** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

  الظلال المديدة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هذا الكتاب
فريق العمـــــل *****
هذا الكتاب


عدد الرسائل : 1296

الموقع : لب الكلمة
تاريخ التسجيل : 16/06/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

 الظلال المديدة Empty
25072015
مُساهمة الظلال المديدة

الظلال المديدة
نشرت بواسطة: جمال محجوب 2015/02/26
 الظلال المديدة %D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%85%D8%AD%D8%AC%D9%88%D8%A8-300x180
source: www.theguardian.com
غالباً في الأمسيات، وعند هبوط الظلام، أتجه إلى حيث تنتهي البيوت ويبتدئ الفراغ. طالما فكرت في الأمر كما لو أن هناك خطاً فاصلاً، رغم أنه ما من حدود أو سياج يمكن الإشارة إليه، لا توجد محطة للجمارك أو تلك الأسلاك الشائكة المؤذية، ولكن يظل ذلك الشعور موجوداً، خط لا يمكنك رؤيته أو لمسه، ولكنه هناك دائماً. وهناك كانوا يبنون البرج.
فيما يمضي اليوم إلى نهايته، والشمس في سبيلها إلى السقوط في حضن الأرض، تتطاول الظلال وتغدو متموجة وهي تتمدد كأصابع رقيقة صوب الأفق، يبدو الزمن منساباً خارج تلك الظلال المديدة، العالم تعود إليه الحياة كما لو بفعل السحر. أذكر الأمسيات التي من هذا القبيل منذ كنت طفلاً، باختصار هي تملأني بالأمل، الضوء رقيق ودافئ والسماء عميقة وكثيفة.
بعيداً هناك يلوح البرج.
بناء غير عادي، عتيق وحديث في الوقت ذاته. التصميم الذي ينفذونه والمواد التي يستخدمونها يقال إنها من بين أكثر الأنواع تقدماً في العالم. أغلب الناس كانوا يضحكون عند سماع هذا الكلام. هذا جديد بالنسبة لنا، ما كنا معتادين على الوصول إلى هذا المستوى في هذا المكان، وما يحيط به. كنا في اتنظار تفسير لتلك المزحة على الرغم من أنه كان بمقدورنا ملاحظة أن واقع الحال كان ينطوي على شيء من الحقيقة، يقولون لنا إن البرج يرمز إلى تغيير سيطرأ على حظوظنا جميعاً.
في البرج شيء ما يجعله يبدو وكأنه لا ينتمي إلى هذا العالم، ربما تناقضه مع القحل الذي يحيط به. وقوفه هناك وسط الفراغ يجعله يبدو كما لو كان خارج المكان، حقيقة متنافرة مع ما يحيط بها ترتفع على الأرض هكذا. عندما تنعكس الشمس على السطح الأملس فإنه يكتسب لمعة الزجاج الأسود، في الحقيقة يصعب على المرء تحديد أي لون هو هذا ومم صُنع. من على البعد يظهر كما لو أنه ريشة مصنوعة من الماء تشرئب عالياً في الهواء، لا توجد بيوت حوله وما من طرقات، لا شيء هناك غير الرمال، رمال وحجارة صغيرة قيل لي إنها بقايا حطام جبال قديمة ارتفعت هنا وتداعت هنا قبل ملايين السنين، مع ذلك الأرض منبسطة ومكشوفة تماماً، يبدو أنه كانت هناك خطة لإنشاء طريق يؤدي إليه، ولكن الظاهر أن أصحابها تخلوا عنها.
