2013-11-08 التناص وما بعد الحداثة
|
| |
تطورت العديد من النظريات النقدية على قاعدة الطبيعة التعددية للعالم المعاصر الذي انحرف عن النظريات الأحادية ومال الى النظريات التزامنية synchronic التي تعالج فيها الظواهر "مثل السمات اللغوية " أو الأحداث بوصفها أنظمة اتصال تامة في ذاتها في أي زمن دون الرجوع الى سياقها التاريخي.
كانت نظرية التناص في خضم هذا المحيط المتلاطم الأمواج حين نُبذ مفهوم التأثير influence لصالح التناص intertextuality بسبب القصور المتأصل في مفهوم التأثير. هذا المفهوم التقييمي الذي يتمحور حول المؤلف ومن ثم كان أداة بالغة الأهمية بيد المؤرخين الأدبيين غير الموضوعيين . و كان من السهل إذا ان يفسح هذا المفهوم القاصر المجال لمفهوم التناص ولكن ذلك لا يعني بالضرورة محاصرة النقد المتمحور حول المؤلف بل توسيع المفهوم ليتناول علاقات متنوعة يمكن ان توجد بين المؤلفين.
االتناص مصطلح نظري أدبي يحمل ملامح بارادايمية , و سيميائية ,و ما بعد بنيوية جديدة. وعلى الرغم من توظيفاته المتعددة إلا ان الغموض وعدم الوضوح متواجد في هذه التوظيفات .ويرجع ذلك إلى عوامل عدة من بينها:
1. إن هناك بعض التعديلات التي دخلت على مفهوم التناص في تاريخ الأدب .
2. إن التناص بوصفه ظاهرة أدبية سيميائية قد شهد تغييرات في الشكل والوظيفة عبر التاريخ ,و كان الموقف منها والوعي بها متغيراً من عصر إلى عصر ،و من شعرية إلى شعرية .
3. فضلا عن ذلك , هناك عدة مصطلحات مختلفة تشير إلى ظاهرة التناص .
4. وأخيرا حقيقة أنه لا توجد تنويعات اصطلاحية للظاهرة فحسب وإنما اختلافات منهجية. فالتناص إذا ظواهر لغوية وفنية وأدبية و سيميائية متأصلة يمكن تقصيها في أدب وثقافة العصور القديمة, لكن توظيفه بوصفه مصطلحا نظرياً أدبيا وتصنيفاً معيارياً نقديا ونظريا وشعريا جاء في العشرينيات من القرن الماضي تحت تسميات مختلفة : الحوار ،و البين ذاتية او التذات ،و الاتصال بين النصوص ، والسياقية .
من المتعارف عليه أن جوليا كريستيفا صكت مصطلح التناص عام 1966 بعد دراستها لنظرية الأدب لباختين الذي قال فيه ان الحوارية dialogism(1 ) لعبة مفتوحة النهاية تتحرك جيئة وذهابا بين النص والمرسل ( الموضوع) , النص والمتلقي ( الذات ) ونص الثقافة . وبذلك يقدم باختين للا- استقرار الديناميكي الذي لا تسمح به الشكلانية التقليدية او البنيوية . هذه الحركة الدائبة بين النصوص جيئة وذهابا والمتأصلة في اللغة تنسف البنية المغلقة المفترضة والمعنى الأحادي لأي نص مشرعة أبواب النص لمزيد من إعادة التخصيص وإعادة الكتابة وإعادة التصوير.من هذا المنطلق فان عمل جوليا كريستسفا يعد نقطة بداية حرجة , فقد وصفت في كتابها (رغبة اللغة ) ـ مستلهمة عمل باختين ـ فضاء نصيا ثلاثي الإبعاد , إحداثياته الحوارية الثلاثة هي : الموضوع أو المؤلف , المتلقي أو القارئ المثالي , والنصوص الخارجية .
وقد ثبت تعريف كريستيفا ومنظري ما بعد البنيوية مثل رونالد بارت ودريدا النظرة الأوسع للتناص التي تقول بان كل النصوص هي تناصات وان التناص هو أساس ومطلب كل اتصال وتواصل وان كل النصوص والخطابات التواصلية مبنية دائما على معايير ومدونات ثقافية موجودة بالفعل . ومن ثم فان النصوص هي " اقتباسات فسيفسائية " تفقد فيها قضية أصل النص أهميتها.
