** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
روزا
" ثـــــــــــــــــــــــــائــــــــــر "
الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية Biere2
روزا


عدد الرسائل : 267

تاريخ التسجيل : 11/04/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 3

الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية Empty
09112011
مُساهمةالوعي الجمالي في الحداثة الشعرية

الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية I1_20060424220832

* تمهيد:

على الرغم من أن الوعي الجمالي AESTHETIC CONSCIOUSNESS يشكّل الأساس
الذي انطلقت منه الحداثة الشعرية العربية، إلا أنه بقي ثانوياً أو
هامشياًبالنسبة إلى النقد الأدبي المعاصر، في إجابته عما هو أساسي في هذه
الحداثة. وعلى الرغم من أن هذا النقد لم يكد يترك ظاهرة من ظواهر الحداثة
الشعرية، من دون معالجة أو دراسة نقدية، فإن اهتمامه بما هو جمالي عامة بقي
أقل قيمة من اهتماماته الأخرى.

ولعل السبب الأبرز في ذلك يكمن في قلة عناية هذا النقد بعلم الجمال
AESTHETICS تنظيراً وتطبيقاً. وهو ماانعكس سلباً على بعض أطروحات هذا
النقد، من مثل عدم الربط، أو ضآلته، بين الظاهرة الشكلية وأساسها الجمالي،
ومن مثل تحويل الجزئي إلى كلي، وتعميم الخاص بهذا الشاعر أو ذاك على
الحداثة الشعرية عامة؛ ومن مثل التعامل مع هذا المستوى الفني أو ذاك بمعزل
عن المستويات الأخرى من جهة، وعن المضمون الجمالي من جهة ثانية. ولاشك في
أننا لانتهم النقد المعاصر بالقصور عن وعي ظاهرة الحداثة. إذ إن واقع الحال
يؤكد أن هذا النقد، في معظمه، كان على درجة عالية من الفهم والتبصر بهذه
الظاهرة، كما كان على درجة من المتابعة النقدية لها، بشكل لم يسبق له مثيل
في تاريخ النقد العربي. بحيث يمكن القول إن حركة الحداثة الشعرية لم يكن
لها أن تأخذ ماأخذته من أهمية كبرى في الثقافة العربية المعاصرة، بهذه
السرعة القصوى؛ لو لم تصاحبها حركة نقدية نشطة، تتناولها بالدرس والبحث
والعناية، وتتحمّس لما تطرحه من جديد يختلف عما هو معهود في الشعر العربي،
ويتلاءم ومنطق التحديث الذي يتبناه النقد الأدبي الحديث عامة.

ولكن اللافت للنظر في هذا النقد هو غياب التحليل النقدي، أو ضآلته،
لعلاقة ظاهرة الحداثة بالظاهرة الجمالية عامة، والوعي الجمالي خاصة. ومعظم
مايقال في هذه المقاربة النقدية أو تلك عن هذه العلاقة هو أن ثمة ذوقاً
جمالياً جديداً راح يتبلور عربياً؛ أو أن تغيراً ما قد طرأ على طبيعة
الاستيعاب الجمالي في الإبداع والتلقي؛ أو أن الشعر الحديث ذو بنية جمالية
مغايرة ومختلفة عن الشعر العربي القديم. ولكن ماهي طبيعة هذا الذوق الجديد
أو التغير أو البنية، فإن هذا مايسكت عنه النقد المعاصر مكتفياً بالإشارة
أو التقرير. وكأن الأمر بدهي لاخلاف حوله، أو كأنه لايستأهل المعالجة
النقدية. ولاشك في أن مايقرره هذا النقد صحيح في جوهره. غير أن هذا الصحيح
يحتاج إلى تسويغ علمي ومعالجة نقدية تبيّن طبيعته وانعكاساته، كما تبين
مستوياته التعبيرية.

إن الفن بوصفه "أعلى أشكال تملك الواقع بحسب مقاييس الجمال"(1)، إنما هو
نتاج الوعي الجمالي، في نمط من أنماطه التاريخية. ولهذا فإنه يكثف التجربة
الاجتماعية تكثيفاً فنياً راقياً، من منظور ذاتي تخيلي تقويمي. مما يعني
أن إحالة الفن على الواقع لايمكن أن تكون إحالة مباشرة، مثلما أنه لايمكن
ربطه بما هو فردي صرف. ولعلّه من المفيد أن نستأنس بما يؤكده غولدمان، في
هذا المجال، وذلك بمقولته بصدور الفن عن بنىً ذهنية ماوراء فردية تنتمي إلى
مجموعة خاصة، وهي تتشكل، على نحو دائم، وتنحلّ في مجموعات اجتماعية حين
تعدّل صورتها عن العالم كإستجابة لتغّيُّر الواقع أمامها. وتبقى هذه الصور
الذهنية معروفة على نحو رديء، ونصف مدركة في شعور الممثلين الاجتماعيين؛
غير أن الكتاب العظام هم القادرون على بلورة تلك الصور في شكل واضح
متماسك(2)

إن الوعي الجمالي الحداثي هو أحد تلك الصور الذهنية التي راحت تتشكل في
المجتمع العربي المعاصر، بفعل المستجدات المتعدّدة والمختلفة التي بدأت
بالبروز، منذ أوائل القرن العشرين. ومن هنا، فإن تبيان هذا الوعي هو في
أساسه تبيان للخلفية الناظمة للحداثة الأدبية العربية عامة، والشعرية منها
خاصة.

ونرى أن التصنيف المدرسي لهذه الظاهرة الفنية أو تلك ينبغي أن ينطلق
أولاً من تحديد طبيعة الوعي الذي يقف خلفها. أما أن ننطلق، في التصنيف، من
المستويات الفنية وحسب، فإن في ذلك قصوراً عن استيعاب الظاهرة نقدياً.

ولاشك في أنه لايجوز الفصل بين الوعي الجمالي والمستويات الفنية. ولكن
في المقابل. فإن كثيراً من تلك المستويات يمكن أن يكون عاماً وشائعاً بين
مختلف الحركات الشعرية أو المدارس الفنية، في مرحلة تاريخية معينة. غير أن
هذا لايعني عدم أهمية تلك المستويات في التصنيف. إذ إن الوعي الجمالي
لايمكن استقراؤه من دونها، فهي الحامل المادي له أو هي شكله المشخّص
مادياً، ولاسيما حين تكون تعبيراً مباشراً عنه، كما حصل مع الحداثة الشعرية
العربية. فما هي طبيعة الوعي الجمالي الحداثي. وماعلاقته بتلك المستويات،
وبماذا يتميز من نظيره الكلاسيكي؟.

يمكن تعريف الوعي الجمالي عامة بأنه الوعي الذي يتناول الظواهر
والأشياء، من خلال سماتها الحسية وأثرها في الطبيعة النفسية والروحية
للمتلقي، منطلقاً من المقاييس الجمالية AESTHETIC STANDARDS التي تشكل
مضمونه القيمي. ويتلاءم الوعي الجمالي طرداً مع تلك المقاييس، بحيث إن أي
تغير يطرأ على واحد منهما، يطرأ على الآخر بالضرورة. غير أن تغير الوعي
يكمن في آليته الذهنية ـ الإنفعالية، على حين أن تغير المقاييس يكمن في
المثل العليا الناظمة لها، فليس ثمة وعي جمالي دون مقاييس، وليس ثمة مقاييس
من دون مثل عليا. وتدخل هذه الأقانيم، بشكل يصعب فيه التمييز بينها. إلا
أنه يمكن القول إن الوعي هو الآلية الذهنية ـ الانفعالية المنتجة للظاهرة،
والمقاييس هي الناظمة لها، أما المُثُل فهي المعيار الأعلى الذي تسعى
الظاهرة إلى تشخيصه وتمثيله بوساطة تلك المقاييس.