عندما تطيل النظر إليه يبدو لك قواماً باعثاً على الفضول، لم يكن مستقيماً تماماً، فهو يتقوس في أسفله نحو الداخل على نحو شاذ، في علوه عن الأرض الذي يقارب مائة وخمسين متراً ارتفاعاًً؛ تضيق قمته وتستدق. باختصار يشبه معلماً طبيعياً شكلته الرياح والأمطار أكثر منه بناءً من صنع البشر. فيه لمحة من البدائية، وحتى لمحة داعرة تجعلك تتساءل ما إذا كان أثراً خلفته حضارة منسية، أو جزءاً من ذاكرتنا الجمعية ضاع منا، ولكنه حديث تماماً، في الحقيقة لم يكتمل حتى الآن. على الجانب هناك فتحات تؤدي إلى الهيكل المسلح، هذه الفتحات مستطيلة ولكنها أيضاً غير منتظمة، لا يبدو أنها تتبع نسقاً منتظماً، أحياناً تتخذ شكل إل (L) وأحياناً شكل المستطيل، بعضها عمودي والآخر أفقي، إذا بدأت النظر إليها مطولاً سيخالجك الشعور أنك تتأمل نموذجاً معقداً، لكن يبدو أن المقصود بها هو إثارة حيرة من يتأملها. الصدوع الداكنة تظهر كما لو كانت خربشات، حفراً أو منظومة حروفية للغة غريبة، لغة ما عاد أحد يتحدثها، تذكرني بقطعة صلصال كنت رأيتها بأحد المتاحف ذات مرة، كانت لوحاً مقدساً محفورة عليه كلمات مضت عليها آلاف السنوات لأناس قطنوا هذه البقاع، كان ذلك كل ما بقي منهم ولغتهم باتت مجموعة من القطع التي يغطيها الغبار قابعة في ركن المتحف، الناس يأخذون أسرهم إلى هناك عندما لا يجدون شيئاً آخر يفعلونه في الإجازات.
قد يتوقفون للحظة ومن ثم لا يجدون في الأمر ما يعنيهم، فينصرفون. آلاف السنوات، آلاف الحيوات قُذفت هكذا عرضاً في بئر النسيان، عندما أكون هناك أتذكر بعض الأشياء، وبعيداً عن هناك لا يكون لدي وقت للتفكير بالماضي. هناك الكثير من الأشياء التي يجب وضعها في الاعتبار: محاصيل بحاجة إلى الاعتناء، بهائم يجب إطعامها، وعنزات ينبغي حلبها. أسكن في طرف المدينة وذلك الطرف يبدو بعيداً جداً وكأنه بلد آخر، تغيرت الظروف والأحوال، لم تعد لدي طموحات كما كان في السابق، ليس لدى أحدنا أي منها، في زمن ما، كان لدي أمل، في زمن ما أردنا أن نجعل من العالم مكاناً أفضل.
افترضت أن البرج يمكن أن يكون نصباً من نوع ما، ولكن إن كان الأمر كذلك، فلأجل ماذا وعلى شرف من تم إنشاؤه؟ إن لم يكن مكرساً للآلهة والإلهات القدماء الذين يتم تحطيم نصبهم في أيامنا هذه، إذن فلأجل من ولماذا هو منتصب هكذا؟ ولماذا من بين جميع الأمكنة ينتصب هنا، حيث لا يراه إلا قلة من الناس؟ أغلب الأنصبة التي يبنونها هذه الأيام ما هي إلا خردوات خرقاء، تعاريج بشعة مصنوعة من الرخام والفولاذ، عادة ما يكون الهدف منها عسكرياً، ينصبونها لدى تقاطعات الطرق في وسط المدينة، تتسابق حولها البصات بوحشية، وغالباً ما تفقد اتزانها وتنقلب ساحقة قاطنيها، ليس في أي منها هذه النفحة العابرة للزمن التي لهذا التصميم الجديد.
كما يعلم الجميع، فإن طرح الأسئلة هو أفضل طريقة لجلب المشاكل، ولكنني ما كنت أستطيع منع نفسي من التساؤل، لماذا يبدو البرج مهجوراً؟ هناك شائعات وأقاويل تفيد بأن خطأً قاتلاً قد تم التغاضي عنه، عيب في المخططات سيحول البناء إلى شرك للموت إذا ما اكتمل بناؤه يوماً، الأسباب قد تكون مالية أو سياسية ولكن من الواضح أننا سوف لن نطلع على حقيقة الأمر أبداً. ولإنقاذ الحكومة من الظهور بمظهر هش ومتراخ، قرر الوزير افتتاح المبنى الممسوخ وغير المكتمل كيفما اتفق، جاء في سرب طويل من السيارات والدراجات النارية، تتلامع سريناته، ومصحوباً بفريق عمله الذي كان أفراده يصفقون ويغنون ويلوحون بسعف النخيل في الهواء في حبور.
