كتابة: م. كرابشنكو
ترجمة: رياض عبدالواحد
ان تعقيدات العلاقات بين الأنماط الناجحة للإبداع الفني، لا تمنع
التقدم من ان يثبت نفسه في الفن، وحين لا نتمكن من رسم الفترات الفردية
للتطور الفني في خط واحد منسجم في قدرته على الصعود المستمر من الأدنى الى
الأعلى، فأن ذلك لا يعني ان النجاح لا يتحدد بقانون معين، او لا يكشف
استمرارا داخلياً، هذا الاستمرار هو تطور الفن التقدمي، ويمكن ان يجعلنا أي
اختبار سطحي –من وجهة النظر هذه- لمراحل معينة من تاريخ الأدب والفن أن
نميز فيهما ليس التغييرات الدائمة فقط، بل عمليات تطويرهما وأغنائهما.
ان
أدب عصر النهضة وفنه –على سبيل المثال- قد عدّ نمطاً محدداً للإبداع، هذا
النمط قد ادخل ما كان جديداً ومهماً في الثقافة الفنية. فالقيم الجمالية
والروحية التي خلفها كتّاب النهضة وفنانوها مرتبطة عضوياَ بتمثل الدنيوي
بواسطة التوكيد على الإنسان وإصلاح انفعالاته وعواطفه. بينما رأى فن العصور
الوسطى الديني في الإنسان مجرد منفذ مطيع لما أملته مسبقاً العناية
الإلهية، وعدَّ الحياة الإنسانية نفسها مدخلاً لحياة أخرى، نظرة أدب النهضة
وفنها الى الإنسان أنه مقياس الأشياء جميعاً. لقد نظر الفنانون الى الواقع
ليس كانعكاس متذبذب ومهزوز للروح الإلهية بل كعالم حقيقي يؤلف أساس الحياة
البشرية ومجال فعاليات الإنسان ومصدر انفعالاته ومباهجه الدنيوية.
كان
–من الطبيعي- للحياة الدنيوية والبشرية التي شعر بها كتّاب النهضة أن تتخذ
تنوعاً كبيراً في التعبير، فسارت جنباً الى جنب غنائية (بترارك) مع واقعية
(رابليه) الساخرة، ليظهرا (البيكارسك) –الرواية التشردية-، مع مآسي شكسبير،
والبهجة الشجية للوسياد كامونس مع النظرة الرزينة في دون كيشوت. مما لا
جدال فيه ان معرفة الإنسان والواقع المحيط به كمملكة رئيسة للفن، وللمطامح
البشرية الجامحة. كل ذلك كان مصدر الاقتراب من المبادئ التي كانت أساس
مؤلفات أدباء النهضة وشعرائها.
اتخذت هذه المنجزات شكلاً في عملية تصادم
مع مظاهر معينة لثقافة العصور الوسطى وفنها، مع أنها رسمت سمات فنية رائدة
في العصر السابق، كتب (كوتوزوف) الخبير بفن عصر النهضة عن المرحلة المبكرة
لذلك العصر في ايطاليا: (حافظ الأدب الإيطالي في النصف الثاني للقرن
الثالث عشر وبداية القرن الخامس عشر على صلاته بفن العصور الوسطى الرفيع،
كما حافظ على صلاته مع الفن البيزنطي الذي كان يسير –على الرغم من انحدار
الإمبراطورية الشرقية- في نهوض إبداعي جديد، وحقق تأثيراً، ليس على ايطاليا
وحدها، بل على أوربا كلها. وفي المنعطف بين القرنين الثالث عشر والرابع
عشر، خضعت بيزنطة لتأثير عظيم من الغرب الرومانسي وفي الأخص في الأدب).