وعلى الرغم من أن الوعي الجمالي أكثر ثباتاً، على الصعيد التاريخي، من
أشكال الوعي الأخرى، إلا أن هذا لايؤدي إلى القول بثباته المطلق. فبما أنه
نتاج اجتماعي تاريخي، فإن قابليته للتغير والتبدل أمر لاشك فيه. وتبدو هذه
القابلية أكثر وضوحاً في المراحل الاجتماعية التي تتسم بنهوض ـ أو نكوص ـ
ثقافي قيمي شامل. وبما أن الفن أعلى أشكال تملّك الواقع بحسب مقاييس
الجمال، فإنه المؤشر الأكثر مصداقية في الدلالة على ذلك التبدل أو التغير
في الوعي الجمالي، إذ إن مايصيب هذا ينعكس في ذاك بالضرورة. ولعلنا لانجانب
الصواب إذا ماذهبنا إلى أن التغير الجزئي الذي أصاب الشعر العربي ، في
العصر العباسي وفي الأندلس يتلاءم والتغير الجزئي الذي أصاب الوعي الجمالي
العربي في الفترتين العباسية والأندلسية ، كما أن التغير الكلي الذي جاءت
به الحداثة الشعرية العربية يتلاءم والتغير الكلي الذي أصاب الوعي الجمالي
المعاصر. هذا الوعي الذي ظهرت ملامحه الأولى، على استحياء، في أوائل القرن
العشرين، مع الرومانتيكية العربية، ولاأدلّ على هذا من اتساع رقعة الفنون
الأدبية خاصة. حيث لم يعد الشعر هو الإبداع الأدبي الأوحد أو الأكثر أهمية.
بل أصبح أحد فنون الأدب إلى جانب المسرحية والرواية والقصة القصيرة. ولاشك
في أن دخول هذه الفنون إلى الأدب العربي يعني، فيما يعنيه، اتساع الحاجات
الجمالية العربية وتنوعها من جهة، واختلاف الوعي الجمالي من جهة أخرى.
وغنيٌّ عن التوكيد أن المثاقفة ACCULTURATION مع الغرب الأوربي كان لها دور
فاعل في ذلك، غير أنها لم تكن، بحال من الأحوال، هي الأساس فيه. إذ إن
الخارج لايمكنه أن يؤثر تأثيراً فاعلاً في الداخل، إلا بحسب الضرورات
والحاجات الداخلية.

لقد جاءت الحداثة الشعرية العربية تلبية لحاجة جمالية ناشئة، في المجتمع
العربي المعاصر، وتعبيراً عن وعي جمالي راح يتبلور عبر نصف قرن تقريباً.
وإذا كان هذا الوعي قد ارتبط تاريخياً بظهور قوى اجتماعية معينة كالطبقة
الوسطى، والفئة المثقفة منها خاصة، فلايؤدي ذلك إلى أن هذا الوعي خاص بتلك
الطبقة، أو يمكن أن يزول بزوال صدارتها الاجتماعية، أو أن يكون انعكاساً
REFLECTION عن طبيعتها الطبقية وأطروحاتها الأيدولوجية.

يتميز الوعي الجمالي، في الحداثة الشعرية العربية، من الوعي الكلاسيكي
العربي بعدة سمات تجعله وعياً جديداً بكل ماتعنيه الكلمة، كما تجعل نتاجه
الشعري مختلفاً عن الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. وفيمايلي
نتحدث عنها، وعن تجلياتها فنياً، وعما يقابلها في الوعي الجمالي الكلاسيكي.

1ـ التجادلية:

لعل التجادلية(*) تكون هي السمة الجوهرية من بين سمات الوعي الجمالي
الحداثي، فهي السمة الأكثر تبدياً، في الشعر فنياً وجمالياً. فلايكاد مستوى
من مستويات النص الشعري الحداثي يخلو منها، أو من بعض آثارها. سواء أكان
ذلك على صعيد البنية الفنية العامة أم على صعيد البنية الإيقاعية أم
التصويرية أم على صعيد القيم الجمالية المطروحة.

وكما هو معلوم ، فإن هذه السمة تحيل على فهم العالم والوجود الإنساني من
منظور التناقض وتبادل التأثير فيما بين الظواهر والأشياء والعناصر
والجوانب ...إلخ. فليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يستمر أو يموت، بمعزل عن
عناصر المحيط الذي هو فيه، أو بمعزل عن محيطه عامة. وهو ماينفي إمكانية
استقلال الظواهر والأشياء.... بعضها عن بعضها الآخر، ويؤكد وجودها القائم
على التناقض والصراع وتبادل التأثير. وبما أن الأمر كذلك، فليس هنالك ماهو
ناجز بشكل نهائي. إذ إن التطور والتبدل والتغير من الصفات الملازمة لكل
ماهو موجود. ولهذا لم يعد النظر إلى الأشياء يتمُّ من خلال الثبات أو
الاستقلال أو الكمال. إن كل شيء ينبغي أن يؤخذ في تجادله مع الأشياء
الأخرى، من دون أن يعني ذلك إغفال التميز الذاتي الخاص به.

تلك هي الخلفية الفلسفية للوعي الجمالي الحداثي. حيث راح هذا الوعي يتسم
بآلية ذهنية تجادلية، ترى العالم في وحدته القائمة على التناقض والصراع
لاعلى التكامل والتناظرSYMMETRY كما هي الحال في الوعي الجمالي الكلاسيكي
العربي الذي تشكّل التكاملية الميتافيزيقية سمته الجوهرية. وعلى الرغم من
أن المجال لايسمح بالحديث عن هذا الوعي، إلا أنه تمكن الإشارة إلى أن مفهوم
الكمال مفهوم جوهري في الفكر العربي ـ الإسلامي، سواء أكان ذلك على صعيد
الوجود أم المعرفة أم القيم عامة، والجمالية منها خاصة(3). وبحسب ذلك، فإن
لكل موجود كماله اللائق به. وهو كامل لما فيه من عناصر الكمال التي وهبتها
إياه المشيئة الإلهية. أي أن هذه العناصر لاتتأتى له ذاتياً أو من المحيط
الذي هو فيه. بل تحصل له بحسب ماهو مقرر إلهياً. وبهذا فإن العالم الذي هو
كامل بالضرورة، ينطوي على موجودات كاملة ذاتياً ومتكاملة فيمابينها، ولاشك
في أن هذا لايلغي تبادل التأثير. بل يلغي التناقض الذي هو جوهر التطور بحسب
الفهم التجادلي.