تم اقتياد عجل حزين إلى البرج، وشعت سكين الجزار تحت ضوء الشمس، وانثال الدم على الرمال. عندما حاول الوزير أن يخطو فوق الحيوان الميت، انزلق وسقط على ظهره في بركة دبقة، وسرعان ما تم حشره في السيارة بوساطة حراسه راحلاً ومخلفاً أثراً دامياً لأقدام وقفت فجأة هناك بلا تفسير. غاب الوزير كما لو أنه تلاشى في الهواء.
وهكذا بقي البرج غير مأهول ولا يعرف أحد جدوى وجوده. لمدة من الزمن كان الساسة والناطقون باسم الحكومة يذكرونه في خطبهم باعتباره رمزاً لازدهار جديد ستشهده بلادنا، تجسيداً حياً لاحتياطي النفط الذي سيتدفق من أرضنا أرض الفخار، وسيبلغ بنا مرحلة من الثراء ما كنا نحلم بها. الآن تهب رياح جافة عبر النوافذ والأبواب المفتوحة، ولا أحد لمح علامة من علامات الثروة رغم ما يقال عن أن الأنابيب تنساب بالنفط وأن هناك أجزاءً بعينها من المدينة انتعشت بالحدائق المترفة والأشجار الوريفة وبالتدفق البهيج للمياه الفاترة من نوافير الرخام. قصور منيفة نبتت على طول شط النهر، والقاطنون فيها لا هم ملوك ولا هم آلهة، لا أحد يمكن أن يجزم بهوية من يسكنون هناك. إذا كان بإمكانك الاستماع إلى ما تردده محطة إذاعة أجنبية، فربما سمعت شيئاً عن الطفرة، ولكن لا زلنا في انتظار الوقوف على علامة من علاماتها، هذه الأيام تصديق الإشاعات أسهل من الكلام الفارغ الذي يبثونه عبر المذياع، طيلة اليوم يحاولون اجتذاب الناس ببث موسيقى واحدة لا تتغير، هناك تلفاز في ذلك الدكان القابع بأحد الأركان، حيث يتجمع الناس في الأمسيات، ولكنها القصة ذاتها، كانوا يعرضون أناساً يعيشون في بقاع نائية أجنبية ويسهبون في شرح كيف أن هؤلاء القوم يعانون من شظف العيش، وكم هم أشقياء بحياتهم تلك، إنهم يعيشون في ظل الخوف من الجرائم العنيفة، وهم يعانون من أمراض تشل البدن تسبب فيها الترف والشبع والارتواء الذي يفيض عن الحاجة، بالنسبة لنا، كانوا قوماً ممتلئي الأبدان وشبعانين، منازلهم رائعة وكل شخص منهم يمتلك سيارة واحدة على أقل تقدير، مع ذلك مطلوب منا أن نصدق أن حياتهم يفتك بها الفراغ، ليس لدينا ما نشكو منه، المرأة التي يطل وجهها من الشاشة كانت تخبرننا بذلك وهي باسمة، حياتنا أفضل كثيراً، بعض الحمقى كانوا يوافقون على كلامها، لكن البقية الباقية كانوا يقبعون في الظلام وهم يهمهمون باللعنات. في عرض الأخبار ظهر الرئيس وهو يفتتح سداً جديداً ومحطة جديدة للطاقة ومطاراً جديداً، ولكن تلك المواقع كلها بعيدة من هنا، من الصعب أن يخرج أحدنا ليتأكد من أن محطة الطاقة الجديدة هي في المكان الذي أخبرونا به، المضي نحو البرج كان سهلاً في الماضي ولكنه ما عاد كذلك، الآن يتعين عليك أن تتلمس طريقك صوبه وسط فوضى القطاطي والرواكيب الرثة التي يسهل فكها وتركيبها، التي نبتت هناك، مدٌّ من الشظايا البشرية انساب عبر النهر وتمترس ها هنا صلباً مثله مثل أي سد، بارجة مصنوعة من صناديق الكرتون المضغوط والقنا والبروش والصفيح وسعف النخيل تتمدد الآن صوب اللامتناهي، هذا كله يحيط به حقل ألغام من البراز لأن هؤلاء القوم الذين جاءوا وأقاموا كالغربان في ذلك الوادي كانوا بحاجة إلى قضاء الحاجة، لذا فأنت لست مطالباً بحبس أنفاسك فقط، بل أيضاً عليك أن تتوخى أقصى الحذر وأنت تخطو بقدمك هناك. جيراننا الجدد غير مرحب بهم، غالباً ما يتسكع أطفالهم حول منازلنا متظاهرين أنهم تاهوا وضلوا طريقهم، ما لديهم أقل مما لدينا ولكن قليلنا يصعب تقاسمه مع أي كان.