لقد
لاحظ اللغوي السوفياتي المشهور (باختين) في كتابه عن (فرانسوا رابليه) سمة
مهمة أخرى في الروابط الداخلية بين فن النهضة وفن العصور الوسطى وثقافتها،
أنه يلح على الأهمية الكبرى لتقاليد المهرجانات الشعبية كما ظهرت في
العصور الوسطى، ليس فقط فيما يخص رابليه بل لكل أدب النهضة: (اتسمت النهضة،
خاصة في فرنسا، في مجال الأدب، اولا وقبل كل شيء، وبخاصة في المؤلفات التي
تعكس الدعابة الشعبية –في أروع مظاهرها- تقف في مستوى المؤلفات الأدبية
الرائدة لذلك العصر، وقد أغنتها. ولا يمكن للمرء استيعاب أدب تلك الأيام،
أو الطريقة التي تمثل بها فن النهضة، تجربة ثقافة الفن الشعبي في العصور
الوسطى تكشف بوضوح عظيم الصلات الداخلية بين المرحلتين ودورهما في تقدم
الفن والأدب).
وفي الوقت الذي لا ينازع فيه أحد على السمات العامة لفن
النهضة كنمط من الإبداع، نجد اختلافات عدة قائمة بالنظر لدور التأثير
ودرجته. هذا التأثير الذي مارسه الفن على اتجاهات مثل الكلاسيكية
والباروكية، اللتين سبقتا فن النهضة وثقافتها. وحتى لو لم يدرس المرء
القضية برمتها، التي تتضمن مسألة العلاقات والروابط والتناقضات بين الفن
الباروكي والفن الكلاسيكي، فأنه يلاحظ ان الكلاسيكية كانت خطوة مهمة الى
الأمام في تطور الفن، وخاصة الأدب، في أقطار عديدة..
ان الكلاسيكية قد
قُدرتْ كرد فعل سلبي فقط على الثقافة الفنية لعصر النهضة في الفترة التي
فقدت فيها منجزاتها الأساسية وينظر الى الكلاسيكية غالباً على أنها انحطاط
في الإبداع.. على اية حال، ان وجهة النظر هذه، التي تساءل عنها
(لوناشارسكي) منذ العشرينيات، قد قدرت عميقاً في غضون العقود الأخيرة،
خصوصاً في أعمال الأساتذة السوفيات.
تتميز مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين عن
أدب عصر النهضة، وهذه الفروق لا تشير مطلقاً الى انقطاع الاستمرار. وتقوم
السمة النوعية للأدب الكلاسيكي، أولا وقبل كل شيء، في الدور الريادي الذي
لعبته الموضوعات والصور المتصفة بالفضائل الدينية الراقية. لقد حافظت
النزعة الإنسانية التي تخللت عصر النهضة وفنها على قوتها في الأدب
الكلاسيكي مع أنها حازت على صفات جديدة معينة.. وقد صُوِرَ الفرد في
الكلاسيكية في تصادمات اجتماعية تجسد دائماً بعض المبادئ الاجتماعية.
ان
التعقيد في العلاقات بين الإنسان والمجتمع كشفه بعمق جبابرة عصر النهضة
المتأخر أمثال شكسبير وسرفانتس: وعلى غير الحيوية الطاغية والتفاؤل الموجود
لدى عدة فنانين رواد في عصر النهضة، تكشف مؤلفات شكسبير وسرفانتس دوافع
التشكك والكآبة والمرارة المتولدة عن الاختلافات بين المثاليات الإنسانية
ومجرى الحياة، والتناقضات التي واجهها الفرد نفسه.
تقف المظاهر
الاجتماعية في كفاح الفرد وأعماله، كما تنعكس في مؤلفات الكتاب
الكلاسيكيين، ليس بسبب الطغيان غير الإنساني للفرد فقط، بل على النقيض،
بسبب لا مبالاته تجاه قضايا الدولة والمجتمع. وبينما انهمك كتاب النهضة
بنحو رئيس في تصوير الشهوانية بين الناس، في تصادماتهم مع التقشف الذي يدعو
إليه الدين، وإعادة خلق الإنسان "الطبيعي" الذي رفض قوانين الإنسان
المدني، وتجسيد المبادئ الأخلاقية النابعة من شعوره وفهم واجبه تجاه
المجتمع والناس الآخرين.
ان تصوير النماذج البطولية في تناقضاتها مع
آخرين يجسدون الشر ويرفضون المبادئ الأخلاقية الراقية، لعب دوراً كبيراً في
أعمال الكتاب الكلاسيكيين. وبينما أولوا أهمية خاصة لتأثير العقل، فأن هذا
العقل يمنع كتبهم من ان تعالج العواطف المتأججة والصراعات الحادة. ان
مسيرة العمل كانت عاصفة وقد صور الكلاسيكيون عواطف الحيرة، بينما تفصح
أعمالهم عن قناعة قوية في إظهار هذه العواطف.