فأساس الاختلاف، إذاً، بين الوعي الحداثي والكلاسيكي، على المستوى
الفلسفي الجمالي، يكمن في أن الأول يعي العالم في تناقضه وتجادله، على حين
أن الثاني يعيه في تكامله وتناظره ، وهو ماأدى إلى اختلافات عديدة بينهما.
ولكن قبل المضيّ بذكر هذه الاختلافات، لابدّ من القول إن الوعي الجمالي
عامة ليس وعياً فلسفياً نظرياً للعالم أو الوجود. إنه قد يتقاطع أو يتداخل
مع هذه النظرة الفلسفية أو تلك، من دون أن يتطابق وإياها كلياً. إذ لو حدث
ذلك لانتفى كونه وعياً جمالياً. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قد تختلف النظرة
الفلسفية اختلافاً شديداً، من غير أن يقود ذلك إلى اختلاف في الوعي
الجمالي. ولعل أكبر شاهد على ذلك، هو استمرار الوعي الجمالي الجاهلي حتى
بدايات العصر العباسي الذي أضاف بعض التغييرات الجزئية إليه. ومن جهة
ثالثة، إن تبني هذا الوعي الجمالي أو ذاك لايعني بالضرورة تبنياً لمجمل
الخلفية الفلسفية التي يستند إليها. فقد يكون الشاعر حداثياً من دون أن
ينتمي فكرياً إلى الفلسفة الجدلية بقوانينها المختلفة، والأمثلة على ذلك
كثيرة جداً. كما يمكن أن ينتمي الشاعر إلى تلك الفلسفة، غير أن وعيه
الجمالي وعي كلاسيكي صرف. والحق أن هذه من المسائل المعقدّة التي تحتاج من
الباحثين دراسة علمية متأنية.

لقد أدى ذلك الاختلاف إلى افتراق الوعي الحداثي عن الكلاسيكي، على صعيد
النظرة إلى الجمال. فبينما كان الوعي الكلاسيكي يميل إلى تعريف الجمال بأنه
الكمال الموصوف بالاعتدال(4)، فإن الوعي الحداثي يرى أن الجمال هو التميز
القائم على الحرية والحيوية. أي أن هذا الوعي يشترط للجمال ثلاثة عناصر،
وهي التميّز والحرية والحيوية.

فما يوحي بالعادية، أو يندرج تحت الشيوع والعمومية، أو لايلفت الانتباه
بما فيه من صفات التميّز ، يصعب أن يكون جميلاً، غير أن التميّز وحده
لايكفي للجمال. إذ لابدّ من أن يكون مبنياً على الحرية والحيوية. أما
الأولى فتنفي أن يوجد الجمال فيما هو مستلب أو مقيد أو منصاع لنظام يفرض
عليه ماليس من خصائصه أو طبيعته. وأما الحيوية فتنفي أن يوجد الجمال في
الثبات أو السكون STATIC أو مايوحي بهما كالجمود والركود والانحطاط
والتقهقر .... إلخ. وبهذا فإن العادي أو المقيد أو الساكن لايمكنه أن يتصف
بالجمال، بحسب الوعي الحداثي. حيث إنه يفتقر إلى أحد عناصر الجمال التي هي
عناصر متجادلة ومتكاملة فيما بينها.

فالجميل، في الوعي الحداثي، إذاً، هو المتميّز الحر والحيوي في آن معاً.
ومن ذلك فإن اللذة الجمالية الناجمة منه ليست لذة الإحساس بالكمال
والاعتدال، كما في الوعي الكلاسيكي العربي، بل هي لذة الاحساس بالانطلاق،
وكأن الجميل يدهشنا بالآفاق التي يفتحها أمامنا، ويحيلنا على وجودنا الذي
ينبغي أن لايكون معاداً ومكروراً أو محدّداً بأطر ثابتة مطلقة تحدّ من
الحرية والحيوية فينا. ومن هنا كانت الرغبة في تجديد الشعر شاملة تقريباً.
إذ إن التجديد يعني التعبير عن تلك النظرة الجديدة إلى الجمال، والمختلفة
عن النظرة العربية الكلاسيكية إليه. وبذلك نفهم قول أدونيس:

البدعةَ، البدعةَ! المحدثَ، المحدثَ!

نبطل سنة قديمة

نردّ للإنسان اسمه(5)

إن البدعة أو التحديث ليس اعتباطاً أو مجرد رغبة في مجاوزة الوعي
السائد. بل هو في الأساس إبطال لما يحدّ من طاقات الإنسان، ويجعله غريباً
عن طبيعته أو مستلباً من أعراف وقوانين أصبحت ، مع الزمن، قيداً له.

إن هذه النظرة إلى الجمال هي نظرة عامة مشتركة بين شعراء الحداثة
العربية كافة، فعلى الرغم من أن هذه الحداثة ليست تياراً شعرياً واحداً(6).
إلا أنها تنطلق في تقويم الجمال من نظرة مشتركة. ولايتباين الأمر إلا على
صعيد الحوامل الجمالية. كأن يميل هذا التيار إلى اعتبار التميز والحرية
والحيوية من صفات القوى الاجتماعية التقدمية ومثلها الأعلى البطل الثوري
خاصة؛ ويميل ذاك التيار إلى اعتبار هذه العناصر خاصة بالفئة الليبرالية
المثقفة ومثلها الأعلى البطل الفادي. وذلك على المستوى الاجتماعي ـ
الجمالي. أما ما سوى ذلك، فليس ثمة من تباين يكاد يذكر جمالياً. وغني عن
البيان أن التباين في النظر إلى الحوامل ينهض من التباين في الموقع
الأيديولوجي لهذا أو ذاك من التيارات والشعراء. وهو، في نهاية المطاف،
تباين أيديولوجي لا جمالي، ولا أدل على ذلك من الاشتراك في السمات الفنية
العامة التي تنظم النص الشعري الحداثي.

لقد أشرنا سابقاً إلى أن الملامح الأولى لهذا الوعي قد ظهرت مع
الرومانتيكية العربية، ونودُّ أن نشير، في هذا المجال، إلى أن تعريف الجمال
بأنه التميز القائم على الحرية والحيوية، يدين بالكثير منه لتلك
الرومانتيكية التي ذهبت إلى أن الحرية والفردية شرطا الجمال اللذان يعنيان
التميز. وهو ماسعى إليه الشعر الرومانتيكي العربي، ونظّر له كلٌّ من العقاد
والمازني(7)، ولكن إذا كان هذا الشعر قد خطا بعض الخطوات، في طريق
التجديد، تعبيراً عن نظرته الجديدة إلى الجمال، فإن النقلة النوعية قد تمت
مع شعر الحداثة الذي خرج تاريخياً وجمالياً، من معطف الرومانتيكية ولقد
انعكس ذلك كله في السمات الفنية العامة لهذا الشعر، ونتوضّح أثر ذلك في كل
من الشكل الإيقاعي والبنية الصورية.

آـ الشكل الإيقاعي(*)



إن تجديد الشكل الإيقاعي للقصيدة العربية هو التجديد الأكثر سطوعاً، في
شعر الحداثة، في بداياته الأولى، ولعله يكون أكثر المستويات استئثاراً
للحوار والنقاش والجدل بين المؤيدين والمعارضين، في خمسينيات هذا القرن.
حتى بدا، أحياناً، وكأنه التجديد الأوحد الذي جاءت به الحداثة ويمكن تسويغ
ذلك الجدل بأن شعر الحداثة، بشكله الإيقاعي المختلف، قد تجاوز المستوى
الأكثر سطوعاً، في القصيدة العربية، وفي وحدة البيت الشعري القائم على
شطرين متعادلين موسيقياً. ولايمكن فهم التجديد الإيقاعي، بمعزل عن الوعي
الحداثي ومفهومه عن الجمال . إذ إن اعتبار الحرية شرطاً من شروط الجمال قد
دفع إلى اعتبار الشكل الإيقاعي الكلاسيكي شكلاً عاجزاً عن استيعاب الانفعال
الشعري في انطلاقته وحيويته، شكلاً لايتلاءم والحرية التعبيرية من جهة،
ولايتلاءم من جهة أخرى، والنظرة الجمالية الجديدة، وهو مااقتضى إيجاد شكل
إيقاعي يحقق ماقد عجز عنه ذلك الشكل. فكان أن ظهر الشكل الإيقاعي المفتوح
غير المحكوم بضوابط نمطية ناجزة سلفاً، والمرتبط بطبيعة الانفعال الشعري.
بحيث أصبح هذا الشكل هو المعادل الإيقاعي للتجربة الشعرية الخاصة بهذا النص
أو ذاك. وقد يكون من المستحيل أن نجد نصيّن متطابقين بالشكل الإيقاعي، في
شعر الحداثة. وما ذلك إلا للاستحالة في أن نجد تجربتين متطابقتين تماماً،
حتى لدى الشاعر الواحد.