قبل زمن طويل كنت ضمن فرقة عازفاً للجيتار، لفترة وجيزة من الزمن كان هناك طلب وإقبال كبير على فرقتنا، كنا نعزف في حفلات الزفاف حتى تم منع الموسيقى، ومغني الفرقة طُعن في حلقه بوساطة رجل مختل كان في الواقع طالباً من أولئك الذين يتم إعدادهم ليكونوا من رجال الدين، اختفى ذلك الطالب لبعض الوقت ثم ما لبث أن ظهر في مدينة مجاورة وتم تعيينه في جامعة جديدة وأصبح رئيساً لشعبة الشريعة بالجامعة. لديّ صورة فوتوغرافية من تلك الأيام كان قد التقطها سامي، وأظهرُ فيها جالساً على مقعد حاملاً الجيتار، إذا ما دققت النظر فيمكنك أن تلمح ومضة غريبة تطلّ من عينيّ، كنت حالماً تلك الأيام، كنا جميعاً كذلك، كنت أريد أن أصبح مثل ديجانقو، لدي شريط له، وذلك ما قادني إلى تعلّم العزف، لم أكن أعلم عنه شيئاً في واقع الأمر ولكنني أحببت الاسم، ديجانقو، الذي يذكرني بالكاوبويات في الأفلام. كانت تلك هي الصورة الوحيدة التي أمتلكها وبالكاد بإمكاني التعرف على نفسي، كنت أعلم أن ذلك الشخص هو أنا ولكنه يبدو غريباً في عالم غريب، خلفية الأستوديو كانت مرسومة بما يجعلها شبيهة بواحة تظللها نخلات سامقة يجري النهر خلفها تحت ضوء القمر، الرجل الذي في الصورة ما عاد هو أنا بل ذلك الذي كنته مرة، أنظر إلى ذلك الوجه كما لو من مسافة بعيدة في أرض قد سمعت بها ذات مرة، الجيتار كان قديماً استعرته من ميكانيكي وافق على إعارته مقابل مساعدته في عمله، كان قد عثر عليه سائق تاكسي منسياً في المقعد الخلفي، قال ربما أحد الزبائن نسيه هناك. كان الميكانيكي يحاسبني بالساعة ولكنه كان يدعني أتدرب على العزف مجاناً داخل الورشة.
في قمة نجاحنا، كانت الفرقة تشارك بالعزف مرة في الأسبوع على الأقل وأحياناً مرتين. بات الناس يعرفوننا، كنا نعزف في حفلات الخطوبة، وفي حفلات التخريج وفي افتتاح الصالات والمعارض الفنية، وفي حفلات الاستقبال التي تقيمها السفارات، كنا نعزف في أي مكان ونجاحنا مرده كان إلى مرونتنا فنحن نعزف كل شيء وأي شيء من الريغي إلى أغاني الحب إلى الغناء المعاصر، إذا استمعنا لأي تسجيل موسيقي مرتين فقط فإننا نستطيع إعادة عزفه كما هو في الحال. لا يمكنني وصف السعادة التي تغمرني وأنا أعزف، كان الناس يرقصون ويغنون معنا، في تلك اللحظات يبدو العالم مسالماً ومتصالحاً مع ذاته، باستثناء ذلك، لم يكن كذلك، ليس حقاً.
