14 يناير 2014 بقلم
أنس الطريقي قسم:
الفلسفة والعلوم الإنسانية حجم الخط
-18
+ للنشر:نحن نسبح في التأويل، منذ زرع الخالق فينا ملكة اللّغة، منذ أن علّمنا الأسماء كلّها "و علّم آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة، فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين." البقرة/31، حكم علينا أن نسبح في التأويل. فلم يغتاظ "الناطقون بلسان السماء"، كما سمّاهم الباحث موسى برهومة، لمّا نضطلع بالمهمّة التي قدّرها لنا مالك السماء، أتراهم لم يفهموا لمّا قرأوا القرآن أنّه ما قصدهم بالخطاب وحدهم، إنّما قصد الناس جميعا؟ ألم يخبرهم أنّه "شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه اللّه يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" (الشورى/13)، و قال أيضًا: "قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا اللّه ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا إنّ اللّه غفور رحيم" (الحجرات 14-18). ألم يدعهم إلى أن يُقرأ كلّ ذلك في ظلّ سورة الإخلاص؟ لم يصرّون على تكرار خطأ بني إسرائيل لمّا اعتبروا أنفسهم شعب اللّه المختار؟ لم يخبرهم أنّهم خير أمّة أخرجت للناس دون قيد أو شرط؟ أتراهم يكرّرون خطأ أتباع عيسى لمّا عجزوا عن التجريد، فشبّهوا، فأنزلوا اللّه من عليائه، وصيّروه في جسم عيسى؟
إن التوحيد كله مختزل في سورة الإخلاص، لكن يبدو أنّ مفعولها يبلى بالتقادم فكأنّ الأوّلين فهموها، بينما كنّا أبعد من أن نصل إلى نصف فهمهم وانتباههم إليها. حين أفهم كلّ هذا بعقلي وبمعرفتي المعاصرة، أفهمه على النحو التالي:
يقول لي العقل المعاصر أن لا حقيقة ولا عالم موضوعيّ، وكلّ ما يوجد تمثّل يجري من خلال الذات، ومن خلال اللّغة تحديدًا، فهي التفكير، وهو التمثّل. اللّغة هي الحدث الموضوعيّ الوحيد، فهي التي تنتج الواقع. هذا ما قاله عنها غادامير، إذ سمّاها منزل الوجود ومسكن تجارب الإنسان. فنّدت الإبستمولوجيا المعاصرة فكرة الموضوعي المغاير، وبحثت له عن مقرّ فلم تجده في غير اللّغة. وقد جرى هذا العمل بوساطة ديكارت حين نقل الوجود إلى الفكر، وبوساطة كانط حين بيّن أنّ الفكر تمثّل، ثمّ دوسوسير في اللّسانيات، ثمّ أينشتاين في الفيزياء، ثمّ جاء كثيرون بعد هؤلاء.
ماذا يعني هذا بالنسبة إلى معرفتنا التي نريدها بطريق الخلاص أو السعادة؟ هو يعني أنّ معرفتنا قائمة في فهمنا لا في الواقع أو في النصوص. وماذا يعني أيضًا بالنسبة إلى فكرتنا عن اللاّهوت؟ هو يعني أنّ كلّ ما هو سوى اللّه نسبيّ تاريخي. نطقت بذلك، من وجهة نظر معرفتنا المعاصرة، فلسفة الدين منذ ردولف بولتمان، وأكّدته تيولوجيا النسق (théologie du process).
نريد أن نفهم الكون والتاريخ والأشياء، ونريد محاصرتها، ونروم بوعينا المعاصر صورنتها للسيطرة عليها، ولتوجيهها لخدمة أفكارنا عن طريق الخلاص أو أدواته. لكنّنا ههنا حين نتذكّر أنّ اللّغة التي فينا تحكم فهمنا أو تأويلنا للعالم والأشياء، بل تنتجها، ندرك أنّ ما يحيط بنا ليس غير وجهة نظر، ونحن كذلك، لسنا غير وجهة نظر، تتحكّم في أفكارنا عن العالم تركيبة ترسبت فيها عناصر تكوينية لا فكاك من سطوتها، فحين نسعى إلى الفهم فنحن نربط، في الواقع، بين النظر المتجرّد والعمل؛ أي بين معرفتنا النظريّة ومعرفتنا العمليّة، بين العلم والإيديولوجيا في النهاية. فما العمل؟ وكيف نتخلّص من الالتباس الممكن في الفهم؟ وكيف ننجو من شباك وعينا المركّب، ومن قيود إرثنا الإيديولوجي الساكن فينا؟ كيف ننجو في فهم معنى الدين، ومعنى السياسة، ومعنى الدولة، ومعنى الديمقراطيّة من ارتباطها بتمثّلنا وفق خصائص معرفتنا الرّاهنة، وبتمثّل من سبقونا وأورثونا قسريًّا خصائص تمثّلهم، وفق خصائص معرفتهم أو كفاءتها؟
حين وضّح لنا كانط في نقده لملكة الفهم ضرورة نقد كلّ تمثّل باستبعاد محدّدات الفهم أو مراقبتها، كان يوجّهنا إلى مراقبة الإيديولوجيا الكامنة فينا والمكتسحة لكلّ معرفة نظريّة نطمح إليها. علينا إذن عند التعامل مع المعرفة والمفاهيم التي تبتكرها لنمذجة العالم أن نعود إلى معناها الجوهريّ خلف التعريفات الزمنيّة الإيديولوجيّة. فليست هي وقائع موضوعيّة، إنّما هي كاللّغة والفهم فينا، وقائع ذاتيّة قابلة للشحن باستمرار، فكلّ ما يطرأ عليها من تعريف يبقى نسبيًّا. فمتى أردنا أن نوجّهها نحو أهدافنا العمليّة؛ أي إيديولوجيّتنا تعيّن علينا حتمًا أن نعود إلى مضمونها الجوهريّ الأصليّ المعرّى من كلّ المضاف الإيديولوجيّ.
ليس كالفلسفة هنا ما لديه القدرة على أن يوصلنا إلى هذا المطلب، ويعرّفها كثيرون، وتتعدّد مدلولاتها حسب المشاريع الفلسفيّة، وتعدّد أهدافها، إلاّ أنّها تبقى "سعيًا إلى الحكمة أي نظرًا كليًّا عقليًّا حرًّا في الكلّ"، والعلم الكلّي الذي يحيط بكلّ شيء وينظّم كلّ شيء، وهي نظريّة المعرفة العقليّة التي تحدّد شروطها وأشكالها الأوّليّة (عبد الغفّار مكّاوي، لم الفلسفة، منشأة المعارف، 1981، ص10-11). ومن ثمّ فـ"ليس بإمكاننا فهم العالم الذي نعيش فيه بدونها. لماذا؟ ببساطة لأنّ كلّ أفكارنا ومسلّماتنا، وكذلك قيمنا تقريبًا تندرج دون أن ندرك ذلك دائمًا ضمن رؤى للعالم تشكّلت وتماسك بنيانها عبر تاريخ الأفكار. لذلك توجّب أن نفهم الرؤى لإدراك منطقها ومداها ورهاناتها... و(هذا يسمح بـ) إعطاء الذات الوسائل لتكون ليس فقط ذكيّة، وإنّما أكثر حريّة... يجب أن نتعلّم أنّها تستطيع وببساطة مساعدتنا على العيش بشكل أفضل وأكثر حريّة " (لوك فيري، تعلّم الحياة (سأروي لك تاريخ الفلسفة)، ترجمة سعيد الوالي، د.ت، ص17)
من هنا تمكّننا الفلسفة من استعادة ارتباطنا بجواهر ما نتبنّى من أفكار ومفاهيم، معرّاة من مضافاتها اللّغويّة الزمنيّة؛ أي الإيديولوجيّة. هذا صالح بقوّة لفهمنا للدين، والحريّة، والديمقراطيّة، وغيرها من المفاهيم التي نقولب بها العالم ونؤسّس عليها حياتنا. هذا هو عملنا الراهن الأكيد؛ أن نمارس أسلوبًا متماسكًا في التفكير، أو نمارس فنّ التفكير الذي يجعل وعينا يتحرّر من سلطة لاوعينا، بل يتأمّله ويفكّكه، ويسطّر له الطريق. وليست إثارة هذا الموضوع هنا فتحًا واكتشافًا، إنّما هي تذكير بما نجحنا وما نزال ننجح في تجاهله بامتياز. هذا ما يشهد به حوارنا الفكري الرّاهن حول تعريف الواقع بكلّ أبعاده. يتعدّد التأويل و يتنوّع، وتسير معه الأذهان في كلّ اتّجاه، ويتناسى في الغالب أنّ الجميع - إلاّ ما ندر- غارقون في الإيديولوجيا، وأنّ ما يعرض من برامج للسيطرة على الوقع لا ينطلق من تعريفاته الدقيقة. هذا رغم تقدّم كثيرين من مفكّرينا أشواطًا في ممارسة نقد الإيديولوجيا، منذ أعمال عبد اللّه العروي حول الإيديولوجيا العربيّة المعاصرة، ومنذ نقد العقل لمحمّد عابد الجابري، وصولاً إلى نقد نقد العقل لجورج طرابيشي، وغيرهم. وسيبقى رهاننا باستمرار، في صلتنا بالجزء التراثي من هذا الوعي، أن نكتسب القدرة على استخراج دراستنا له من قيود التاريخ الكلاسيكيّ إلى رحابة نقد الإيديولوجيا. لن نستعيد القدرة على العمل ما لم نرسّخ أنفسنا في النظر.