عاشقة هنري ميلر تكتب يومياتها في فاس بين 1914 و1974
محمد نجيم
ضمن منشورات مؤسسة نادي الكتاب في المغرب، صدرت مؤخراً الترجمة العربية لكتاب “فاس مدينة الروح”، وهو مذكرات ويوميات الكاتبة الشهيرة أنانييس نين في المدينة المغربية. المؤلفة المولودة في باريس سنة 1903، هي ابنة عازف البيانو والموسيقار الإسباني خواكيم نين، والمغنية روز. رحلت في سن “الحادية عشرة من العمر صحبة والدتها إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث أصبحت بموجب موطنها الجديد، أميركية الجنسية. عملت كموديل للرسامين ثم راقصة. عاشت نين، منذ منتصف العشرينيات حتى نهاية الثلاثينيات في باريس، وهناك تعرفت إلى فنانين من أمثال أنطونان أرطو وهنري ميلر. كما تولدت عن هذه الفترة صداقة جمعتها بالطالب النمساوي المطرود من حلقة سيجموند فرويد الدكتور أوتو رانك الذي غذى اهتمامها الطويل بالتحليل النفسي ورافقها طيلة حياتها”. وكما يؤكد مترجم اليوميات إدريس الجاي فإنها “بعد عودتها إلى الولايات المتحدة، قامت بممارسة التحليل النفسي كمساعدة بإحدى عيادات نيويورك، التي يشرف عليها الدكتور أتو رانك. ونظرا لقلة المهتمين بنشر كتاباتها، نثرها الشاعري، لجأت في بداية مسيرتها الأدبية، إلى مبادرة فردية، وذلك بطبعها طباعة يدوية. كانت نين تنتمي دائما إلى طليعة الأدباء المعاصرين بأعمال مثل “بيت زنا المحارم” أو مجموعتها القصصية القصيرة “تحت جرس زجاجي”، التي أبانت فيها عن أسلوبها النموذجي حول الواقع الخارجي عبر مجموعة من المواقف والأحلام والتخيلات، وإهمال الحياة الباطنية، كما أنها ليست إعلانا عن المؤثرات السوريالية والتحليل النفسي فقط، بل كذلك عن تأثرها الواضح برسامين أمثال الألماني باول كلي والمخرجة والكاتبة والمصورة الفرنسية أنييس فاردا.
لقد عملت اليوميات التي ظهرت في ستة مجلدات والتي بدأتها سنة 1914 وأنهت كتابتها رسميا سنة 1974، أي ثلاث سنوات قبل وفاتها في لوس أنجلوس سنة 1977، “دورا خاصا ومتميزا في حياة الكاتبة. فاليوميات لم تلق فحسب نظرة سافرة على نفسية الكاتبة، وذلك من خلال رصد تجربتها في الحياة الفنية والأدبية في باريس ونيويورك، بل تعدتها إلى الوصف الدقيق لأحاسيسها الذاتية كامرأة تعد في غاية الأهمية بالنسبة للحركة النسائية”.
في 15 إبريل سنة 1936 سافرت أناييس نين، برفقة زوجها جيلبر هوج، من مرسيليا إلى الجزائر ومنها بالقطار إلى فاس. كانت تلك أول مرة تسافر فيها إلى فاس، في مرحلة عانت فيها من التصدعات النفسية والتمزقات الداخلية والقلق الذاتي، الذي كان من دواعيه: شعورها بالعزلة وكذا عدم قدرتها على التواصل مع الآخرين. كانت تشعر بالحاجة إلى وسيط في علاقتها بالعالم الخارجي. لكن أناييس نين لم تكن ترحل إلى أي مكان بدون يوميات. لأن اليوميات، “رواية أسر في حياة ما، رواية أحاسيس وملامسة أبعاد إيقاعها وتشويقها، وتأثيرها وحركيتها المضادة”.
بعد يومين فقط من وصولها إلى فاس، كتبت من فندق قصر الجامعي إلى هنري ميلر، الذي كان يأخذ عليها عدم القدرة على التحرك خارج عالم يومياتها، لأنها سجينة نظرتها الداخلية، كتبت تقول له، إن كان يرضيه أنها كسرت القيد وسافرت إلى فاس بدون يوميات.