الآن أتساءل والدهشة تغمرني، إذا ما كان هناك خطأ ما، إذا ما كنت مخطئاً تجاه ذلك، هل أحاول القيام بدور ليس لي؟ عندما أخرج إلى هناك وأستمع للريح، أدرك أنه ما من أحد هناك لأسأله، الجميع رحلوا بمن فيهم سامي، سامي اختفى، حاله حال الباقين، كان هناك ثم لم يعد موجوداً، كان شغوفاً بالكاميرات ولكنه لاحقاً أخبرني أنه أدرك ذلك الشغف في اليوم الذي التقط فيه صورة الفرقة، قال لي إن رائحة المواد الكيماوية المستخدمة لتحميض الصور هي رائحة ما يطبخه الجن، كل مساء كان يذهب ويجلس مع الرجل العجوز الذي يشغل الأستوديو، ويصر عليه أن يريه كيف يتم الأمر كله، وأخيراً اشترى كاميرا ولكنه لم يكتف بذلك فحصل على واحدة أخرى، تعدى الأمر حدود الهواية وبات شغفاً، وككل الأشياء التي يتعلق يها الناس، ما كان شغفه ليدعه ما لم يستهلكه.
فقدنا تواصلنا معاً لسنوات، أعتقد أنه يسافر كثيراً، سمعت أخباره من أصدقاء مشتركين، قرأت اسمه في الصحف، يبدو وكأنه يخلق صيتاً ما لنفسه، وذات يوم ولدهشتي وعلى غير توقع مني وجدته أمام باب منزلي، لم أعرف ماذا كان يبغي، لم يقل شيئاً، جلس لبعض الوقت صامتاً، تحدثت عن هذا وعن ذاك، ثم نظر إلى ساعته ورحل، ومنذ ذلك الحين يظهر على غير انتظار أو توقع، دائماً بدون تحذير، فقط يظهر في وقت متأخر من الليل بدون شرح، أستيقظ في الليل لأجده واقفاً في الظلال، يقفز من الجدار الخلفي ويبقى مختبئاً لساعات طويلة مراقباً ليتأكد من أنني وحدي، أحياناً أعتقد أنه يبتعد بدون أن يقول أي كلمة، أقف في الحوش منادياً باسمه ولكنني لا أتلقى رداً.
المرة الأخيرة التي رأيته فيها لم يبد متماسكاً، بالكاد عرفته، كانت الشمس والريح قد لوحتاه، فقد وزنه، عيناه مفتوحتان على اتساعهما وتحدقان بثبات في نقطة بعيدة في المدى. ظننت أنه محموم بفعل المسافة التي قطعها. أراني ما جلبه معه: صور فوتوغرافية، مئات الصور، قرى محترقة، جبال قاحلة، أعشاب مسودة، ومقابر، ومضى يحدثني عن المليشيات المسلحة والقباطنة الأجانب والمروحيات الحربية، حملوا شخصاً إلى الأرض الخلاء وضغطوا على زر فتلاشى ذلك الشخص، بعد خمس عشرة دقيقة من الهجوم كانوا جالسين على الأرض يحتسون القهوة ويقرأون الشعر بلغتهم الغريبة تلك. أراني صورة رجل أشقر يحمل كتاباً، ذكرني الرجل ببعض الكلمات: النجوم تتسابق والأفكار تتسابق وأبو الهول يتنصت في الصحراء. نظر إليَّ: “جميلة، أليس كذلك؟”.
“هذا لا يعنينا”، قلت وكنت خائفاً، أخشى أن سامي قد فقد عقله وخائف مما سيؤدي إليه كل هذا. إذا كنت محقاً، فأنا قد قلت إنه يجب أن تكون هناك احتجاجات، العالم لن يقف متفرجاً ليدع أمراً كهذا يحدث، يجب أن يعرفوا. كان الليل هادئاً وساكناً، بلغنا أزيز سيارة تعبر الشارع في هدوء، لم يكن بإمكاني التفكير في المزيد من الأمور لقولها، ما لم تأت كلمة أخرى فإنه سيستدير ويتلاشى في الظلال ولن يظهر ثانية، البتة.
عدت معلماً مرة أخرى، أذهب إلى المدرسة كل يوم، وأقف أمام صف دراسي مكون من خمسين ولداً مزعجاً، أحدثهم عن الحصاد والمحاصيل النقدية التي لا تعني لهم شيئاً، وعن جبال لن يروها أبداً، وعن أماكن ما عاد لها وجود. كل مناهجنا الدراسية عفا عليها الزمن، الغابات تم استئصالها منذ زمن، والبحيرات جفت. ألزمت نفسي بتوقيت زمني معلوم لأجعلهم يفهمون، وفي الأثناء وعندما نتقدم على جدولنا يمكنني التحدث معهم عن جغرافيات أخرى.
قلت: “التاريخ يعج بالخرافات الضائعة، الجغرافيون القدماء سجلوا كلاماً عن أراضي الواق الواق على سبيل المثال حيث ينمو البشر على الأشجار”. ضحك الأولاد. ذات زمان كان العالم يعج بمثل هذه القصص، مدينة النحاس الأصفر بها برجان مشعان مصنوعان من المعادن المستطرقة، في الأفق ومن على البعد تشبه الأبراج ناراً متوهجة معلقة على الحافة الصخرية لبحر الظلمات، لا مدخل للمدينة، كثير من الناس حاولوا الدخول وفشلوا، أخيراً استطاع أمير شجاع التسلل عبر السور العالي ليجد أن كل السكان قد ماتوا وتبعثرت على طول المدينة جثث وسيمة لأناس رغم موتهم لم يبدِّل الموت معالمهم وملامحهم، كأنهم توقفوا عن القيام بما كانوا يقومون به قبل لحيظات قلائل. في الحجرات الداخلية للقصر الملكي عثروا على الملكة، إلى جوارها كان هناك خطاب يشرح أنهم ماتوا بسبب الجوع، ولكن كيف؟ يبدو بلا معنى هلاكهم محاطين بكل هذه الثروات. بعد ذلك بزمن وجيز فقدت وظيفتي، يقولون إن السماء قبة ونحن من يصوب السهام صوبها، دائماً نتعلق بالآفاق البعيدة ونأمل ضد الأمل. في الأمسيات تعم العالم الطمأنينة من نوع خاص، تلك الصدفة الفارغة حيث تبث الريح نواحها الغريب، في الوقت الذي تتغاير فيه درجات الضوء يبدو البرج وكأنه يمر بسلسلة من التحولات مثل الحرباء، العالم يبقى منبسطاً مقابل أساساته عندما تعود الساعة السحرية تارة أخرى، عندما تتطاول الظلال وتتداخل في بعضها يأتيني الإحساس المبهم بأن أمراً ما يدور خلف الشفق في ذلك البرج، شيئاً ما يظل بعيداً عن متناولي. أحياناً أمكث وقتاً طويلاً لأجد نفسي متجهاً إلى البيت منتبهاً ومحاولاً أن لا أطأ شيئاً من تلك الأشياء الكريهة والمقرفة في الظلام.
ـــــــــــــــــــــــ
جمال محجوب روائي سوداني الأصل يحمل الجنسية البريطانية ولد في لندن وعاش في الخرطوم حتى العام 1990 عندما انتقل مع أسرته للعيش في بريطانيا مرة أخرى.
كتب عدة روايات باللغة الإنجليزية لفتت انتباه النقاد والدوائر الأدبية في بريطانيا منها: رحلات صانع المطر Navigation of a Rainmaker، أجنحة من غبار Wings of Dust -،
ساعة العلامات The Hour of Signs، السفر مع الجن – Traveling with Dijnns.
عنوان هذه القصة المترجمة In The Long Shadows مصدرها هو مجلة بانيبال، العدد 26، صيف 2006 – Banipal 26, Summer 2006.
للمزيد من المعلومات، يمكن زيارة الموقع الرسمي للكاتبwww.jamalmahjoub.com
 
ترجمها عن الإنجليزية: جمال طه غلاب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الظلال المديدة :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الظلال المديدة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» خيارات: لاتصدق الظلال بعد الان ..ليلى ناسيمي

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: