية على المستوى اللاهوتي، بعيداً عن أيّ إكراهات جمعية يمكن أن تسلبه حقّه في تقرير مصيره الديني.
خلاصة القول؛ أقرب الطرق وصولاً إلى الله، الإلحاد الفردي؛ وأبعد الطرق وصولاً إلى الله، اليقين الجمعي.