لا تقتصر ظاهرة التناص على الأدب , لقد تجاوزت هذه الظاهرة الاختصاص الأدبي منذ زمن بعيد وأصبحت ذات أهمية مساوية في عالم السينما , ولكنها حملت مفهوما متخما بالدلالة : الشفرات التصويرية السينمائية المتشابكة تبادلياً mutualy interwined cinematographic codes , وينطبق المبدأ نفسه على الموسيقى والفنون الجميلة والمسرح وغيرها من الفنون.
انه يتغلغل في جميع وسائل الإعلام ,إذ أصبح جزءا لا يتجزأ من(وظيفة) الممارسة الفنية الحديثة التي غالبا ما توصف بالترابط الوسائطي والتواصلي intermediality ، والتي تتعرض على الدوام لمزيد من التطوير والتغيير. وانطلاقا من هذا المفهوم يبدو أن لمصطلح التناص مجالا بالغ الاتساع مما يؤهله لأن يكون حاضنة لكثير من الآراء التي تختلف حسب مجال توظيفاته(2 ).
إن أي حديث عن مكانة التناص في الفنون حاليا يقودنا الى موضوع (ما بعد الحداثة) . وعلى النقيض من (ما بعد البنيوية) التي غالبا ما تقارن بما بعد الحداثة فان مصطلح ما بعد الحداثة هو مصطلح يشير الى الحالة الاجتماعية والتاريخية والثقافية الحالية : وبهذا المعنى فان ما بعد البنيوية ليست أكثر من جانب واحد من جوانب ما بعد الحداثة .
كان ما بعد الحداثة موضوع نقاشات عظيمة على مدى العقدين الفائتين فالمصطلح نفسه حواري يتضمن دلالات سلبية وايجابية متنوعة وغالبا فانه يمكننا اعتبار مقالة والتر بنيامين " اشتغال الفن في عصر الإنتاج الميكانيكي " والتي نشرت العام 1968 نقطة مرجعية لتقصي المقاربات السلبية والايجابية لما بعد الحداثة .
أشار بنيامين الى الطريقة التي عملت بها الصيغ الحديثة للإنتاج وإعادة الإنتاج التقني على تشظية الأفكار السابقة المتعلقة بالقيم الجمالية للعمل الفني والإبداعي. وتحديدا فان العالم التقني قد عمل على تحطيم وبعثرة الهالة المقدسة التي تحيط بالعمل الإبداعي.
كان امتلاك النص الفردي في العصر الذي سبق الانتشار الهائل للكتب نادرا وذا قيمة بالغة. وعلى الرغم من تعلق المجتمع المعاصر بالهالة المقدسة للعمل الأصيل التي تتمثل في دفع أثمان باهظة للأعمال الفنية الكلاسيكية الأصيلة , إلا انه وبالنسبة لكثير من النقاد فان حقبة ما بعد الحداثة التي تميزت بإعادة الإنتاج التقني قد سحبت البساط من تحت أقدام الأصالة والإنتاج الأصيل(3 ) .و لعل من المفيد هنا ان نعرج على تناول ما بعد الحداثة في كتاب
( النهاية القادمة للقرن The Coming Fin de Siècle) لستيجيبان مستروفك :
"ما يمكن وصمه بما بعد الحداثة يتضمن هذه الظواهر المتنوعة ,بل والمتناقضة في الغالب : أيديولوجية المحافظين الجدد, ما بعد العاطفية ( 4), الكلبية(5 ), تنحية البنى السردية, المحاكاة الساخرة , التشويش الأسلوبي , المعارضة, الثقافة الفصامية, الثقافة البرازية( 6) excremental culture , والجماليات المضخمة hyper-aesthetics ,تفضيل الصور المرئية على الكلمات , الفانتازيا , التكافؤ الابستمولوجي بين الماضي والحاضر , نهاية منظور التمركز الأوروبي , الروح التجارية, العدمية , والميل الى الواقعية المفرطة , التي لا وجود فيها للتميز بين الحقيقي وغير الحقيقي, وفوق ذلك كله, فان ما بعد الحداثة يعرف على انه هجوم على أسطورة الحداثة, وعلى الإيمان بان تحرير البشرية المتدرج يتم من خلال العلم.
ما يعنينا هنا هو مصطلح الواقعية المفرطة الذي يميز ـ في فلسفة ودلالات ما بعد الحداثة ـ عدم قدرة الوعي على التميز بين الواقع والخيال لاسيما في ثقافات ما بعد الحداثة البالغة التطور من الناحية التقنية .