ان موضوعات الكتاب
وشخصياتهم انتزعت ، في الأغلب، من التاريخ وميثولوجيا ألازمات القديمة،
والماضي التاريخي للناس الآخرين. على كل حال، ان صلاتهم الحية بعصرهم لا شك
فيها. وفي عدد من الأقطار ظهرت الكلاسيكية في الأدب بشروط تعميق أزمة
المجتمع الإقطاعي في غضون تفوق السلطة المطلقة، التي كانت اعجز من أن تخضع
الأدب والفن لتأثيرها أثناء تعاظم الأفكار والاتجاهات الاجتماعية والسياسية
المعارضة للإقطاعية والسلطة المطلقة. أن الأهمية التاريخية والفنية للآثار
الرائعة التي أنتجها كولونيل وراسين وموليير وفولتير، على سبيل المثال،
تقوم في خلقهم نماذج مراقبة للسلوك الإنساني في إدانتهم الفساد النفسي
والأخلاقي في إنكارهم أي نوع من المميزات الخاصة، في رفضهم المبادئ العامة
للحياة الإنسانية، وفي تشجيعهم فعالية الإنسان الاجتماعية.
ان معارضة
النظام القائم للأشياء وروح العصر سارت في الكلاسيكية يداً بيد مع انعكاس
الآراء السائدة، أفكار السلطة المطلقة، وطبقاً للسمات النوعية في التطور
التاريخي لشتى الأقطار، ظهر تأثير هذه الأفكار على الأدب في مقياس مختلف،
وأثرت في مؤلفات الكتاب الكلاسيكيين الرواد بطرق مختلفة، وجنباً الى جنب مع
الفنانين الذين اغتنت أعمالهم بالتعبير الحيوي والقوي عن المبدأ الإنساني،
هناك كثار تصدوا للدفاع، ضمن إطار الكلاسيكية، عن المواقع الرجعية، ويمكن
ان يدافع المرء عن الفكرة القائلة ان المساهمة التي قام بها الكتاب
الكلاسيكيون وكتاب النهضة تختلف في القيمة، وقياس هذه المساهمة أمر صعب
للغاية. وعل كل حال، ثمة شك في أن الأدب الكلاسيكي أنتج قيماً فنية مهمة
أغنت الفن العالمي.
ان ذلك الأدب ليس حلقة محددة في تطور الأدب فقط، بل
مرحلة مثمرة أيضا في المفهوم الجمالي للعالم، بالطبع، ليس كل اتجاه أدبي،
ولا كل مرحلة في تقدم الأدب يتسمان بالمنجزات الخلاقة، بل ممثلو الأدب
الكلاسيكي هم الذين حققوا هذه المنجزات وسجلوها باسمهم.
ان الكلاسيكية،
من جهة، مرافقة لأدب النهضة، ومن جهة ثانية، مرافقة لواقعية عصر الأنوار
والرومانسية أيضاً، وكما اتخذت الكلاسيكية شكلها في غضون عصر النهضة، تفتحت
المبادئ الملازمة لواقعية عصر الأنوار داخل الأدب الكلاسيكي، وقد قدم
(موليير) لهذا إيضاحا بليغاً. فقد كانت كتبه مزيجاً من الفن الكلاسيكي
والواقعي، ولكن الى جانب السمات تظهر أيضاً في المبادئ الفنية لواقعية عصر
الأنوار. كانت العقلانية كنظرة عالمية وكمبدأ خلاق، قد ظهرت من بناء
الأعمال الواقعية ملتصقة ليس فقط بالكلاسيكية، بل بواقعية عصر الأنوار
أيضا، وان يكن بنحو مختلف ومتغير الى حد ما. وبينما كان الانتقال من
الكلاسيكية الى واقعية عصر الأنوار غير متسم بالاصطدامات الحادة، كانت
مواقف الرومانسيين من الكلاسيكية مليئة بالصراعات الحادة، ويمكن ان نعد
المقدمة التي كتبها فكتور هيجو لمسرحية كرومويل شهادة على ذلك، ويؤكد رفض
الرومانسيين الشعر الكلاسيكي على طرافة طريقتهم في الإبداع الفني، وفهمهم
الجديد لمعظم قضايا الفن وشرح هذا الفهم للواقع. وقد قدروا شكسبير تقديراً
عالياً ورأوا فيه رائداً عبقرياً لطموحهم الفني، وأكنوا أكبر الإعجاب
لدانتي وسيرفانيس، ومع هذا لم يميزوا صلاتهم بأسلافهم المباشرين من كتاب
الكلاسيكية.
