نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة
|
| |
يقدم لنا الباحث والكاتب الجزائري الأستاذ عبد الرزاق بلعقروز، كتاباً هاماً يعتبر مدخلاً أساسياً إلى فلسفة نيتشه من زاوية إشكالية التراتب. بحيث ألقى الضوء على بعض القضايا الفلسفية الكبرى لدى نيتشه، والتي تشكل منعطفاً رئيسياً في الفكر المعاصر.
تأتي أهمية الدراسة من كون مساهمة نيتشه في تاريخ الفلسفة قد شكلت تحولاً حقيقياً ليس في تاريخ الفلسفة فقط، وبل وفي الثقافة الأوروبية برمتها.
وقد حاول الباحث عبد الرزاق بلعقروز إيجاد الحلقة التي تؤرخ لهذا التحول وذلك انطلاقاً من إشكالية التراتب في حقول القيم والأخلاق والدين والفن والميتافيزيقا. لقد بيّن الباحث عند دراسته لنيتشه أن صدور هذه القيم متوقف على هذا العنصر التراتبي الذي يقسم العالم بمواضيعه ورموزه إلى تعارضات مختلفة: أدنى، أعلى، شرير، طيب، قبيح، جميل، إنها برأيه معان تحيل وتدل، وكل ما يعني ويدل على معنى هو عبارة عن قناع يغلف تأويلات مستبطنة وسابقة، وأن إعادة تقييم القيم، وبناء التراتب الأصيل، هو أمر موكول إلى فيلسوف المستقبل، المشرّع والفنان في الوقت نفسه. إنها نظرية تُعبر لنا عن صراع القوى، والنتائج المترتبة على السيطرة، ومن يكون المسيطر في نهاية الأمر.
أما السؤال المركزي في إشكالية الباحث عبد الرزاق بلعقروز هي: كيف قرأ نيتشه لغة التراتب؟ وما هو أصل هذه التراتبات القيمية؟ ما حاصلها وحجم تأثيرها على ثقافة الإنسان الحديث؟ وإذا كان التأويل هو مفاضلة، وإعطاء أولويات لمعنى دون آخر، تلك الأولويات التي ترجع لإرادات القوى، فهل يملك نيتشه قيماً أرفع وأفضل يدين بها قيم التراتب الحديث؟ وما قيمتها؟
لقد عمل الباحث في تقديمه للموضوع وإجابته على عناصر الإشكالية التي قدمها بحس نقدي واضح وبمنهج تحليلي من أجل الوصول إلى الهدف، ألا وهو إبراز عناصر التمايز والاختلاف بين أشكال التراتب، والتعرّض للتقييم والمساءلة، لمبادئ التقييم المابعد أخلاقية البديلة.
وقد قسمت الدراسة إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول: وهو بعنوان “سؤال التراتب المصطلح والمفهوم” تعرض فيه الباحث إلى الأرضية المفاهيمية لمصطلح التراتب، من حيث إن التراتب: مساءلة مفاهيمية وتاريخية، ثم التراتب وحقيقته عند نيتشه، وهو بمعنى الاختلاف في الأصل، والتراتب بمعنى التفاضل، والتراتب بمعنى الترويض والاصطفاء.
أما الفصل الثاني: “من التراتب الديني إلى الفارق الأنطولوجي” وخصص لبحث امتداد الثقافة الدينية، واندساسها في لغة الفلسفة، أما المبحث الأخير فهو يعالج التأويل الإستطيقي للوجود، بما هو المنعرج التحرري والتجاوزي للميتافيزيقا بواسطة الفن.
أما الفصل الثالث وجاء بعنوان “جينيالوجيا التراتب الأخلاقي، أو من الإنسان إلى الإنسان الأسمى، وفيه تعرّض الباحث لآراء نيتشه في الأخلاق، والتأويلات المختلفة التي لازمتها، ومنها الأخلاق باعتبارها نظرية التراتب بين البشر، ثم تحليله لنوعان من التراتب: بين تراتب الاختلاف والاستمتاع به، ثم تراتب الحقد وتشويه الأصل، ثم تحديده للملاح الكبرى التي سيكون عليها الإنسان الأسمى.
دراسة نقدية هامة، جديرة بالقراءة، أراد الباحث عبد الرزاق بلعقروز من خلالها أن يحفزنا على استعمال الفكر من دون وصاية الآخرين علينا، فكما أبدع الغربيون حداثتهم، فنحن علينا أيضاً أن نحتفظ بهذه القيم الكونية: أي قيم النقد والرشد والإبداع، وألا نتوهم بأن الانفراج يأتي بتقليدهم أو بتكرار إبداعاتهم الفلسفية وإنما بتحرير إرادتنا، حتى نتجاوز ما يعانيه الوعي الإسلامي من تمزق وتخلف نفسي (برأي الكاتب) فنحن بحاجة إلى روح إبداعية تجاوزية جديدة، لإثبات الذات، وتأكيد الحياة، وبهذا نستطيع أن نعيد إحياء المعادلة الغائبة: الوجود يساوي الإبداع، والإرادة تساوي البناء