الواقعية المفرطة هي الوسائل التي تميز أسلوب تعريف الوعي لما هو حقيقي في عالم استطاعت فيه وسائط الإعلام تشكيل وتصفية الحدث او الخبرة الأصيلة التي يجري وصفها . أما منظري هذه الفلسفة فمنهم المُفكر الفرنسي جان بودريار وألبرت بورغمان و امبرتو ايكو.(7 )
ومن ثم فان خبرتنا عن الفنون في المجتمع المعاصر تعود الى إعادة إنتاجها التقني ولهذا فان الهالة التي تحيط بالموناليزا لم تعد موجودة او ربما أصبحت غير ذات صلة بهذه الأنواع الجديدة للإشكال الأدبية(8 ) .
وإذا كان تناص بارت ـ الذي يشير الى التحرر الجذري للدلالة ـ يمكن ان يكون سببا في نوع من السأم أو الضجر , فان التناص الذي ينظر إليه على انه حضور الشفرات والاكليشيهات ضمن الثقافة لدرجة قد تحجب الأصل او تتفوق عليه و انتصار الرأي المجرد doxa على كل ما يمكن ان يقاومه او يعطله , يمكن ان يتسبب في نوع من التكرار او التشبع بالصور النمطية الثقافية . و يبدو ان هيمنة الشفرات والتطبيقات التناصية على سياق ما بعد الحداثة يعود الى فقدان أي سبيل للحقيقة. وقد علق جيمسن على أسلوب ما بعد الحداثة في اجتثاث الأفكار الأساسية التي أطلق عليها العمق بقوله : استبدل العمق بالسطح او بسطوح متعددة التي يطلق عليها غالباً تناصية وهي بهذا المعنى تفتقد الى أي عمق . (9 )
وعلى هذا الاساس يعد ما بعد الحداثة اليوم مصطلحا أساسيا في دراسة الأدب , بل أن قائمة إيهاب حسن للمصطلحات المميزة للحداثة وما بعد الحداثة تتضمن التناص بوصفه مصطلحا يمايز حقبة ما بعد الحداثة .
تتضمن مصطلحات الحداثة حسب حسن : الغرض, والتصميم, والمركزية , والنوع الأدبي/الحدود , والتأويل / القراءة , النص المكتوب للقراءة التقليدية حسب بارت , الأصل/السبب , التي يقابلها على التوالي في ما بعد الحداثة اللعب , الصدفة , التشتت , النص/ التناص, ضد التأويل , القراءة المضللة , ونص الكتابة أو النص المكتوب أي نص التعددية القرائية، المفتوح، المتغير، المتجدد باستمرار , الإرجاء / الأثر.( 10)
ظهرت كتابات ما وراء القص في سبعينيات القرن العشرين وارتبطت بظواهر ما بعد الحداثة وهي في تعريف شديد التكثيف : القصّ الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه أو كما أطلقت عليه ليندا هتشيون السرد النرجسي أي الرواية التي تتضمن تعليقا على سردها وهويتها اللغوية.
لقد تعددت اشتغالات ما وراء القص ولكن ابرز قضاياها كان اهتمامها بالعلاقة بين الواقع والتخييل . إن الواقع لم يعد قابلا للفهم وان التاريخ ليس أكثر من رواية . كما اهتمت بقضية اللغة واعتبرتها نظاما اعتباطيا استبداديا. وناقشت الحالة المفارقية لسلطة المؤلف او أنها جعلته بلا سلطة أحيانا وأبرزت الى الواجهة خيالية الرواية والواقع على حد سواء.
كان للتناص حضور مكثف في ما وراء القص لاسيما (ما وراء القص التاريخي ) فقد أشارت سوزانا اونجا وجوس إنجيل غارسيا لاندا إلى "أن ما وراء القص يرتبط ارتباطا وثيقا بالتناصية " . إذ أن النص والشخصيات المتضمنة تشير دائما إلى نصوص أخرى لمؤلفين آخرين . وبذلك يحقق ما وراء القص النظرية التي تؤكد أن " لا نص موجود بوصفه كلا مستقلا ومكتفيا بذاته عن النصوص الأخرى : خبرة القارئ والكاتب عن النصوص الأخرى تقرر في النهاية شكل النص وتفسيراته" .
وظف ما وراء القص وسيلة أخرى هي الاستيلاء appropriation. تماما كما يفعل مغني الراب شون كومبز الشهير ب " بف دادي" , فان كاتب ما وراء القص المعتدي يأخذ قصة راسخة ويتلاعب فيها كما يشاء هواه . لقد أعاد بف دادي إصدار البومات من السبعينيات مثل " كل نفس تأخذه" و " روكسين" , و"كاشمير " بإيقاعاته وكلماته وتوزيعه وكورسه الخاص. وبالمثل فان كاتب ما وراء القص يأخذ غالباً قصصاً راسخة مثل رحلة " ذات الرداء الأحمر" في الغابة , ومشاعر جوزيف , و قبلة بياض الثلج الساحرة , ويعيد مزجها , وتقسيمها إلى عينات مختارة , وكتابتها تماما كلمسة بف دادي (11 ).
أصبحت معارضة الأساليب القديمة او المزج بين الأساليب والأنواع المختلفة أو "الباستيشية " Pastiche وسيلة ما بعد الحداثة للتعاطي مع الماضي :لإجلاله او للسخرية منه . إنها تمثيل لمجتمع ما بعد الحداثة الفوضوي , المتعدد الأجناس والمظاهر , المشبع بالمعلومات حد الإتخام .
لقد ذهبت أيام الاعتماد على الإلهام وهيمنت فكرة أن كتاب ما بعد الحداثة لم يعد بمقدورهم ابتكار أساليب وعوالم جديدة. فهذه ابتكرت لتوها، والمتاح هو ابتداع عدد محدود من التوليفات التي تعتمد السرقة التناصية المخادعة للحبكات والأساليب والأنواع الأدبية القديمة بوصفها أحد أهم تقنياتها حتى أن ريموند فيدرمان عرف متعة الانتحال pla[y]giarism(12 )ـ في سبعينيات القرن الماضي ـ الذي جلب إحساسا بالنزوة والمتعة" "play للرواية والنقد ، في وقت لاحق دمج الرواية والنقد في حدث واحد أ طلق عليه critifiction ( 13) .
وقد ميزت ليندا هتشيون بين ظاهرتين في كتابات ما بعد الحداثة :ما وراء القص , وما وراء القص التاريخي . و في تحديدها لما وراء القص التاريخي تعد هتشيون ما وراء القص التاريخي احد أنواع الرواية الما بعد حداثية التي ترفض إسقاط المعتقدات والمعايير الحالية على الماضي , وتؤكد على خصوصية وفردية الحدث الماضي.
إذا العلاقة الما بعد حداثية بين الرواية والتاريخ أكثر تعقيدا من مجرد التفاعل والتضمينات المتبادلة . وإن ما وراء القص التاريخي يعمل من اجل أن يموضع نفسه ضمن الخطاب التاريخي دون التنازل عن استقلاليته بوصفه رواية . انه نوع من المفارقة التهكمية الجادة التي تؤثر على كلا الهدفين: التناصات مع التاريخ , والرواية التي تلبس حالة موازية (وان لم تكن مساوية) لإعادة التهكمية من الماضي النصي لكل من العالم والأدب .
يوظف الدمج النصي لهذه الماضيات التناصية ,بوصفها عنصرا هيكليا تكوينيا لرواية ما بعد الحداثة ,على انه تسويق رسمي للتاريخية عالميا وأدبيا. قد يبدو للوهلة الأولى أن التلميح الثابت الساخر من الاختلاف في قلب التشابه هو ما يميز التهكم الما بعد الحداثي عن المحاكاة في القرون الوسطى وعصر النهضة. بالنسبة لدانتي ودكتوراو , فان نصوص الأدب والتاريخ على السواء , لعبه واضحة.
اليوم , هناك عودة في الرواية ـ تتابع هتشيون ـ إلى فكرة الملكية المشتركة غير الحدسية لما هو مضمر في النصوص الأدبية والتاريخية , ولكن هذه العودة إشكالية , بفضل التأكيدات العلنية الما وراء قصية بان كلا من التاريخ والأدب هي بناءات وتراكيب بشرية , وفي الحقيقة أوهام بشرية – لازمة , ولكنها ليست اقل وهمية على الإطلاق بسبب ذلك كله. المحاكاة الساخرة التناصية لما وراء القص التاريخي تمثل وجهات نظر مؤرخين معاصريين معينين: إنها تمنح الإحساس بحضور الماضي , ولكنه الماضي الذي يعرف من نصوصه وآثاره , سواء كانت أدبا أو تاريخاً( 14) .
في رواية ما بعد الحداثة نجد أن الاتفاقيات الخاصة بالكتابة التاريخية والرواية توظف ويساء توظيفها , تنصب وتهدم , تؤكد وتنكر في الوقت نفسه . فضلا عن أن الطبيعة الثنائية (الأدبية/التاريخية) لهذه السخرية التناصية ,هي احد أهم الوسائل التي تكتب وتعرّف بواسطتها الطبيعة المفارقية لما بعد الحداثة نصياً . وهنا يتحدى ما وراء القص التاريخي كلا من المفهوم الواقعي الساذج للعرض , و أي تأكيدات نصية أو شكلانية ساذجة للفصل الكلي للفن عن العالم . ما بعد الحداثة هو فن وعي ذاتي ضمن الأرشيف , وهذا الأرشيف هو تاريخي وأدبي معاً .
ترى هتشيون أن الاستكشاف النظري للحوار الضخم بين الأدبيات والتاريخيات الذي نصّب ما بعد الحداثة , ما كان ليحدث لولا جوليا كريستيفا بتجديدها المبكر للأفكار الباختينية عن التعدد الصوتي المتراكب ,و الحوار الروائي , و التغاير اللساني (الأصوات المتعددة في النص) . لقد طورت كريستيفا من هذه الأفكار نظرية شكلانية أكثر صرامة عن التعددية الغير قابلة للاختزال للنصوص ضمن أو خلف أي نص معطى , ومن ثم فإنها تزيح البؤرة الحاسمة بعيدا عن الفكرة الرئيسية للموضوع (المؤلف هنا) إلى فكرة الإنتاجية النصية . لقد شنت كريستيفا مع زملائها في مجلة تل كويل ,في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات, حملة جماعية ضد الموضوع المنشأ( المسمى الكليشيه الرومانتيكي للمؤلف) بوصفه أصل ومصدر إنشاء المعنى الثابت والمقدس في النص , وبالطبع فان هذا يشككك بفكرة النص كلها ,بوصفها كيانا مستقلا ذاتيا , بمعنى جوهري ( 15).
لا يسبب الربط الرسمي بين الرواية والتاريخ عبر المهيمنات المشتركة من التناصات و السردية , في العادة , اختزالا أو تقليصا في أفق وقيمة الرواية ,بل على العكس تماما, إنها تمنح توسعا وتمددا في الأفق والقيمة. أما إذا ما نظر إليها على أنها محددات مقيدة لما هو مسرود دائما ,فان ذلك يضاف إلى قيمتها الابتدائية كما في رؤية ليوتارد الوثنية , حيث لم ينجح احد على الإطلاق في أن يكون السارد الأول لأي شيء ,أو أن يكون أصل أي سرد ,حتى لو كان خاصا به . لقد وضع ليوتارد هذا الحد عن قصد ليقابل ما اسماه" الوضع الرأسمالي" للكاتب بوصفة مبدع قصته الأصلي ومالكها ومتعهدها.
وتبعا لهذا المفهوم يشترك كثير من كتاب ما بعد الحداثة في هذا النقد الإيديولوجي المضمر للفرضيات المؤسسة لمفاهيم المؤلف والنص. و تمثل التناصية الساخرة الوسط الرئيسي لهذا الانتقاد . ربما لان السخرية ذاتها تحمل تضمينات ايديولوجية متناقضة افتراضاً . لذا يمكن النظر إليها بوصفها محافظة وثورية معاً, إنها صيغة مثالية لانتقاد ما بعد الحداثة , هي بذاتها مفارقة في تنصيبها المحافظ ثم نضالها الراديكالي ضد الاتفاقيات.
ترى هتشيون أيضاً أن مصطلح التناصية كان في كثير من الأحيان محدودا جدا لوصف هذه العملية , وربما يكون مصطلح المنطق الداخلي interdiscursivity أكثر دقة للصيغ الجمعية من أشكال الخطابات التي تنهل منها ما بعد الحداثة بسخرية : الأدب والفنون البصرية والتاريخ والسيرة الذاتية والنظرية والفلسفة والتحليل النفسي و علم الاجتماع ويمكن للقائمة أن تتابع.
هوامـش :
( 1)يرى الدكتور منصور الحازمي في كتابه " ما وراء الأطلال " أن الترجمة الصحيحة لمصطلح باختين ليس ال Dialogism وإنما ال Intertextualit وهي الترجمة التي وضعتها الناقدة جوليا كريستيفا، وقد وظف تودوروف ترجمة كريستيفا في دراسته لباختين، وقد عرفه باختين في دراسته لدوستوفسكي(قضايا الفن الإبداعي عن دوستوفسكي ) بأنه مجموع العلاقات القائمة بين نص ما ونصوص أخرى. وقد ترجمه الى العربية جميل نصيف التكريتي في قضايا الفن الإبداعي عن دوستوفسكي بالعلاقات الحوارية .
(2 ) ينظر : Tracing Intertextuality, Zuzana Mitošinková
(3 ) ينظر : Intertextuality ,Graham allen, 2006
( 4) صك عالم الاجتماع الامريكي ستيجبان مستروفيك مصطلح "ما بعد العاطفية "في كتابة "المجتمع ما بعد العاطفي " عام 1997, والذي وضح فيه انه ليس الأفكار والسلوك هي الموجهة اجتماعيا فحسب وإنما العواطف والمشاعر أيضاُ .المشاعر التي كانت على الدوام تلقائية ولا يمكن تجنبها أصبحت اليوم مفبركة , كاذبة , يجري التلاعب بها خارجيا بتوظيف وسائل الإعلام الجماعي المعتمدة على الصور . لقد فقدت المشاعر أصالتها وأصبحت زائفة كاذبة .
( 5) الكلبية (بالإنجليزية: Cynicism) شكلت مجموع فلسفات اعتقد بها الكلبيون، و هي الفلسفة التي أوجدها أنتيسِتنيس (بالإنجليزية: Antisthenes) في القرن الرابع ق.م. رفض الكلبيون كافة التقاليد ، سواء كانت باسم الدين، الأخلاق ، أو كانت تتعلق باللباس ، أو اللباقة أو غيرها من القيود الاجتماعية، و أيدوا عوضا عن ذلك السعي وراء أسلوب حياة لامادي و بسيط يهدف إلى الفضيلة . بتعبير آخر، الكلبية هي مذهب يقوم على مجاراة الطبيعة و عدم المبالاة بالعرف.في القرن التاسع عشر ، تغير مفهوم الكلبية ليعني سلبية شديدة، و ارتياب عام في نزاهة دوافع الآخرين، خصوصا في القيام بالأعمال الأخلاقية. يمكن أن تتجلى الكلبية في الإحباط ، و خيبة الأمل و غياب الثقة تجاه المنظمات، السلطات، و نواحي أخرى من المجتمع.
(6 ) ينظر: آرثر كروكر : "المنظر ما بعد الحديث: الثقافة البرازية والجماليات المضخمة" The Postmodern Scene: Excremental Culture and Hyper-Aesthetics (آفاق العالم الجديد، مونتريال، 1988).
( 7) ينظر تعريف الويكيبيديا الاليكترونية
( ينظر : Intertextuality ,Graham allen, 2006
( 9) ينظر :المصدر السابق
( 10) ينظر :المصدر السابق
(11 )التجريب في الأدب: يقظة من الافتتنان ,شاون فايدمار ، من كتاب جماليات ما وراء القص دراسات في رواية ما بعد الحداثة ترجمة: أماني أبو رحمة ، دار نينوى للنشر ، دمشق ، سوريا 2010
(12 ) pla[y]giarism :بإضافة حرف y" " إلى كلمة انتحال بالانجليزية plagiarism
( 13) critifiction : نوع من السرد يحتوي نظريته الخاصة ونقدها في الوقت ذاته , يطمس critifiction أنواع السرد الأخرى . عندما أعلن ريموند فيدرمان موت ما بعد الحداثة 1980 , عرف بنوع جديد من الخطاب " نقدي بقدر ما هو روائي". نحن محاطون بالخطابات "يقول فيدرمان" : التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والطبية والقضائية ، وبطبيعة الحال الأدبية. "فلماذا لا نجمعها كلها ، بدلا من إبقائها منفصلة وموجودة "إما / أو " في عالم النص "
(14 ) ما وراء القص التاريخي : السخرية والتناص مع التاريخ . كتاب جماليات ما وراء القص دراسات في رواية ما بعد الحداثة. ترجمة : أماني أبو رحمة ، دار نينوى للنشر ، دمشق ، سوريا 2010
(15 ) المصدر السابق
أماني أبو رحمة