إن انتفاء النمطية الناجزة عن الشكل الإيقاعي الحداثي لايتجاوب أيضاً
والحيوية التي هي أحد شروط الجمال. إذ إن هذا الشكل هو التمثيل الحسي لحركة
التجربة الشعرية، في صعودها وهبوطها وتأرجحها، وفي كثافتها واستطالاتها،
وفي تسارعها أيضاً. وهو مايفسّر التدفق الإيقاعي أحياناً حتى نهاية المقطع،
أو نهاية النص الشعري بكامله؛ ومايفسر أيضاً الوقفات الإيقاعية المتكررة
أحياناً، بشكل متوالٍ؛ كما يفسر إلغاء القافية أو تنويعها أو تغيير مواقعها
من النص، بحيث لم تعد تأتي بالضرورة في نهاية الأشطر الشعرية. أي لم تعد
القافية تعني الوقف الإيقاعي بالضرورة، على النحو الذي كانت عليه في الشعر
العربي الكلاسيكي.

إن كل ذلك جعل من الشكل الإيقاعي الحداثي مفتوحاً على احتملات لاتكاد
تحصى من الاختلافات الإيقاعية بين النصوص الشعرية. وذلك على الرغم من أن
التفعيلة بقيت هي الوحدة الصوتية ـ النغمية، في تيار التفعيلة من شعر
الحداثة. ولابأس من الإشارة، في هذا المجال، إلى أن الحديث عن إيقاع سمعي
محدّد في قصيدة النثر، ومايزال رجماً بالغيب. وإن يكن ثمة محاولات مخلصة
لتسويغه، من خلال النظام النبري، لامن خلال النظام الكمي(8). وعلى أية حال،
فإن الحداثة في طرحها شكلاً إيقاعياً مفتوحاً، قد فتحت الباب واسعاً أمام
الاختلافات الإيقاعية النصيّة، بشكل لم يعد فيه بالإمكان الكلام على نمط أو
اثنين أو غير ذلك، للشكل الإيقاعي الحداثي. ولنطرح أمثلة على هذا، من بعض
النصوص المبنية على تفعيلة (متفاعلن)، كما تتوضح تلك الاختلافات، وذلك على
الرغم من أن الأمر أصبح شائعاً ومعروفاً:

يقول مصطفى خضر، بتدفق إيقاعي يصل إلى سبع عشرة تفعيلة:

لمن التماثيلُ المهشّمةُ؟

الوجوهُ تهبُّ، يطمسها الغبارُ،

تذوب أقنعةٌ وأهدابٌ من الحجرِ،

النهارُ يزفُّ مزهواً حشودَ الملح،

والملأُ المقدّسُ يعلن النسيانَ مملكةً:

رؤوسٌ من حجر(9)

ويستخدم محمد على شمس الدين ستاً وعشرين تفعيلة موزّعة على الشكل التالي:[9/10/5/2] مع التزام بقافية واحدة وذلك في قوله:

قمر الجنوب على التلال

قمرٌ خفيف... ثم لايهوي كعصفور على كتف الجبال

وثيابه البيضاء ينشرها على الأشجار آونةً

ويجلس مثل تمثال على قدمين حافيتين من قصب الخيال

وأقول ياقمري الذي قتلوكَ

هبْ لي من أقاصي كفِّك البيضاء أغنيةً

ونشرب قبل بارقة الزوالْ(10)

وغالباً مايميل بلند الحيدري إلى التشطير المتلاحق والمنتهي بقواف متنوعة، من مثل قوله:

نفس الطريقْ

نفس البيوت، يشدّها جهد عميقْ

نفس السكوتْ

كنا نقولُ: غدا يموت وتستفيقْ

من كل دار

أصوات أطفال صغارْ

يتدحرجون مع النهار على الطريقْ(11)

يشتمل هذا المقبوس على سبعة أشطر، ينتهي كل منها بقافية، أما من حيث عدد
التفعيلات في الأشطر، فقد جاءت على النحو التالي:[3/2/1/3/1/3/1 ]

فليس ثمة، إذاً، شكل إيقاعي نمطي واحد. سواء فيما يتعلق بعدد التفعيلات
في الشطر أو المقطع، أم فيما يتعلق بنمط التقفية. فيمكن أن تحذف القافية
نهائياً من المقطع أو النص، ويمكن أن تتنوّع تنوعاً منتظماً أو غير منتظم،
كما يمكن أن تتواتر القوافي المتماثلة، من دون أن يفصل بينها عدد من
التفعيلات. ومن الخطأ أن نتصور إمكانية الوصول إلى قانون ينظم الشكل
الإيقاعي الحداثي، ماخلا القول إن التفعيلة هي الوحدة الصوتية ـ النغمية،
في تيار التفعيلة. وماذلك إلا للارتباط الدقيق بين ذلك الشكل والانفعال
الشعري. إذ إن الإيقاع الحداثي تظهير أو تحسيس سمعي لهذا الانفعال.

ومن المفيد أن نتوقف، في هذا المجال، عند إحدى الدعاوى الزاعمة أن هذا
الشكل الإيقاعي ليس بجديد. فقد سُبق إليه منذ القرن الهجري الخامس. يقول
أحمد المعداوي في ذلك: " إن هذه التقنية التي قُدّمت منذ زمن على أنها أحد
الإنجازات الإيقاعية المتقدمة لحركة الشعر الحديث ليست في الواقع كذلك،
وإنما هي تقنية معروفة على الأقل منذ القرن الخامس الهجري"(12)

ويستشهد على ذلك بما نسب إلى أبي العلاء المعري من رسالة وصل منها قول
موزون على تفعيلة الرجز (مستفعلن وجوازاتها) . وقد ذكره ابن خلكان في
وفياته. ونثبته نحن، هنا، بالشكل الذي أثبته ابن خلكان، مع تعليقه عليه: [ "
أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الخالي
لكي نحدث عهداً بك يازين الأخلاء فما مثلك من غير عهد أو غفل".....فوجدته
يخرج من بحر الرجز وهو المجزوء منه. وتشتمل هذه الكلمات على أربعة أبيات
على روي اللام وهي على صورة يسوغ استعمالها عند العروضيين . ومن لايكون له
بهذا الفن معرفة فإنه ينكرها لأجل قطع الموصول منها.... وهذا إنما يذكره
أهل هذا الشأن ـ أي أهل العروض ـ للمعاياة لا لأنه من الأشعار
المستعملة](13)

أما المعداوي فإنه يثبته على النحو التالي، مع ملاحظة اختلافين. أولهما
أن ما أثبته المعداوي فيه تضعيف الياء في كلمة (الخالي)، وحذف اللام من
(كي). ولايختلف الوزن، وإن تكن الصورة التي أثبتناها هي الأصلح لغوياً.
وثانيهما هو الاختلاف بين (زين) التي أثبتناها و (خير) التي أثبتها هو.
وطبعاً لايختلف الوزن في الحالين. ويعود هذان الاختلافان إلى الاختلاف بين
الطبعتين:

