في كل الشعوب توجد (قيادات) عابرة لا يترك رحيلها أثرا ، لا على واقع حياة الشعب ولا في الذاكرة الوطنية ، وإن تركوا أثرا فذكريات مريرة عن ما الحقوه بشعوبهم من خراب ودمار ، إنهم الذين صَيرتهم الصدفة أو أطراف خارجية إلى مواقع القيادة والحكم . وفي المقابل هناك قيادات تصنع تاريخا لنفسها ولشعبها ، لذا تبقى في الذاكرة الوطنية ومن حق الشعب أن يُخلِد ذكراها ويجعل منها قدوة للأجيال ، ليس من خلال استنساخ الشخصية بل استلهام التجربة .
هذا ينطبق على شعبنا الفلسطيني الذي أنجب وصنع خلال تاريخ نضاله الوطني قادة عظام : الحاج أمين الحسيني ، عبد القادر الحسيني ، احمد الشقيري ، ياسر عرفات ، جورج حبش وآخرون ، صحيح أنهم لم يحرروا الوطن ولكنهم انتشلوا الشعب من حالة التيه والضياع ووضعوه على طريق الحرية والاستقلال ، أما الذين صَيرتهم الصدفة أو التوازنات والحسابات الخارجية في موقع القيادة اليوم فإنهم يبددون ما أنجزه الشعب تحت قيادة الأولين ، حيث يقبلون ما رفضه الأولون حتى وإن كانت سلطة وحكومة هزيلة على بقايا أشلاء وطن .
نعم ، إن الشعوب تصنع تاريخها بنضالها وبريادة قيادات وطنية ، وفي تاريخنا الفلسطيني ، سواء الحضاري الممتد طوال أكثر من أربعة آلاف عام أو السياسي الحديث الممتد لأكثر من مائة عام ، محطات مُشَرِفة كثيرة ، علينا أن نفتخر بها ونبني عليها ، ليس أقلها الحفاظ على الثقافة والهوية الوطنية واستمرار قضيتنا الوطنية حاضرة في الضمير والوجدان العربي والعالمي . صحيح ، الفلسطينيون لم يحرروا وطنهم بعد ، ولم يهزموا إسرائيل عسكريا ، ولكن في المقابل لم يستسلموا أو يتخلوا عن حقوقهم التاريخية ، وصمودهم يعني فشل إسرائيل في تحقيق مشروعها الصهيوني حتى الآن . هذا التاريخ وهذه الإنجازات صنعها الشعب تحت قيادة قادة عظام ما زال الشعب يخلد ذكراهم بعد رحيلهم .
نعم ، لو بحثنا عن سر صمود الشعب الفلسطيني لوجدنا وراء ذلك – بالإضافة لعظمة الشعب وشرعية حقوقه الوطنية وصبره وقوة تحمله - تكمن حركات وقيادات سياسية وطنية المنشأ والمنطلق والأهداف ، كانت قريبة من نبض الشعب ومتفاعلة مع معاناته ومستعدة لقيادته في معركة التحرير . هؤلاء القادة لم يكونوا ملائكة ، ولم يكونوا منزهين عن الخطأ ، إلا أنهم لم يفكروا بسلطة أو جاه ، ولم يساوموا على استقلالية القرار الوطني ، أو يلتحقوا ويُلحقوا معهم القضية بهذا المحور أو ذاك ، أو هذه الأيديولوجيا أو تلك ، بل وظفوا كل المحاور والأيديولوجيات لخدمة المشروع الوطني التحرري . قادة رفعوا شعار (فلسطين أولا) ، شعار جسدوه بالبندقية وبالاشتباك المباشر مع الكيان الصهيوني وبثقافة وهوية وطنية صهرت الكل الفلسطيني في بوتقتها بالرغم من الشتات والغربة .
لم تكن عظمة القادة الأوائل للمشروع الوطني الفلسطيني تكمن في قوة حسهم وانتمائهم الوطني فقط ، بل أيضا في قوة بصيرتهم وتلمسهم أن القيادة ليست موقع فخري يُدِر المال والحياة المرفهة ، فحياتهم اتسمت بالزهد والتقشف ، بل القيادة مسؤولية جماعية ، ومن هنا كانوا قادة عظام أوجدوا إلى جانبهم قادة كبار ليقودوا معهم قاطرة التحرير ، وهذا للأسف ما يفتقده النظام السياسي الفلسطيني اليوم ، حيث يقوده غالبا قادة صغار يصنعون ويحيطون أنفسهم بقادة اصغر منهم شأنا ورؤية ، هم أقرب إلى الأتباع والمريدين منهم إلى القادة . هذه (القيادات) ومهما كثر عددها وتعاظم مالها المشبوه لا تنشئ مؤسسة قيادة بل تؤسس علاقة خضوع وتبعية كتلك التي تنشأ بين الشيخ ومريديه ، الشيخ يستمر متسيدا على مريديه ، وهؤلاء يسترون عيوبه وأخطائه دون أن يجرؤوا على نقده أو مناقشة نهجه .
الشعب الفلسطيني يعاني اليوم من أوضاع صعبة على كافة المستويات وهناك انغلاق للأفق السياسي ، فهل إسرائيل وحدها مَن يتحمل المسؤولية ؟ . لا شك أن قادة إسرائيل مسؤولون مسؤولية كبرى عن الوضع المأزم للقضية الفلسطينية . لكن لمعادلة الصراع طرفين ، أحدهما إسرائيل وقادتها ، والثاني النخبة السياسية الفلسطينية التي تقود الشعب ، سواء في مسار المفاوضات والتسوية أو في مسار المقاومة المسلحة. فكيف نتحدث عن فشل نهج التسوية والمفاوضات ولا نتحدث عن فشل أصحاب هذا النهج من النخبة السياسية الفلسطينية ؟ ! ، وكيف نتحدث عن فشل نهج المقاومة المسلحة ولا نتحدث عن فشل أصحاب هذا النهج من نخب وحركات سياسية ؟ والفشل في جميع الحالات يتطلب المحاسبة ، أو على الأقل ممارسة النقد الذاتي والمراجعة الاستراتيجية ، وهذا للأسف لم يحدث ، حيث تستمر نفس القيادات المأزومة والفاشلة على رأس النظام السياسي ، بل لا تخجل هذه القيادات من الحديث عن الانتصارات ! .
هذا التحول في النخبة السياسية وفي القيادة يَصلح كأساس لتفسير الخلل في النظام السياسي الفلسطيني ، وفي تفسير الاهتمام الكبير للشعب الفلسطيني بإحياء ذكرى رحيل قادته الكبار ، فاستحضار ذكراهم وإن كان يعبر عن حب وتقدير لأشخاص هؤلاء القادة إلا أنه في نفس الوقت يعبر عن حنين لمرحلة ولنهج في العمل الوطني نفتقده اليوم ، حنين لزمن كان يحكم فيه قادة كبار لم يسمحوا للخلافات الأيديولوجية ولا لأصحاب الأجندة الخارجية ولا للمال السياسي ، أن يكون سببا في الاقتتال الداخلي وفي الانقسام وتدمير المشروع الوطني ، زمن كان القادة الكبار يختلفون ويتنافسون ولكن على قاعدة المصلحة الوطنية ، ولم تكن خلافاتهم تصل إلى درجة تكفير أو تخوين بعضهم البعض .