في مدينة فاس وعبر متاهاتها وتعرجاتها، وتداخلها وغموضها المطلق، الطالع من عيون الماضي، عثرت أناييس نين على الطمأنينة والرضى، والسلام الداخلي وعلى النظرة التأملية التي توفر القدرة على رؤية العالم بوضوح كما كانت ترى فاس لحظتها.
يقول إدريس الجاي في تقديمه لهذا الكتاب “لقد انغمست أناييس في فاس، تجوب أزقتها ودروبها المتداخلة كالشهوات، تبحث عن التواصل والحوار بدل التقوقع على بقع المداد والكلمات. مفتونة بسحر الألثمة، بالأبخرة، بالعطور، بالروائح، بالألوان، بالأنفاس، بالحركة، بالسكون وبالغياب الحالم. فقد شغفت بعزة الرجال، طريقة سلامهم، بجمال النساء الخرافي، بغموضهن الذي يعادل غموض حياة بذخ سري متستر بين الأزقة والشوارع المطلسمة، وبنظرات عيون الأطفال المفعمة بعمق أزلي.
العودة ثانية
عادت أناييس نين إلى فاس ثانية سنة 1966 إلى معانقة ذلك الإحساس الحي، للتجول في متاهة دروب ومنعرجات مدينة أنشئت لإمتاع الحواس الخمس. مدينة لا يهتدي إلى الخروج من التواءاتها وتداخل مسالكها، غير مزداد بين أحشائها. عادت الكاتبة ثانية إلى التجول بين الأزقة والشوارع، إلى تتبع منابع روائح استنشقتها في زمن سالف، تنتشي بسحر ألوان تداخلت في مخيلتها، وسكنت وهاد ذاكرتها، وتسللت إلى عمق شعورها الباطني. أثواب وألثمة، أصواف وجلود تجف فوق أسوار وبروج فاس في ألوان زاهية، كأزهار حب الملوك. عادت إلى فاس لتنساب في رحاب التيه من جديد، للانسياق وراء سر فتنة الضياع في دروب ملحومة إلى بعضها، إلى زخم الأسواق المتلألئة، عادت إلى فاس للغرق في سحر مصورات وكنوز متحف مفتوح، لم يتأثر بفعل الزمن، ففاس لم تفقد سرها، لم يهجرها سحرها، لم تنمح من واجهتها إلا صورة شجرة الشعراء قبالة مكتبة جامعة القرويين، وفرسان حسان في ثراء زينة جيادهم، أداروا ظهورهم للمدينة صوب الدار البيضاء. فكما كانت فاس مخدرا، فقد ظلت في عيون أناييس نين، فتنة، سحرا يمنح الطمأنينة ولا قلق عليها إلا من تصدع النقوش، تداعي الزخارف واحتمال اختفاء هذه النظرة البديعة، المنبثقة من طيات ألف ليلة وليلة. حين تاقت روحها إلى تتبع اثر الماضي، إلى نداء لحظة حلم توقفت في فاس، لحظة انسجام الحياة، هرعت إلى البحث عن نداء موغل في البعيد، متجسدا في صورة حكواتي كانت قد ألفته ذات نهار. فوجدته متجددا في شخص شاب تحلق حوله معجبون في أعمار وهيئات متباينة. لقد مضت أناييس نين تجوب لذة تيهها الذاتي عبر المدينة المطلسمة، التي تشبه في تعرجاتها التواءات الدماغ. ومنحت يومياتها الخاصة حرية أن تكتب بانسياب مداد يوميات حزن وفرح الفاسيين، من خلال نفحات السكون، قدسية نداءات الصوامع، زحمة الشوارع، حرارة الأنفاس، غموض الرجال، وقبلاتهم في الشوارع وفي المقاهي، وعبر لغز النساء، وبسمات الأطفال في عدوهم، ولعبهم وابتسامهم عند أبواب المسائد وعبر حياة تعكس مودة الإخاء.
يقول المترجم “كانت فاس توأم عالمها الداخلي، من خلاله كانت ترى العالم واضحا وضوح أديم سمائها أهداها لذة توسيع افقها، وتمديد فضائها نحو الجنوب. حيث أصبح الكون مختزلا في واحات الصحراء، وفي علاقاته وانسجامه، في الطبيعة، في هدأة، وسكون وسلام جنوب المغرب. صورة توراتية، لا يفسد سحرها غير ترهات السياح وانحشارهم في حياة الآخرين، وهم يطاردون فطرة وطهارة الخلق الأول وتلك النعمة الكونية التي أضاعوها في زحمة مدنهم الضائعة في لجة الضجيج والقلق اليومي”.
هناك في الصحراء اشتهت أناييس البقاء، حيث اكتشفت عشقا جديدا للحياة، لنساء فخورات مسربلات في السواد، مثل مشاهد صادرة عن سفر التكوين. اكتشفت أن حياة الصحراء، عقد سلام ووفاق بين الإنسان ونفسه، بين عقيدته والطبيعة. فالإنسان الغربي لا يمكنه بلوغ هذا الوفاق، لأنه لا يتوفر على نعمة الطمأنينة.
صوب مدن جنوبية، قرى نائية بعيدة، رحلت أناييس هاربة من أجواء البورجوازية السياحية داخل الفنادق، بغية الاستمتاع بالمطلق، بمتعة الفضاء الصحراوي، السابح في سبات الليل وحر الظهيرة. هاربة لتتلذذ بذبذبات التراتيل والأذكار المتسللة إلى مسامعها من البعيد. لقد أسرتها صورة العالم الطاهر، الذي يقابله عالم التشتت، الرتابة والتفاهة، التي تعكسها الثقافة والحياة اليومية الغربية.
في الجنوب أسرتها من جديد عيون متقدة، فضولية جليلة، والألوان المتعارضة، الحركة، السكون، الجمال المتوالد، الصحو النقي الصافي، روائح الخشب المحترق، ريح الجنوب، تلألؤ المعادن، شهامة الرجال، وأنفة النساء، مثلما أوقعتها فاس في حبائلها ذات مرة. لقد أعادت، عبر ساحات الأسواق، رقصات النساء وضبح العاديات وأجواء مساحات المدن، اكتشاف عيون المغرب التي أسرتها يوما ما ولم تنسها، بل ضاعت في حنينها. لقد سيجها المغرب بعشق غير مقاوم وأعادتها الصحراء إلى جوهر السر المطلق، الذي يتذكره الإنسان كلما ظمئت روحه إلى الجمال السرمدي، كلما هزه الحنين إلى الألفة، إلى أن يحيى حياة الماضي في الحاضر، في مدن تشبه مدن الروح.
مدينة المتاهة
تصف أناييس نين مدينة فاس بقولها: “فاس المدينة المتاهة” “أنشئت فاس لإمتاع حواسنا الخمسة، وأول ما يمنحنا هذا الانطباع هو رائحة خشب أثاث فندق الجامعي الزكية. نفحة تطالعنا في السوق، وسط حوانيت النجارين. أما ألوان فاس فقد تجلت في غرفتي من خلال الزليج الأزرق، صينية نحاسية وستائر في لونها القمحي، ما أن أزحتها حتى تمددت أمام ناظري، المدينة في ألوانها الطينية. منازل ملحومة إلى بعضها، تتسلق مرتفعات الهضاب، تتحلق هنا وهناك حول مسجد بصومعة ذات زليج أخضر مصقول يلمع عند غروب الشمس. على السطوح يتدلى ما حسبته أول وهلة بنفسجا أرجوانيا، غير أنه ما لبث أن كشف عن جلود وأصواف حيوانات مصبوغة تجف. تبدو وهي معلقة على أسوار وموانع المدينة ككروم كرز مزهرة، تتلألأ تحت الشمس.
لفاس صوامع كثيرة تقارب الثلاثمائة، لكل حي صومعة، تشعر بالطمأنينة والحصانة التي تعد من سجايا الدين الإسلامي. فاس مدينة تستريح في عمق هدوئها وسكينتها التي تذكرني كثيرا بمصورات توراتية. فهذه الهيئات المتحركة، المسربلة في جلاليب ترشح ألوانا متنوعة، تضفي على أعمارها وأوزانها سرا، تبدو كفعل ريشة طفل لم يتعلم قواعد الرسم يوما: بقع ألوان في مصورات منظر طبيعي يتمايل مع الريح: انه اللثام.
ستار يسربل وجوه النساء، البرانس تخفي سحنات الرجال، إنها حياة تسعى إلى الكمال الداخلي، تستلهم حيويتها، نشاطها، إبداعها من سر فن خلق يدوي لا ينضب.
يجثو الفندق فوق أحد مرتفعات فاس، لقد كان ذات يوم قصر وزير، من فوق سطوحه يمكن الإطلال على المدينة بكاملها. فندق حديث شيد على آثار القديم، لكن القديم دائم الحضور. لإحدى غرفه سقف ذهبي مخدع خليلات في الحديقة، بزرابي وردية داكنة وحمراء كأنها سجادات مزهرة، طالعة من خرافة فارسية. سرير فاخر، بلون غامق وعارضة خلفية على هيئة محارة، مرصعة بالأصداف، تفوح بشذى رائحة خشب الأرز، تزينها زخرفة نحاسية. قناديل من نحاس، بعيون غزيرة، عبرها تتسلل أشعة نور لؤلؤي ناعم. وسائد بذخ من حرير وديباج، فرش منخفضة، زينة من الجداريات، الخشب المخروط بعشق ثري، وزخارف بديعة الصنع. دولاب ضخم، عريض من خشب الأرز كان، ذات يوم، حافظا على العشيقات.
ولأن أسواق فاس حدائق تيه حقيقي، فالمرشد فيها فرض، لا يهتدي في مسالكها إلا من ولد في أحشائها. فقد جعلت الدروب منذ نشأتها ضيقة، لتمنح الظل والبرودة وتقي من حر شمس لا ترأف. أزقة يعود بعضها إلى القرن التاسع الميلادي ولا يزيد اتساعها عن متر ونصف. ما أن يغادر الإنسان فناء الفندق، في صحبة المرشد السياحي الوسيم، فارع الطول، الذي يرتدي جلباب صوف بنيا، وبلغة صفراء، حتى ينغمس في المدينة، المدينة العربية العتيقة. هذه المتاهة جميلة، لأنها عالم فن وإبداع يدوي مفتوح، يخاطب من خلال تنوعه الحواس الخمس فينا. في كل دكان، لا يزيد قطره عن مترين ونصف طولا وعرضا، تمارس حرفة، رجال يحوكون، يوشون قفاطين نسائية بجدائل ذهبية، يذبجون حواشيها بشرائط وأصداف معدنية ملونة. ملابس شفافة من ثوب الشاش والجوخ ترتديها الراقصات، تلمع، وهي معلقة، كفضاء صغير، تبدو كرايات قبائل غير اعتيادية. رجل في جلباب أزرق وقلنسوة بيضاء يسوي بلاغي متعددة الألوان، صنعت من الجلود التي سبق أن شاهدناها تجف فوق أسوار وسطوح فاس.
تتوغل الألوان ثرية في وعيي على نحو غير مسبوق، جلباب أزرق سماوي ولثام اسود، جلباب لؤلؤي فضي بلثام أصفر، جلباب كحلي بلثام أحمر، جلباب وردي قان بلثام ارجواني. الملابس تستر الهيئات، تضفي عليها بعدا مبهما، وكل الكثافة وقوة التعبير تختزل في العيون. فالعيون وحدها لسان الجسد، تتحدث عن الذات، عن السن وتترجم شتى أنواع خطابات عمق وثراء الحياة”.
قرية الأساطير
وعن قرية تافراوت الهادئة في الجنوب المغربي، والتي سبق لجاك بيرك أن وصفها بقوله: “إنها وادي الناس السعداء”، تكتب أناييس نين عن تافراوت قائلة “انطلقنا في وقت مبكر على متن سيارة “لاندروفر” برفقة مرشد، طالب فرنسي، وجهتنا جبال الأطلس، جنوب المغرب. لم أكن اصدق أننا غادرنا الضباب، موسيقى الروك الصاخبة، الأجواء البورجوازية الفرنسية في نادي البحر الأبيض المتوسط بأغادير، والرحيل إلى الصحراء. لم يكن الفجر قد بزغ بعد، ولم نكن في اتم الصحو، حين قادتنا جولتنا الأولى صوب تفراوت على الساحل الشمالي للصحراء. لكن أي تعارض، الطبيعة المستوية، بنية اللون مع بعض الأثل، النخيل وقمم الجبال يلفها الضباب. كان لمرشدنا السياحي “فرانسوا كمو” (طالب فرنسي من سلالة جورج ساند) وجه أنثوي بملامح طيبة وهالة حسية. كان وسيما ذا عينين خضراوين وبشرة أنثوية صافية وبسمة ناعمة وخصلات شعر شقراء.
تقول أناييس نين: “كانت الطرق ضيقة غير مستوية. وحين وصلنا إلى تافراوت، أفقنا تحت سماء صافية زرقاء، خالية من السحب وقد انتصبت أمامنا قمم الجبال مثل نصلتي مقص. لم يسبق لي أن شاهدت من قبل مثيلا لهذه الزرقة الطاهرة. لقد ذكرتني القرية الحمراء عند سفح الصخور الرملية، الوعرة، بمساكنها المكعبة، المبنية بأجور مجفف في الهواء، بالقرى الهندية في أريزونا ونيو مكسيكو. فلا مكان يمكن أن يلاقي فيه الإنسان هذا السكون المطلق إلا الصحراء، حيث يمكن سماع العصافير ولا يشاهد غير أطفال بجمال محير، وعيون واسعة سوداء جلية، وقسمات طاهرة. ونساء مسربلات في السواد يجلبن الماء من البئر في جرار طينية، كأنها مشاهد توارتية. والرجال يرتدون برانس سوداء رمادية أو زرقاء باهتة. كان إبراهيم، المرشد السياحي، أمازيغيا في أواخر الثلاثين من العمر، يرتدي هو الآخر برنسا أزرق فوق قميص من ثوب رفيع وعمامة بيضاء. حتى وهو في ثيابه هذه كان خفيف الحركة بشكل لا يصدق. يتسلق كل نخلة سامقة وينزل عنها، دون أن تتمزق ثيابه، أو تتلطخ أو تنقبض حتى.
لطف، أناة، سكينة، وحدهم السياح هم الذين يعطون الانطباع بالتشتت والرتابة وعدم التجانس. إنها ثمرات ثقافتنا الغربية”.
وتضيف “سافرنا عبر الجبال، والمنحدرات وعبر كثبان رملية، في رحلة إلى قرى جبلية منعزلة، ببيوت طينية حمراء، غالبا ما لم تكن هناك طرقات. وبعد ساعات من الغبار والهواء الجاف والحرارة القصوى صار عطشنا رهيبا، عندها أدركت جمال ومميزات واحة ما. الخضرة، الغلال، الظل، الماء وثمة مجار صغيرة غسلنا من مائها أرجلنا، وآبار شربنا من مائها. في سكون الهواء سمعت نايا أو صلاة في المسجد، وزقزقة عصفور، وصرصرة جنادب عالية مسترسلة. غطست أنا وفرنسوا أرجلنا في المجرى الصغير، جدول صاف. وبينما كان يحكي عن عائلته في “أنجو” ذات القرابة مع جورجي ساند، قفز من الجدول ضفدع.
بعد الرحيل في الصحراء، يخيل للإنسان وكأن خضرة الشجر مضاعفة مئة مرة، طعم الماء منعش مئة مرة. تناولنا طعام غذائنا في خيمة مفروشة بالزرابي وصينيات نحاسية قائمة على دعائم مرصعة بالأصداف استعلت كطاولات. وحمل إلى الداخل خروف مغروز بأكمله في سيخ، أكلنا منه بأصابعنا المجردة. كان الكسكس ذهبي اللون وبعد الغذاء قدم الشاي الحلو مع التين المجفف.