أصلحك الله وأبقاك

لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم

إلى منزلنا الخاليّ

كي نُحدث عهداً بك ياخير الأخلاء

فما مثلك من غير عهد أو غفل(14)

لقد فات المعداوي، بتوزيعه القول على هذه الصورة، ماقاله ابن خلكان من
أن هذه الكلمات تشتمل على أربعة أبيات على روي اللام، من مجزوء الرجز، أي
على النحو التالي:

أصلحك الله وأبقاك لقد كان من الـ

واجب أن تأتينا اليوم إلى منزلنا الـ

خالي لكي نحدث عهداً بك يازين الأخلّْ

لاء فما مثلك من غير عهد أو غفل

كما فاته أيضاً قول ابن خلكان، من أن هذا إنما يذكره أهل هذا الشأن
للمعاياة، لالأنه من الأشعار المستعملة. وهذا القول فيه من البيان
مالايستدعي التعليق عليه. ولنا فيما يقوله الجاحظ حول دخول الوزن إلى النثر
خير دليل:

" اعلم لو أنك اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم، لوجدت فيها مثل
مستفعلن فاعلن كثيراً ومستفعلن متفاعلن، وليس أحد في الأرض يجعل ذلك
المقدار شعراً. ولو أن رجلاً من الباعة صاح: من يشتري باذنجان . لقد كان
تكلّم بكلام في وزن مستفعلن مفعولان، وكيف يكون هذا شعراً وصاحبه لم يقصد
إلى الشعر؟"(15).

وفي المحصلة، فإن الأمر لايرتبط بإقامة الوزن، بل بالقصد إلى الشعر. ولم
يكن المعري، إذا صحت نسبة المقطوعة إليه، يقصد إلى قول الشعر بحال من
الأحوال. ولهذا جاءت المقطوعة عبارة عن كلام نثري موزون على مجزوء الرجز
فحسب. والحق أن النظرة القديمة لم تكن تعتبر الرجز من الشعر. ولهذا حين قال
النبي الكريم في غزوة أحد قولاً موزوناً بحسب مجزوء الرجز، لم يذهب أحد
إلى الادعاء بأنه قال شعراً. أما القول فهو:

أنا النبي لاكذبْ





أنا ابن عبد المطلبْ

وذلك على الرغم من أن هذا القول أكثر موسيقية بما لايقاس من قول المعري،
ومن هنا، فإن دعوى المعداوي بأن الشكل الإيقاعي الحداثي ليس بجديد، وبأنه
تقنية معروفة منذ القرن الهجري الخامس، هي دعوى باطلة أساساً. ولو افترضنا
جدلاً أن ثمة محاولات شعرية (نقول: شعرية) قديمة، في هذا الشكل، فإن ذلك
لايقدّم ولايؤخر شيئاً. لأن الأمر لايتعلق بالحالة الفردية المنقطعة . بل
يتعلق أولاً وأخيراً بالظاهرة الفنية العامة. ويبقى أن نذكر أن الذوق
الجمالي العربي الكلاسيكي لايقرر أن توالي التفعيلات هو ما يصنع البيت
الشعري. بل يقرر أن التوالي المنتظم المحدد هو الذي يصنعه . وهذا ماقد
تجاوزه شعر الحداثة.

ولكن إذا كان المعداوي قد أخطأ في دعواه هذه، فإن مايذهب إليه من أن
لجماعة أبولو أسبقية في الشكل الإيقاعي الجديد على الحداثة(16) ، حيث ظهرت
الكتابة الشعرية بأشطر متفاوتة الطول، عند خليل شيبوب وعلي أحمد باكثير
ومحمد فريد أبو حديد وغيرهم، فإنه صحيح ومعروف أيضاً. وهذا يؤكد مانذهب
إليه من أن الحداثة الشعرية قد خرجت من معطف الرومانتيكية العربية تاريخياً
وجمالياً.

والحق أن هذه الرومانتيكية قد كانت لها المحاولة التجديدية الأولى، على
الصعيد الإيقاعي، في الشعر العربي الحديث. حيث ظهر التنويع في القوافي،
والميل إلى اللوازم الإيقاعية في نهاية بعض المقاطع، والميل إلى المقطعات
الشعرية القصيرة، علاوة على استخدام الأشطر المتفاوتة الطول، ولكن من دون
أن يخرج الشاعر، في مجمل نتاجه الشعري، عن وحدة البيت. ولاشك في أن هذا
ينسجم والتغيرات التي أصابت الوعي الجمالي العربي، في بدايات هذا القرن.

ولقد تابعت الحداثة الشعرية ماكانت الرومانتيكية قد بدأته، فأنجزت شكلها
الإيقاعي المفتوح غير المحدد سلفاً، أو غير النمطي. فظهرت الأشطر الشعرية
المتداخلة إيقاعياً، والمترابطة فيما بينها، وتم التجاوز النهائي، في نتاج
شعراء الحداثة، لمفهوم وحدة البيت، هذا المفهوم الذي لم يعد يتلاءم والوعي
الجمالي الحداثي في رؤيته للعالم من منظور التداخل وتبادل التأثير؛ كما لم
يعد يتلاءم ومفهومه عن الجمال الذي يُشترط فيه الحرية والحيوية، وكي يتوضح
عدم التلاؤم هذا، نتوقف قليلاً عند الشكل الإيقاعي للقصيدة العربية
الكلاسيكية، في تعبيره عن وعيها الجمالي.

تقوم هذه القصيدة. كما هو معلوم، على توالي الأبيات المستقلة إيقاعياً
ومعنوياً (والمرتبطة فيمابينها شعورياً طبعاً) . حيث يشكّل كل بيت وحدة
إيقاعية قائمة بذاتها، لاتتأثر بما هو خارج عنها، أي أن الكمال الإيقاعي
والمعنوي من سمات البيت الشعري. ولقد أشرنا سابقاً إلى أن الجمال، في الوعي
الكلاسيكي هو الكمال الموصوف بالاعتدال. أما أين ظهر الاعتدال في البيت
الشعري، فنقول: إنه يظهر في اشتمال البيت على شطرين متماثلين ومتناظرين
إيقاعياً. أي أن الشطرالأول يعادل الشطر الثاني. ولايصح بحال من الأحوال
خلاف ذلك. سواء أكان هذا في الأبحر التامة، أم المجزوءة. بمعنى آخر: إن
الشطر الشعري ينبغي أن يكون كاملاً، لايحتاج إيقاعياً إلى أن يكتمل بالشطر
الثاني. ولاينفي ذلك تدوير الوزن أحياناً في بعض الأبيات. ولاسيما من البحر
الخفيف الذي يقول فيه صاحب "موسيقا الشعر العربي " ومن الجدير بالذكر أن
أكثر ماتقع الأبيات المدوّرة في عروض هذا البحر. وهو دليل على القوة، إلا
أنه في غير الخفيف مستثقل حتى عند المطبوعين من الشعراء"(17)

إن كمال البيت الشعري يقوم، إذاً، على التناظر والتماثل والتعادل
والتكامل بين شطرين كاملين إيقاعياً، ويمكن القول أيضاً إن الشطر نفسه
لايخلو من تلك السمات، ولاسيما في الأبحر الممتزجة، حيث تتوالى التفعيلات
المختلفة بشكل محدد منتظم من مثل تكرار . "مستفعلن فاعلن" في البحر البسيط،
أو تكرار"فعولن مفاعيلن" في البحر الطويل... إلخ. أو لنقل بصورة أخرى: إن
القصيدة تشتمل على أبيات كاملة ذاتياً على الصعيد الإيقاعي ومتكاملة
فيمابينها. والبيت يشتمل على شطرين كاملين ذاتياً ومتكاملين تناظرياً فيما
بينهما. ويشتمل الشطر، في الأبحر الممتزجة، على وحدتين إيقاعيتين كاملتين
ومكتملتين فيما بينهما أيضاً. مع الإشارة إلى أن هاتين الوحدتين غالباً
ماتكونان متداخلتين في الشطر الواحد.