ان مثل هذه العمليات ليست نادرة الوقوع في تاريخ الأدب
والفن، والمفهومات الذاتية للفنانين كثيراً ما تختفي وراء الانفصال
الموضوعي بين الاستمرار الإبداعي والاتجاه الفني الملاصق. وهكذا كانت
الحالة، على سبيل المثال، مع الرمزية التي لم يرفض دعاتها الرواد التقاليد
الواقعية النقدية رفضاً نظرياً، بل عبروا عن هذا الرفض في كتبهم.
كانت
العلاقات بين الرومانسية والكلاسيكية مختلفة الى حد ما. ان المجال الواسع
لاختلافاتهم لا يمكن له إخفاء اتصالاتهم الإبداعية الداخلية. وبينما كان
الأدب الكلاسيكي متصلاً بواقعية عصر الأنوار في غضون الفلسفة العقلية، كان
التجسيد الفني للمثل الأعلى الصلة الارتباطية بين الكتاب الكلاسيكيين
والكتاب الرومانسيين. لقد لعب ذلك التجسيد دوراً مهماً في الممارسة الفنية
والجمالية لكلا الاتجاهين. ومع أن المثل العليا لم تظهر بطريقة واحدة في
كتابات الكلاسيكيين والرومانسيين فأن استمرار الصلات بينهم يمكن ان يظهر
بوضوح كاف، على الرغم من الامتناع الرومانسي الذاتي عن الاعتراف بهم.
ومهما
كان الاعتبار الذي ننظر به الى كتابات الرومانسيين من زاوية التطور
التقدمي للأدب، ينبغي ان نلاحظ، أولا وقبل، النداءات الملحة للحرية، هذه
النداءات التي تردد صداها في أعمال الرومانسيين (الاجتماعيين) الذين حصروا
اهتمامهم بنحو رئيس في التعبير عن اللامعقول، إذ انهم، وبتباين فنهم لما
هو مألوف عند الناس، قد كشفوا بصدق عن التخلخل بين الحياة والمجتمع، ذلك
التخلخل الذي أعقب ثورة 1789.
إن الحاجة للقيم الروحية في تلك الحياة
رسمت معارضة عاطفية للرومانسيين "الاجتماعيين" الذين وقفوا ضد القيود
الجديدة والتفكير الصغير الذي أظهرته المرحلة التجارية الطليقة. وقد أعطى
هذا بدوره نهوضاً في النضال لصياغة الأشكال الإنسانية المهمة، وقد خلق
الكتاب الرومانسيون خلقاً مدهشاً الصور الزاهية للرجال والنساء الذين كانوا
أقوياء بالروح، فحيناً يقذفون تحدياً وقحاً في وجه ما هو قائم، وحيناً
يبرحهم الشك والرغبة في الكشف عن الأسرار الأبدية للحياة البشرية فيما يخص
الرومانسيين "الاجتماعيين".
كان الاضطهاد الاجتماعي والروحي للشخصية
الإنسانية جزءاً من اضطهاد كل الشعوب وكل الأمم، لقد عدوا الحرية الشخصية
والتطور الحر والمستقل لشعبهم والشعوب الأخرى وقائع مترابطة متبادلة. وكرسل
لانعتاق الشخصية، صدح الرومانسيون بتراتيل المديح لنضال التحرر الوطني.
وقد بحثوا بنحو ضبابي في حياة الشعب عن مبادئ قادرة على الوقوف في وجه
انحلال عالمهم المعاصر، وقد عكست كتابات عدد من الرومانسيين "الاجتماعيين"
فكرتي المساواة الاجتماعية والاشتراكية المثالية (شللي، هيجو، جورج صاند
وهايني). ان كشفهم البعيد لحياة الإنسان الداخلية مسجل باسم الكتاب
الرومانيين، وعلى غير ما كان الكلاسيكيون، والى حد ما أولئك الكتاب الذين
اتبعت مؤلفاتهم مجرى الواقعية التنويرية، رسم الرومانسيون، ليس فقط العواطف
المختلفة وقوتها الدائمة، بل اختلاط الشعور الإنساني المختلف وتغيراته،
وهذا الاختلاط غالباً ما يكون متناقضاً.
كان الرومانسيون في رسم الشخصية
في ظرفها العسير ومظاهرها الروحية الفائقة، قادرين على إدراك تعقيد علم
النفس الإنساني وعبروا عنها متعجبين، وقد اظهر هذا التعقيد، بنحو جري،
قضايا جديدة دفعتها وقائع الحياة الى المقدمة. وحتى عندما تصدى الرومانسيون
الذين اهتموا بالتعبير الفني عن اللامعقول للحياة اليومية، لم يجد الواقع
تعبيراً عنه في تصوير مشاهد الحياة الدنيوية، كما وجد في الكشف عن المجال
النفسي لشخصياتهم.
ان الأهمية المعاصرة والتاريخية للقيم الفنية التي
أوجدها الكتاب الرومانسيون لا جدال فيها، ويكفي المرء ان يتخيل الثقافة
العالمية وقد خلت من مؤلفات (بون لين) و(ليرمنتوف وشفنشكو) وكتاب آخرين،
ليتحقق من الدور الذي لعبه الرومانسيون في أغناء الأدب ودفع تقدمه.
وفي
أوج الواقعية النقدية بذل دعاتها الرواد جهدهم في نبذ المبادئ الرومانسية
في الإبداع. وعلى كل حال، لم يكن "اللاتشابه" بين الواقعية النقدية
والرومانسية واضحاً دائماً في المرحلة الاولى من تطور الواقعية النقدية.
كان مؤسسو الأدب الروسي (بوشكين، غوغول، ليرمنتوف) رومانسيين واقعيين كما
هو معروف.
وقد عدّ بوشكين كتابه الواقعي الاول (غودونوف) كتاباً
رومانسياً، ومع أن الانتقال من الرومانسية الى الواقعية كان انتقالا
"سلمياً". أن أعظم إنجاز للرومانسيين، كالكشف عن التقنية الإنسانية
وتناقضاتها، تحقق كلياً، ليس في أثناء ظهور الواقعية النقدية، بل عندما
أحرزت وضعاً ثابتاً قوياً ولا حاجة للقول بان سايكولوجية الرومانسيين
وجهابذة الواقعية النقدية كانت شيئاً اصلاً، ولم تتطابق مفاهيمهم العامة عن
الإنسان مع بعضها، بل ان الدور الذي لعبته تجربة الرومانسيين في تطوير
الأدب الواقعي للقرن التاسع عشر، كان بلا شك دوراً مهماً.
كانت الطاقة
الإبداعية لواقعية القرن التاسع عشر أعظم بكثير من الاتجاهات المذكورة
آنفاً مثل الكلاسيكية والرومانسية، أما فيما يخص منجزاتها الفنية فكانت
وفيرة جداً، وليس هذا نابعاً من شكل الإبداع نفسه فقط، بل من الواقع
التاريخي الذي درسه الفن الواقعي للقرن التاسع عشر، كانت المكتشفات الفنية
لواقعية القرن التاسع عشر، الى حد ما، حصيلة الكشف الشامل لروابط الإنسان
بمحيطه الاجتماعي، وحصيلة تحليل التأثير الذي أوجدته الظروف على الناس.
ان
المعالجة النقدية للحياة في مؤلفات واقعيي القرن التاسع عشر كانت اولاً
قبل كل شيء نقداً مريراً لشروط حياة الإنسان إلا ان الواقعية لم تحصر نفسها
في أظهار اعتماد الإنسان على الظروف لكنها رسمت أيضاً مقاومة الإنسان لهذه
الظروف التي كانت تتعاظم مع الأيام وتجد التعبير عنها في أشكال عدة.