صفحات من يوميات أناييس نين
أوقدتُ الشموع وقلتُ امنحيهم المسرّة
ومن أجل أن أُبهجهم تخليتُ عن النضج -
عندما عزمتُ على ترجمة مختارات من يوميات أناييس نين في اواخر التسعينات وقد حصلت على مجلداتها السبعة، تقاسمت مع أناييس نين متعة الغوص في أعماق النفس الإنسانية، ثم الامتداد إلى خارجها وإلى هوامشها من طريق تقصي الأعماق السحيقة لتأسيس ارتباط حقيقي بالآخر والما حول، وكنت ألهث معها وهي تعوم في هيولى المشاعر والنيات والأزمات الروحية للخلاّقين من أصدقائها، وأمضي معها وهي تكابد علاقاتها المعقدة مع الرجال والنساء، لكأنها تعكس صورتنا في مرايا يومياتها الفريدة وتؤشر الى نقاط الوهج أو الثقوب السود في أرواحنا القلقة والى سلطة الحلم على الواقع اليومي لحياة الخلاّقين. جانب شخصي جدا وأساسي، أغواني للعمل على ترجمتها، إنه خط التطور الروحي والنفسي المتنامي والتبدلات الديناميكية في المواقف إزاء أحداث عصرها لتشكيل فهم أو نوع من خبرة مبنية على التراكم المعرفي، واشتباك العقل مع المخيلة وحدس القلب والتجربة الشخصية. ببراعة الرائية وعِرافة الساحرة، نجحت أناييس نين عبر يومياتها في إجراء فصل دقيق بين العواطف والأفكار، وتجلى ذلك في موقفها من الحرب الأهلية الأسبانية، وفي تطوعها لمساعدة اللاجئين والفارين الأسبان إلى فرنسا، من دون أن تنسى إعلان ازدرائها وإدانتها للقتلة من طرفي الحرب الأهلية. صرحت مرارا بنقدها للتجمعات الماركسية التي أخذت تجيّر الموضوعة الإنسانية لصالح الإيديولوجيا، ولم تتردد لحظة في توجيه نقدها الى شخصيات أدبية لامعة. اهتمت مجلدات اليوميات السبعة التي تغطي سنوات الثلاثينات والأربعينات وصولا إلى السبعينات، بمتابعة مجموعة من الأحداث والأسماء والإنجازات الفنية والحركات الفكرية، وكشفت عن عدد من العلاقات الإنسانية المميزة بين أناييس نين وبعض خلاّقي زمنها، من بينهم هنري ميللر ولورنس داريل وأنطونان آرتو والمخرجة مايا درين والشاعر جول سوبرفيل ودرايزر وسواهم من شعراء ورسامين من أسبانيا وأميركا اللاتينية واليابان. يتلخص سحر حياة هذه الكاتبة في مفردة أساسية وبسيطة ومتاحة لمن يجيد استثمارها: إنها مفردة "الحركة" التي تنطوي على إمكان الانتقال من الواقع إلى الحلم، فهي ترى في الحركة أسلوبا خلاّقاً لتغيير عالمنا من عالم رثّ عتيق، إلى عالم جديد مثير عبر الإبداع والعمل والرحلات والعلاقات الإنسانية المختارة، وتذوق الفنون والاندماج في تيار الزمن، بوعي حركية الواقع مرة، وعبوره إلى الحلم مرات. عُرفت أناييس نين عالميا من خلال نشر اليوميات وترجمتها إلى لغات عالمية عدة، كما اشتهرت في مستهل الأربعينات بكتابها "دلتا فينوس"، وهو كتاب نصوص إيروتيكية كتبتها من أجل كسب سريع للمال، لكنها لم تتخلّ عن براعتها الفنية وشعرية لغتها وخصوصية رؤيتها للعالم. عملت أناييس نين في مستهل شبابها عارضة للأزياء وموديلا للرسامين وراقصة تؤدي الرقصات الأسبانية ومساعدة للمحلل النفسي الشهير اوتو رانك. وكانت لا تزال كاتبة مبتدئة مغمورة حين اقتحمت حياة باريس الثقافية والاجتماعية في عقد الثلاثينات، وإلتقت هنري ميللر وأنطونان آرتو ولورنس داريل، وأسست مع رسام وشاعر منفي من البيرو اسمه غونزالو، دار نشر صغيرة وكانت تنفق كل ما تحصل عليه من أموال لمساعدة أصدقائها الذين كانوا يعيشون في عوز دائم. قفز اسم أناييس نين إلى قائمة أعلى المبيعات في الولايات المتحدة وبريطانيا بعد وفاتها بشهور قليلة سنة 1977 عندما ظهرت مجلدات يومياتها المترجمة إلى عدد من اللغات وحفلت السنون العشر الأخيرة من عمرها بغزارة الإنتاج على رغم معاناتها من مرض السرطان وخضوعها للعلاج الكيميائي في مستشفيات نيويورك واليابان. قدمت عددا هائلا من المحاضرات في الجامعات والجمعيات الأدبية والفنية، فقد أهّلتها براعتها الفنية ومنجزها لاحتلال هذا الموقع المميز وتقديم خلاصة تجاربها للآخرين. ومنحتها إحدى الجامعات درجة دكتوراه شرف تقديرا لإبداعها. كانت أناييس تحتجب أشهرا وتغرق في الكتابة ثم تعود لتنضم إلى مجموعات أصدقائها ورحلاتها ومحاضراتها التي كانت تعيش من أجور تقديمها في الجامعات والجمعيات. وفي العامين الأخيرين من حياتها الحافلة، أصبح من المتعذر عليها التنقل والسفر وإلقاء المحاضرات، إلا أنها كانت تقاوم كل آلامها وتذهب لتحاضر أو لتستقبل مجموعات الطلبة من دارسي أعمالها في منزلها. وقد أشرفت خلال العامين الأخيرين من حياتها على ترجمة يومياتها المبكرة إلى اللغة الإنكليزية على رغم وهن قواها وسقم صحتها.
صدر أول مجلد من اليوميات عام 1966 وتم اختيار مادته من بين جبل من الكراسات التي أودعتها أناييس في بنك بركلي. وشكل ظهور المجلد الأول انعطافة حاسمة في حياتها وشهرتها.
آب 1936
الفن عقيدتي الوحيدة، لا أؤمن بالسياسة، في هذه الفترة نما واكتمل كتاب هنري ميللر "مدار السرطان" وصار عملا ضخما مدوّنا بخلايا اللقاح والدم، هنري يزداد وداعة ورقة ويصبح سهل القياد...
الطقس كان غائما، لا صيف، لا شمس، لا شيء سوى المأساة، صدر كتاب "ربيع أسود".
الساعة الثانية عشرة: أتجول على دراجتي في شوارع باريس وأتساءل عما إذا كانت الحرب قد وصلت إلينا، من مات؟ ومن نجا؟ وإلى أين نمضي؟
كونراد الموهيغان، بطل كتاب "شيطان في الجنة" لهنري ميللر يبدو مثل هندي ابيض له عينان شرقيتان ضيقتان وهو يؤمن بأنه آخر رجل من سلالة هنود الموهيغان، رجل مقتلع من قارة مفقودة وقد اكتسب هذا الشحوب لطول ما أمضى من نهارات في المكتبة الوطنية ينقب ويدرس الكتابات والرموز السرية.
يمتاز موريكاند بمشية بطيئة، يسير كشخص مسرنم، رجل واقع في فخ الماضي ولم يعد قادرا على السير في الحاضر، مثقل بالذكريات التي تكاد تسحقه تحت وطأتها، وهو لا يستخلص من بحوثه وحساباته غير سم الفواجع، لا يرى غير جنون العالم وهذا الانغماس العالمي في المأساة وتبدو الحياة بالنسبة اليه أشبه بظاهرة تبلور ثانوية او عرضية ظهرت على سطح الكوكب، وكنتيجة لهذا يبدو البشر كائنات بلا كثافة ويستطيع رؤية وميضهم ويتحدث عن حدة الضوء أو خفوته في أعماقهم.
منح موريكاند العالم - قبل كل شيء - هذا المظهر الاسطوري الأنيق، فهو يمتلك درعا أريستوقراطية، درعا منيعة تحول بينه وبين إظهار الشكوى والتظلم او التراخي والانفلات، سواء على المستوى الجسدي او الروحي، هذه الدرع الاستثنائية هي الخصلة الوحيدة المتبقية لديه من عالم النبالة.
يعيش موريكاند الان فوق قمة تلة تطل على باريس قرب "لو ساكري كور"، تحت سقف منخفض منحدر لغرفة فندق صغيرة جدا حيث نهايات السطح المائل تلامس أرض الغرفة وراء سريره، ولهذه الغرفة مظهر صومعة رهبنة متقشفة.
غلّف موريكاند كتبه بالسلوفان وبدت ورقة النشاف الموضوعة فوق المنضدة نظيفة خالية من البقع، وفوق الجدران علِّقت نماذج لرسومات الابراج تمتاز بدقة رياضية عالية، وقد رُسمت الخطوط الخارجية للكواكب بالأزرق والأحمر والأسود وهي تتقاطع مع خطوط منازل القمر، ورُسمت خطوط اقتران الكواكب باللون الأزرق... من هذه الغرفة كان موريكاند يراقبنا ويطل على حيواتنا ويتحفنا بنبوءاته، كل ما يحتاجه ساعة الميلاد وتاريخه ومكانه، وبعدها يختفي أياما في مختبره الروحاني، ولا نراه إلا عندما تنبئه الأفلاك نبوءة دقيقة بحسب ادعاءاته. ترى هل كان يعرف حقا متى يحل بي المرض ومتى يجتاحني الجنون؟ أتراه يعرف حقا متى نقع في الحب ومتى نتواصل او ننفصل؟
يعتقد موريكاند أنه يعرف هذا كله، فهو يتحدث تارة مثل طفل وأخرى مثل مهووس شاذ، وثالثة مثل مدمن، وفي حالات اخرى نجده مصابا بالفصام، لكنه مع هوسه بالتنجيم كان شاعرا مهما قبل كل شيء، فنبوءاته عبارة عن قصائد ويملك قدرة طبيعية على الاختفاء والتلاشي ولديه عوالم تحت ارضية خفية، وما شرحه لنا باعتباره "نبتونيا" منتميا الى كوكب نبتون، يتعذر عليّ ايجاد الكلمات له، حالة من اللاوعي والتحولات والنبوءات والأوهام.
-------------
أجدني في حاجة إلى حالة من الانضباط والتحرر من الانفعالات، سأنغمر في العمل والشؤون المنزلية والكتابة ونسخ اليوميات، بينما سيجلس الآخرون في المقاهي يعانون العصاب والحصر والمخاوف والضياع، لقد هجر الجميع العمل والحب والحياة.
الافكار عنصر انفصال، الحب وسيلتنا للتواصل مع الاخرين، العوالم الذهنية ليست اكثر من عزلات، الحب يجعل المرء في عناق مع جميع البشر، مع العالم بأجمعه، تالياً مع كل طرز الخلق.
الخلاّق يبحث حقا عن لغة عالمية، فيفهم الخلاّقون من شتى بقاع الارض بعضهم بعضاً.
كانون الاول 1937
ليلة عيد الميلاد في بايون دور، كافيار وفودكا، أغاني الغجر السيغان، رقصات ملتهبة، طقوس رقص وعربدة مع صحبة من الروس. الروس حطموا الكؤوس على رؤوسهم ولم يتورعوا عن النحيب، الساعة الخامسة صباحا نخرج معهم الى الشوارع: يقظة حقيقية.
هيلين: يروق لها السير في الشوارع، ذهبنا وتناولنا إفطارنا، ثم قصدنا حانة "ميلودي"، كانت هناك اوركسترا أرجنتينية، لم يتبقّ الكثير من الرواد، بضع نساء سوداوات وقلة من الرجال.
السادسة والنصف صباحا والفرقة تعزف موسيقى "باسو دوبل" أسبانية، أنهض وارقص بمفردي، تشجعني النسوة السوداوات والعازفون.
إنها السابعة صباحا.
الفجر ازرق.
ثمة إحساس مهيمن بأنها آخر ليلة للفرح، الليلة الأخيرة لإحتساء الفودكا والرقص والضحك، فقريبا سوف تدوّي المدافع وتنطلق صفارات الإنذار ويبدأ القصف بالقنابل: الحرب والدم والرعب.