إن هذا الشكل الإيقاعي يعبّر خير تعبير عن الوعي الكلاسيكي الذي يرى
العالم من خلال التناظر والتكامل، ويرى في الجمال على أنه الكمال الموصوف
بالاعتدال. غير أن هذا الشكل ليس بإمكانه أن يكون حاملاً للوعي الحداثي
الذي يرى العالم من خلال التداخل والتناقض وتبادل التأثير. إذ إن ثمة
اختلافاً حاداً بين هذا الوعي وذلك الشكل. ولهذا السبب لاغرابة في أن تسعى
الحداثة إلى إنجاز شكلها الإيقاعي الذي لاينهض من التناظر والتماثل... بل
من التداخل وتبادل التأثير والتنوع في إطار الوحدة العامة للنص.

ب ـ البنية الصورية:

من المعروف أن بعض النقاد(18) يؤكد أن ثمة انقلاباً جذرياً قد أصاب
الصورة الفنية ARTISTIC IMAGE ، في الشعر الحديث. فلم تعد الصورة مجرد شرح
للفكرة أو توضيح لها أو مجرد زخرفة، يمكن الاستغناء عنها، من دون أن يختل
المعنى، كما في الشعر الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. بل أصبحت الصورة
الحداثية داخلة، في صميم النص الشعري ، بطريقة بنائية حيوية؛ كما أصبحت
الصورة هي الفكرة، ولاانفصال بينهما. ومن جهة أخرى، فقد تغيرت العلاقة بين
عناصر الصورة، بشكل أصبحت فيه هذه العلاقة تقوم على صهر العناصر، لاعلى
تجاوزها وتقابلها، أي تمَّ الإنتقال " من الثنوية البلاغية إلى الشعرية
الصاهرة"(19) كما يقول الدكتور اليافي.

وعلى الرغم من أن الصورة الحداثية قد دُرست دراسة مستفيضة، في النقد
الأدبي الحديث، بحيث لامجال للإضافة، في هذا الإطار، إلا أننا نتوقف عند
تبيان صلة هذه الصورة بالوعي الجمالي الحداثي. وهو ما لم يعط حقّه من
الدرس. وسوف نتناول هذه الصلة من جانبين اثنين. هما: بنية الصورة، وخلفيتها
التعبيرية. وذلك بإيجاز شديد، قدر الإمكان.

تنهض بنية الصورة الحداثية من العلاقة التجادلية بين عناصرها، بشكل
يستحيل فيه الفصل بينها، أو النظر إلى أحد العناصر بمعزل عن تداخله بالآخر.
والعناصر، هنا، لاتعني الظواهر والأشياء التي تتكون منها الصورة فحسب، بل
تعني أيضاً الأفكار والانفعالات والأساليب البلاغية المستخدمة.

فالصورة الحداثية، بهذا المعنى، هي نتاج كلي للعلاقة التجادلية بين تلك العناصر. ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك.

يقول محمود درويش:

مشت الخيول على العصافير الصغيرة

فابتكرنا الياسمين(20)

ويقول أحمد عبد المعطي حجازي، في إحدى اللوحات التشكيلية:

قطرتان من الصحو،

في قطرتين من الظلِّ

في قطرة من ندى

قل هو اللون في البدء كان

وسوف يكون غدا(21)

ويقول خليل حاوي:

ليتني مازلت في الشارع أصطاد الذباب

أنا والأعمى المغني والكلاب

وطوافي بزوايا الليل،

بالحانات من باب لباب

أتصدّى لذئاب الدرب....‍‍‍‍‍‍‍!

ماذا؟ ليتني مازلت درباً للذئاب(22)

وعلى الرغم من أن هذه الصور تختلف فيما بينها، في العناصر والأجواء
والإيحاءات، فإنها تنهض من الوعي الحداثي في سمته التجادلية، فهي مبنية على
التجادل لاعلى التناظر بين العناصر. فالياسمين، في الصورة الأولى، لايتمّ
ابتكاره من التناظر بين الخيول والعصافير. بل يتمُّ من خلال التناقض
والصراع الحاد بينهما. أي أن انسحاق العصافير بأرجل الخيول(مع الأخذ بعين
الاعتبار مايرمز إليه كل منهما) هو الذي يدعونا إلى ابتكار الياسمين .
فعناصر هذه الصورة، إذاً، أربعة، وهي الخيول والعصافير و "نا" الدالة على
الفاعلين، في فعل "ابتكرنا". وجميع هذه العناصر متجادلة فيما بينها.
فالخيول تتناقض مع العصافير فتسحقها، ونحن أو"نا" الدالة على الفاعلين،
تتناقض مع الخيول ومع موت العصافير، فتبتكر الياسمين الذي هو من نوعية
العصافير. أي أن الياسمين هو الآخر على تناقض مع الخيول والموت معاً. ومن
جهة أخرى، فثمة تناقض بين فعل الابتكار وفعل الموت الذي تمارسه الخيول. وفي
النتيجة، فإن الإيحاء المنسجم الذي تقدمه هذه الصورة يقوم على التناقض بين
عناصرها المختلفة. وما يقال في هذه الصورة يقال في الصورتين التاليتين.
فالتجادل بين القطرات، في الصورة الثانية، هو الذي يشكّل اللون أو اللوحة
التشكيلية، والفن عامة. فلابدّ للفن، لكي يكون معبّراً، من أن يتكوّن مما
هو متناقض في العالم كالصحو والظل والندى(بما ترمز إليه). وكذا هي الحال،
في الصورة الثالثة. حيث المعاناة الفردية تنهض من التناقض بين "الأنا"
وكلٍّ من الدرب والذباب والذئاب.

هذا من حيث العلاقة بين العناصر. أما من حيث الجمع بينها، من مجالات
حياتية متباعدة ومختلفة ومتناقضة أحياناً، فإن هذا الأمر بات شائعاً في كتب
نقد الشعر الحداثي. إذ من المعروف أن هذا الشعر قد أفاد من تقنيات الصورة
الفنية السوريالية التي تقوم أساساً على الجمع بين المتناقضات والمتباعدات.
وإذا ماعدنا إلى الصور السابقة، فإننا نجد، في الصورة الأولى، جمعاً بين
الخيول الدابّة والعصافير المحلّقة والياسمين النابت والذات الإنسانية؛ كما
نجد، في الصورة الثانية، جمعاً بين القطرة وكلٍّ من الصحو والظل؛ ونجد، في
الصورة الثالثة، جمعاً بين الليل والزوايا، والأعمى والكلاب، والحانات
والذئاب، والصيد والذباب. غير أن ماتنبغي الإشارة إليه، في هذا المجال، هو
أن تلك العلاقة التجادلية أو هذا الجمع بين المتباعدات والمتناقضات، ينبغي
أن ينتج عنه إيحاء جميل منسجم. ولن يكون هذا ممكناً، إلا إذا كانت الصورة
بل التخييل الفني عامة يحيل على الكينونة الواقعية، ومن دون ذلك لن يكون
التخييل، كما يؤكد تيودور أدورنو THEODOR ADORNO، سوى تخييل مجاني رخيص
ومحدود القيمة(23).

وعلى هذا النحو، فإن الوعي الحداثي في سمته التجادلية قد انعكس في
الصورة الفنية. وهو ما أدى بها إلى أن تشتمل على عناصر متداخلة متجادلة
مستقاة من مجالات متباعدة أو متناقضة. فانعدمت الثنائيات المتقابلة أو
المتناظرة التي كانت الصورة الكلاسيكية تقوم عليها، وانعدمت أيضاً تلك
المقاربة والمناسبة اللتان كانتا أساس هذه الصورة.

وثمة أمر آخر، ينبغي الحديث عنه، في بنية الصورة، وهو التداخل بين
الفكرة والمجاز أو الشكل البلاغي عامة. إذ أن الفكرة، في الصورة الحداثية،
تأتي عبر المجاز، فهي فكرة مصوَّرة أو صورة مفكّرة. يقول الدكتور اليافي:

" لعل خير بداية ننطلق منها للحديث عن تقنيات الصورة المفردة أن نتذكر
أمرين يخصَّان القصيدة المعاصرة. أولهما أنها ألغت ثنائية التعبير
المعروفة: فكرة+ صورة، وجعلت التعبير عن الفكرة يتمُّ من خلال الصورة أو
بالصورة، وثانيهما أنها رأت في الصورة أداة الخلق أو التعبير الوحيدة عن
التجربة الشعورية بأبعادها كلها ومضامينها وخصائصها. أي جعلت من الصورة
المكِّون الرئيس لها"(24)

بمعنى أن ماجاء به شعر الحداثة، على صعيد الصورة ينسجم والمقولة
المعروفة التي أطلقها بيلنسكي، في تعريفه للفن، وهي " الفن تفكير في صور "
(25).

لقد ردم الشاعر الحداثي تلك الفجوة بين الفكرة والصورة، التي لاحظها في
الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. فراح يرى ماحوله ويفكر فيه، من
خلال الصورة الفنية التي أصبح لها، عنده، وظيفة جمالية معرفية مزدوجة. وهذا
مايتلاءم وسمة التجادلية التي ينهض منها وعيه الحداثي. ولعل عودة إلى
الصور الفنية المذكورة سابقاً تؤكد هذه الناحية. ولابأس من التمثل ببعض
الصور الأخرى:

يقول السياب:

ياغيمة في أول الصباح

تعربد الرياح

من حولها، تنتف من خيوطها، تطير

بها إلى سماوة تجوع للحرير

سينطوي الجناح،

ستنتف الرياح ريشه مع الغروب

ياغيمة ماأمطرت، تذوب(26)

ويقول محمد الماغوط:

كسنبلة مكسوَّة بالشعر

رأيتك تنزف على فوهة الخليج

أيها المشوَّه

تحصي جراحك وندوبك

كما تحصي الغابة طيورها عند المساء

يامعيلي أيام المحنه

أيها المطر والرعب والرصاص(27)

ويقول سعدي يوسف:

الرياح التي لاتهبُّ العشية

والرياح التي لاتهبُّ الصباح

حمَّلتني كتاب الغصون:

أن أرى صيحتي في السكون(28)

إن في هذه الصور تداخلاً حاداً بين الفكر والمجاز، بحيث يستحيل التعامل
مع هذا من دون ذاك. فهما يشكلان وحدة مطلقة في التعبير، وفي الوظيفة
الجمالية المعرفية المزدوجة لدى الشاعر الحداثي. فسعدي يوسف، مثلاً، سعى
إلى القول إن الحياة تخرج من أحشاء الموت، أو إن المستقبل يخرج من الواقع
الراكد أو الذي يبدو راكداً، غير أن هذه الفكرة لم تأت بالشكل الذي سردناه ـ
وهو شكل قاصر عن الإحاطة بتلك الصورة ـ بل أتت صورية ـ معرفية ممتلئة
بالإيحاءات، ومحمولة على التعامل المجازي مع الأشياء، مما جعلها تشعّ في
اتجاهات تعبيرية متعددة، لايصحّ حصرها أو حجزها بما سردناه من معنى الصورة
أو فكرتها.

وفي الحديث عن الخلفية التعبيرية للصورة الحداثية، يمكن القول إن هذه
الصورة تصدر عن رؤية ورؤيا تجادليتين للظواهر والأشياء، والواقع الإنساني
عامة. أي أن هذه الصورة لاتعبّر عن الثبات والسكون، بل عن الحركة والتفاعل
والتحول. سواء أكان ذلك في مايخص ماهو ناجز، أم ماهو في قيد الإنجاز. ومن
هنا، فإن سمة التحول(29) من السمات الأساسية للخلفية التعبيرية لهذه
الصورة. وإن وقفة عند بعض ماسلف من صور، تثبت ذلك وتوضّحه.

فصورة محمود درويش تصدر عن تحول الموت إلى حياة، من خلال الصراع المميت
بين الخيول والعصافير؛ وصورة خليل حاوي تصدر عن تحول الفرد المعذب من
المناوأة إلى الانسحاق؛ وصورة السياب تصدر عن تحول إمكانية الحياة إلى موت
وتلاش، من خلال عربدة الرياح حول الغيمة؛ وصورة سعدي يوسف تصدر عن وعي
التحول الخفي في الواقع من السكون إلى الحركة.... إن هذه الصور مجرد أمثلة
عفوية على صدور الصورة الحداثية عن وعي التحول في الواقع والعالم. أما
الصور التي تعلن هذا التحول صراحة، فلاتكاد تحصى، نذكر واحدة منها، في هذا
المجال، يقول محمد عمران:

أمشي على غضب الهواء/ أنا النذير،

يكون زلزال، فتنهدم الجهات،

وتسقط الأنقاض في قاعي، ويختلط الركامْ

جثث/ وينعجن القتيل بقاتليه،

وتدخل الحربُ السلامْ

تتداخل الأضداد ـ

تلبس خوذةٌ كوفيةً

جَمَلٌ ثيابَ محاربٍ

ملكٌ فدائياً.

فدائيٌّ عمامةْ

وتكون عاصفةٌ، فيلتفُّ الظلام على الظلام

وتكون فاتحةُ القيامهْ(30)

وهكذا نلحظ أن الصورة الحداثية قد جاءت تعبيراً عن وعيها الجمالي في
سمته التجادلية. سواء أكان ذلك في العلاقة بين العناصر، أم الجمع بينها من
مجالات متناقضة أو متباعدة، أم كان في التداخل بين الفكر والمجاز، أم كان
في خلفيتها التعبيرية التي تتصف بالتحول، أم كان في الوظيفة الجمالية
المعرفية المزدوجة لها.