فكرة من بلاد الصين:
إذا شئت أن تجعل غرفة تلميذ صغير متقشفة تمتلك حدا أدنى من الجمال، فعليك أن تظهر السعة في المكان الضيق والصغير، وان تظهر الصغر في المكان الواسع.
أسلوب الرسم الصيني يدعى "كنغ لنغ"، أي: الفراغ والحيوية، إنها حيوية متدفقة واقتصاد بليغ في التصميم...
تحدثنا انا وصديقتي هيلين عن هنري ميللر، أخبرتها انه ساعدني في تقبل الحياة بينما ساعدته في تقبل سلطة الخيال التي كفّ عن الإيمان بها لأن اوهام زوجته جون قائمة على فراغ.
خيالاتي إبداعية وحقيقية، لست خيالية من الطراز المنسجم مع القواعد السائدة، أنا خيالية بقوة الحقيقة، تلك القوة التي تؤدي بالأشياء لأن تغدو واقعية، لقد وعدت هنري بأن لا أسلّمه الى الخيبة أو ينال منه الفشل، سأجعل العالم بأجمعه يصغي اليه، وأنا مصممة على هذا الوعد أكثر مما كنت أريد لنفسي تحقيق أحلامي، لكني أضع في اعتباري ذلك اليوم الذي يتوق فيه الخلاّق الى أشياء تخصه وحده وتخص غاياته السحرية.
تساقط الشمع الأحمر على الأرض، شمع أحمر من تلك الشموع التي وضعت على الموائد، ومن شموع الفوانيس، شمع أحمر على المائدة، قناني شمبانيا وفودكا فارغة.
كنا في الليلة السابقة حول المائدة، أنا وغونزالو وزوجته هيلبا وإلزا وغري وفتاة من جاوا والكاتب الكوبي أليخو كاربانتير مع أمه وزوجته.
آمنت بأن مساً من السحر قد حدث، فعندما نظفت البيت صليت داعية ان يتمتع الجميع بالليلة، وعندما اعددت المائدة فكرت أنهم سيفرحون بما أعددت، وعندما طهوت الطعام تمنيت أن يتمتعوا به.
وأوقدت الشموع وقلت:
- إمنحيهم المسرة. وعندما قدمت النبيذ قلت: إستمتعوا به. كانت هناك توهجات من البهجة في الجدران البرتقالية اللون واستمتع الضيوف مع بعضهم. استمتعوا بجمال غونزالو القاتم وبشعر هيلبا الأسود الطويل، وبعيني إلزا المنحرفتين الى الأعلى، وبوجنتي الفتاة الجاوية البارزتين، وبجسد غري الرشيق الراقص، استمتعوا باللحم المحمر وفطائر اللوز الأسبانية...
....................
عندما ينهمك هنري في الكتابة يكون في حالة افتراق عن الحياة، بينما يواصل غونزالو الحياة، يقرأ قليلا، ويوطد صداقة عميقة مع أنطونان آرتو، والأمر ذاته مع بابلو نيرودا. عمل غونزالو مع آرتو في مسرحه، وعندما يتحدث غونزالو "عنهم" فإن "هم" تعني الكائنات الإنسانية جمعاء.
وكل ما يسمعه ويحفظه هو خلاصة ما يعرضونه في أحاديثهم وأفعالهم. فهو لم يقرأ إلا القليل مما أكتبه، عالمه عالم شخصي داخلي وسري.
كان هنري على إنسجام حيوي مع لورنس داريل الذي يعيش في اليونان، وكان داريل معجبا كل الإعجاب بـ"مدار السرطان" وقد أرسل مخطوطة "الكتاب الأسود" الى هنري، كتبت له انطباعاتي حول "كتابه الأسود" فأرسل اليَّ لمناسبة عيد الميلاد قصة كتبها وأهداها اليَّ بعنوان "أسيلوم في الثلج".
تشرين الثاني 1945
أدركت الآن علة شغفي بأصدقاء من الشباب، صداقتي العميقة المفعمة بالرقة والتفهم: ليوناردو، بابلو، مارشال، شارل دويتس. ترى، لماذا لم أتوصل إلى فهم هذا اللغز من قبل؟
أنا الآن امرأة ناضجة كبيرة تخطت سن الشباب، وهم يصغرونني بعشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة وربما أكثر من ذلك.
بابلو يعبّر عن أفكاره بحركات جسدية، وليوناردو يبقى مطوّقا بسُدم المراهقة، تلك السدم المنتشرة الممتدة التي نراها تحيط بالكواكب في مواقعها النائية.
مارشال في العشرينات من عمره، يميزه الدفء والتألق والحيوية شأن كوكب عطارد.
تشارلز دويتس رجل متشكل من كريستالات الشعر الخالدة غير القابلة للذوبان أو التلاشي، عيناه العميقتان تبثّان شارات القلق والارتباك كل آونة.
لم أكن معهم لأني أعتزم حمايتهم أو لأكون دليلتهم وأتولى قيادتهم، بل كنت أرافقهم لأني أشاركهم الأفكار والمشاعر ذاتها. كنت مطالبة بأن أكون تلك الأم الحكيمة أو الملهمة التي تثير التأملات، وكنت مطالبة بأن أكون الكائن الكامل المقاوم لكل تغيير، كانوا جميعا يمثلون حقيقتي الجوهرية التي تقربني من طموحاتهم واحتياجاتهم.
روح الشباب تضيء عالمنا وتعمل على تغييره من عالم قاتم ظالم ومحسوم ومتصلب، إلى عالم متدفق متاح إلى حد رائع، عالم سهل القياد قابل للتشكل والتغيير، وكأنه ولد تواً.
كنت أسميهم "الأولاد الشفافين"، وعندما تجرأ الناقد إدموند ويلسون على الإنتقاص من المتعة التي أجدها في صحبتهم كونهم لا يشكلون صحبة تليق بامرأة كبيرة، وجدت في قوله ما يبعدني فعلا عن النضج ويسحبني إليهم، إلى المستقبل. كانت صحبة إدموند ويلسون - مقابل ذلك - تفتقر إلى المتعة، فهو رجل شره إلى الطعام ويتحول فعل الحب معه حالة واقعية خالية من أي متع روحية، إنه أشبه بالنثر الثقيل، عالمه مكوّن من مجموعة من الأفكار الجاهزة والتقاليد الثابتة، لذا تمردت على تلك التعاليم المنقوشة فوق الصخر والتي يتعذر تغييرها، مثلما هي حياته وكلماته وكتابته: محض نقوش على الصخر. غادرته وعدت إلى عالم الشفافية حيث يتحدث الشباب بعفوية وتلقائية ويتصرفون وفقا لأحلامهم ويبحثون عن سبل لتحقيق أخيلتهم.
في تلك الفترة تخلصت من الرعب والخوف اللذين تملّكاني في مواجهة الجمهور، ووافقت على الظهور في أمسية قراءات شعرية لإحدى الجمعيات. لبثت هادئة طوال النهار وأردت أن أبدو في اكتمال فتنتي، فارتديت بدلة سوداء مع قميص وردي وصحبت صديقتي فرنسيس، وشرع قلبي بالخفقان حتى أوشكت أن أسمع وقع نبضي المتسارع.
كانت الأضواء الساطعة تنهمر أمامي، دهمني الرعب في البدء، ثم قرأت محاضرتي القصيرة ومقطعا من نص روايتي "هذا الجوع" بعنوان "إنها تتحدث مع الطفل في أعماقها". ثم قرأت "راج تايم". صفق الجمهور، لكني لم أستشف ردود الأفعال الحقيقية، إنما أحسست بأنني أكتب نصي هذه اللحظة وأستمتع به أيما استمتاع، كان التصفيق ساخنا وهائلا... وقّعت نسخا من كتبي، شعرت بتألقي وقهري للخوف عبر تواصلي مع قرائي… أواه، لقد تحررت من قوقعتي.
قالت فرنسيس: أحسنتِ القراءة فاستمتع الجمهور.
غادرنا الى ستوديو مايا درين، ورقصت مع بابلو…
لا يستطيع المرء تغيير صورة العالم إلا من خلال العالم الشفاف الذي نبصر الروح عبر شفافيته ونعثر على إمكانات التغيير والخلق، حلم الأولاد الشفافين هو هذا الضوء المنبثق من أعماقهم.
رأيت أحذية شفافة وأغرمت بها. أحب الكريستال. أحب الشفافية.
عن سطوة الخجل: كيف نتعرف إلى المخاوف التي تغيّر كل شيء؟
كانت مواجهة الجمهور المجهول أعظم مخاوفي، أرهبتني التجربة: أن أكون خارج دائرة أصدقائي التي تشعرني بالأمان. بحثت عن السبب وعالجته بالتحليل النفسي، نحن كالأطفال، لقد اعتدنا أن نشعر دوما بأننا لن نكون محبوبين ما لم نكن طيبين (بحسب تعبير الأهل). وعندما نبدأ بتأكيد جوانب شخصياتنا، ينبذنا الأهل.
لقد كبرنا ونشأنا على فكرة أننا إذا كنا أنفسنا حقا، فسنكون مرفوضين ومنبوذين. كذلك شأن الخلاّق، وخصوصاً في ميدان الأدب – نحن نعبّر عن أنفسنا الحقيقية، إنما نخشى أن لا يتقبلنا الآخرون بسبب تعرية الذات الحقيقية، ويبدو علينا الجبن والخجل، نستطيع التغلب على الجبن مع أولئك الذين يفهموننا ويتقبلوننا. وعندما أواجه العالم بذاتي وحقيقتي التي عبّرت عنها في نصوصي، تحدث الأزمات وتحاصرني الاسئلة:
- هل أكون محبوبة؟ هل يرضون عني؟ أم أنني سأتلقى عقابي وأتعرض للنبذ؟
فليسقط الخوف، دخلت التجربة ليلة أمس ونجحت في اجتيازها.
لا تصلح كتابات ادموند ويلسون للجمع بين الأوكسجين والفراشات المحلقة في الفضاء، إنها تنصاع دوما للجاذبية الأرضية وتنحدر في اتجاه الأسفل، ناقد تقليدي يفتقر إلى الإلهام. يقدم ويلسون صورة الكائن الراشد، وهذا يعني - الرغبة - السلطة، المصلحة الذاتية، أهداف عالمية، بينما تكتنف عالم الخلاّقين ضروب من الزهد والنقاء الإنساني.
تشرين الاول 1944 نيويورك
رسالة من مجلة "المطبوعات" يعتذرون عن عدم تقديم عرض لكتابي "شتاء الخديعة" لأنه بعيد عن اللياقة. رسالة من هنري ميللر يخبرني انه سيأتي الى نيويورك ليعود والدته المريضة.
كتبت بورتريهاً عن ستيلا، قمت بتوليفه من شخصية لويز راينر وشخصيات اخرى، اطلقت عنوانا موقتا على روايتي "هذا الجوع" وقسمتها جزءين، الأول بعنوان "خبز" والثاني "ويفر –بسكويت رقيق". يرمز قسم "خبز" إلى الجوع الجسدي الحقيقي بينما يقدّم الثاني الاجابة عن الجوع الميتافيزيقي.
أجرب أن أستلّ شخصيات رواياتي من تضاعيف يومياتي. أجرّب بناء قصة لكن الرواية تضاد الحياة وتناقضها، اكتشف أن الشخوص تنظر بشكل شظايا متنافرة ولا تكتمل مرة واحدة، اما في زمننا المعيش فإننا نادرا ما نصطنع توليفات أو تجمعات، فأنا لا استطيع العمل في رواية ذات شكل مصطنع لأنني ألاحق التداعي الحر من منابع أخرى لأتابع أثر الشخصية لا في تكوينها الخارجي وإنما في حياتها الخفية، في تحولات حياتها الليلية.
تشرين الثاني 1945
أخبرني ليو ليبرمان أنني أبدو في فيلم المخرجة مايا درين شبيهة بالشاعر شيلي، ولي الشفافية التي تميز شخصيته.
حالما أبدأ بالتركيز على مفردة محددة مثل مفردة "الشفافية"، أكتشف أن عدوى استخدامها تفشّت بين الآخرين. إنها كلمة السر، المفردة المفتاح. تمر بي أنا وليو ليبرمان نزوات ونتحدث في الهاتف أحاديث حرة بلا قيود. قال ليبرمان إنه سار عبر النافذة، قلت له أنا موقنة من قدرتك على إتيان هذا الفعل، السير عبر الزجاج من دون أن تصاب بأذى، لأنك تملك هبة الواقع المتحول، نعمة الطيران فوق الأخطار واختراق الزجاج.
- لماذا تقولين هذا؟ لقد كان الزجاج موصدا ولم أصب بأذى.
لم يفهمني إدموند ويلسون قطّ، كان يعتقد أنني مثل أوندين التي لم تعرف الحب ولم تكابد عذاباته، كنت أحيا في مدى الوعي وأكتب دوما عن تلك العوالم الأعمق والأكثر جذرية، لأبلغ منطقة الوعي الجمعي لدى النساء.
ثمة مفارقة في الحياة الحلمية، حلمت بأنني أعيش في بيت عائم، فوجدته، وعشت الحلم كما تمنيت، ولكن عندما لا تحقق الحياة المحلوم بها ذاتها في الواقع، تصبح فخا مأسويا، فهل حقا أننا نختار شخصياتنا وأصدقاءنا بحسب النموذج اللاواعي الذي نحاول البرهنة عليه؟
لم أكن أصدق أنني سوف أواجه أعداء مستحيلين، إدموند ويلسون هو عدو الكتابة والبحث والحب، إنه ناقد مفوّض بسلطة مطلقة على الأدباء، وهو يتربع على عرش صفحة النقد في مجلة "نيويوركر". الناس تنحني للاسم من دون أن تتساءل عن أحكامه.
........
غادرنا ستوديو المخرجة مايا درين، أمسك مارشال يدي وقال:
- أناييس، هيا نركض، إذا ركضنا بسرعة معينة فلن نرى قبح نيويورك!
- ليوناردو: حدسي، وغالبا ما يستفز بطريقة طفولية إزاء إستيهامات مفاجئة.
- تشارلز دويتس: فذ الذكاء، أكثرهم ثقافة وإدراكا.
- مارشال: أكثر خبرة بالحياة، أعمق عاطفة وحرية.
- بابلو: إنه العاطفة بكمالها، كرنفال أنشطة مرحة، عنيف، تميزه قوة جسدية خارقة.
- يبقى ليوناردو نوعا من سديم، غائم ورطب ومعتم كالمسرنم، أما مارشال فإنه مياّل إلى البوح بالمشاعر الإنسانية، جميعهم على قدر هائل من التهذيب والرقيّ، وهو ما حبّبهم إليّ دون سواهم، غير أنهم طوّقوني بنوع من سجن وهمي وأعلنوا استنكارهم لكل ما هو يومي وعادي وتافه وكأنه جريمة كبرى. كانت فرنسيس تقول لي: أنت تبددين زمنك مع هذه العصبة، غير إني كنت أجد الوقت الذي أمضيه في صحبتهم، أكثر غنى وامتلاء من الوقت الذي أمضيه مع إدموند ويلسون. معهم أحس بالإلهام والاندفاع. إنهم يفهمونني بشكل أفضل ويمتلكون المثالية المتطلبة التي تزخر بها الروح الفتية، ومن العسير إرضاؤهم، وهم واثقون من أنك لن تخونهم أو تتخلى عنهم. ولكي تفوز بثقتهم، لا بد أن تحافظ على نقائك، وهم موفقون في معرفة خطوتهم الأولى نحو منطقة الوعي. ومن أجل أن تبهجيهم، عليك التخلي عن النضج، وأن تكون روحك قد نجت من فساد الواقع. إن التناظر ما بين الطفل والفنان يكمن في أن كليهما يعيش في عالم خاص من صنعه هو. وكلاهما، الفنان والطفل، يبتدعان عالمهما الداخلي المحكوم بتخيلاتهما وأحلامهما، إنهما لا يفهمان عالم المال أو السعي إلى السلطة، فهما يخلقان من دون هدف تجاري، متمردان على كل المواضعات السائدة ولا يسعهما إتيان الغش والخداع، يريان العالم الواقعي محكوما بقوانين التسويات والحلول الوسط وخداع النفس وخيانتها. ثمة توازٍ بين اللعب في عوالم المراهقة والخلق الفني. لقد كتب المحلل النفسي د. رانك عن قضية "اللعب والتخيل"، كما كتب الناقد والاس فاولي في الموضوعة ذاتها .
التقديم والترجمة لطفية الدليمي
annahar
[th]< السابق [/th] | [th]التالي >[/th]
الإثنين أغسطس 03, 2015 2:51 pm من طرف Admin