إن كل ذلك قد جعل من هذه الصورة مختلفة اختلافاً جذرياً عن مثيلتها في
الشعر العربي الكلاسيكي والتقليدي المعاصر. ولكي يتوضح هذا الاختلاف، نشير
إشارة سريعة إلى أن الصورة الكلاسيكية تقوم على المقاربة والمناسبة بين
العناصر والأشياء المكونة لها؛ وتقوم أيضاً على الثنائية البلاغية التي
تحتفظ باستقلالية عنصري الصورة، فلايتداخلان إلا ماندر؛ وتقوم من جهة ثالثة
على توضيح المعنى أو شرحه أو زخرفته وتزيينه. مما يعني استقلال الصورة عن
الفكرة. فكثيراً مايشتمل البيت الشعري الكلاسيكي على التناظر بين الفكرة
والصورة. وذلك من مثل الأبيات المشهورة التالية، لكلِّ من امرىء القيس
والخنساء والمتنبي، على التوالي:

مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً





كجلمود صخر حطّه السيل من علِ

* *

وإن صخراً لتأتمّ الهداة به





كنه علم في رأسه نار

* *

ماكلّ مايتمنى المرء يدركه





تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

* *

حيث يشتمل الشطر الأول على الفكرة، ويشتمل الشطر الثاني على الصورة، مع
الإشارة إلى أن هذا التناظر ليس قانوناً ينظم الصور الكلاسيكية كافة، في
البيت الشعري الواحد. بل إنه ينظم علاقة الصورة بالفكرة في ذلك الشعر عامة.
وعلى أية حال فإن الأمر قد أصبح معروفاً وشائعاً، بما يكفينا مؤونة
الإفاضة فيه. ولكن مانريده في هذا المجال هو أن التناظر الذي نلمسه بين
عنصري الصورة الكلاسيكية، أو بين الفكرة والمجاز فيها، يتلاءم تماماً
ووعيها الجمالي الذي يرى العالم من خلال التكامل والتناظر، كما أسلفنا غير
مرة.

2 ـ الدرامية:

من المعلوم أن موقف الشعر العربي الكلاسيكي، والتقليدي المعاصر أيضاً،
هو في الأساس موقف غنائي من العالم. إذيتم التعبير عن الظواهر والأشياء، من
خلال أثرها الانفعالي في الذات الفردية التي هي المحور الذي يتمحور حوله
النتاج الشعري. سواء أكان ذلك في طبيعة الانفعال، أم في رؤية العالم، أم في
أسلوب التعبير. ولهذا فإن متلقيّ هذا الشعر لايتلقى العالم. بل يتلقى
الذات التي ترى العالم وتتأثر به أو تعانيه.

ولاشك في أن الفن عامة هو موقف ذاتي، ولانستطيع البتة أن نتلقى العالم،
كما هو في الفن، إذ لايمكن أن نرى فيه العالم بشكل موضوعي. بل نراه من
منظور الذات المبدعة. ولكن ثمة فرق بين أن نراه من منظور الذات، وبين أن
نرى الذات الفردية في تأثرها الانفعالي به. وهذا الفرق هو الذي يقف وراء
اختلاف الشعر الغنائي عن الشعر الدرامي أو عن الدراما عامة. ففي حين يذهب
الأول إلى التعبير عن المسائل الذاتية المتعلقة بالمبدع مباشرة، وبشكل
شخصي؛ يذهب الثاني إلى التعبير عن مسائل مختلفة ذات طابع عام، لاترتبط
بالضرورة بشخص المبدع الذي يستتر دائماً وراء شخصياته الدرامية.

ولسنا، هنا، في معرض التمييز بين الغنائية LYRICISM والدرامية DRAMATIC
في الأدب. ولكن ماأردناه هو الإشارة إلى أن موقع الذات الفردية من النتاج
الغنائي يحيل على موقعها من العالم، وطريقة تعاملها معه، فهي ترى في نفسها
محوراً أساسياً يقابل العالم بظواهره وجوانبه، مما يدفعها إلى التعامل معه
ذاتياً بشكل ينسجم وموقعها المحوري.

فثمة، إذاً، قطبان اثنان في الوعي الغنائي بعامة، وهما الذات الفردية
والعالم الموضوعي. وهما إذ يتبادلان التأثير، على الصعيد الانفعالي،
لايأخذان الأهمية نفسها على صعيد التعبير. فالذات بهمومها وهواجسها
وشواغلها هي القطب الأهم. ولهذا فإن متلقي الشعر الغنائي يهتم بالذات التي
ترى وتتأثر وتعاني، أكثر من اهتمامه بالعالم.(*) وإذا مااهتمّ به، فلكي
يتوضّح أثره في تلك الذات التي غالباً ماتتجاوب وذاته الفردية. وكأننا نقول
بذلك إن الشعر الغنائي يفرض تلقياً جمالياً مناسباً له في الموقف. ولاشك
في أن هذا يعود إلى أن ذلك الشعر ينهض من حاجة جمالية ذات طابع ذاتي ـ
غنائي. ولم يكن للشعر العربي الكلاسيكي أن ينشأ، وأن يستمرَّ، لقرون عديدة،
بشكله الغنائي، لولا سيطرة الحاجة الجمالية الغنائية ووعيها الذاتي، في
المجتمع العربي.

غير أن ماحمله القرن العشرون من تغيرات وتبدلات متنوعة ومتعددة أصابت
المجتمع العربي الحديث، قد أثرت تأثيراً كبيراً في الحاجات الجمالية وفي
الوعي الجمالي أيضاً. فظهرت الفنون الموضوعية والدرامية، ثم تصدّرت هذه
الفنون، مع تنامي حاجاتها الجمالية ساحة الأدب العربي الحديث، ولم يعد
للحاجة الغنائية الصرف تلك الأهمية التي كانت لها من قبل. وهو مااقتضى
تحولاً ملائماً على صعيد الوعي الغنائي، فكان أن اتصف بالدرامية.

أي أن التحول الذي أصاب المجتمع العربي قد دفع بالحاجات الجمالية، إلى
الاتساع والتنوع والاختلاف. مما أفقد الوعي الغنائي الصرف مشروعيته
الجمالية، وجعله يتحول بما يتلاءم والمستجدات. فظهر مايمكن تسميته بالوعي
الغنائي ـ الدرامي.

إنه وعي غنائي، لأنه ينطلق من الذات الفردية في وعي العالم. وهو درامي،
لأنه يجسد العالم من خلال الصراع الذي هو جوهر الدراما، بشكل يبدو فيه
الصراع شبه موضوعي. أو لنقل: لأن ثمة ذاتاً فردية متموضعة. بمعنى أن
"موضعة" الذاتي في الحداثة الشعرية العربية هي الشكل الأنسب لطبيعة الحاجات
الجمالية التي أفرزت الفنون الأدبية الموضوعية والدرامية كالرواية والقصة
القصيرة والمسرحية، ولم يكن بإمكان الشاعر الحداثي المعنيّ بالتعبير عن
إيقاع العصر، أن يغضّ النظر عن ذلك التحول في الحاجات، كما يفعل الشاعر
التقليدي المعاصر الذي مايزال ينظر إلى العالم من المنظور الذاتي الغنائي
الصرف.

إن موضعة الذاتي تعني التخفيف من بروز الذات الفردية أ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

الوعي الجمالي في الحداثة الشعرية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» هل الوعي حقيقي؟ محاولة جديدة من الفيلسوف دانييل دينيت لتفسير الوعي
»  سردية الحداثة وأزمة التقبل: عودا على كتاب فتنة الحداثة 04 أكتوبر 2013 بقلم محمد طيفوري قسم: الدراسات الدينية حجم الخط -18+ للنشر: استرعى انتباهي كتاب للباحث قاسم شعيب بعنوان "فتنة الحداثة" من منشورات "مؤسسة مؤمنون بلا حدود"[1]، وإذ أشكر للكاتب رغبته الن
» الحداثة والمجتمعات القيومية قراءة في موانع استنبات الحداثة بالتشريط الغربي
» التمثل الجمالي للعالم
» سردية الحداثة وأزمة التقبل: عودا على كتاب فتنة الحداثة

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: