إيزابيل الليندي:
أتعلم من خلال الكتابة والملاحظة اليومية
ترجمة / عادل العامل
[جرت العادة، في المقابلات الصحفية، أن يقوم أحدهم بالتحدث إلى أديب على ضوء أسئلة معدَّة وفقاً لمكانة الأديب وشخصيته وأعماله المعروفة. غير أن الكاتبة التشيلية المتألقة إيزابيل الليندي Isabel Allende وجدت، بحكم ظروفها، أسلوباً آخر لإجراء مقابلة معها، وهوأن
تقوم هي نفسها بذلك استناداً إلى الأسئلة الواردة إليها من هنا وهناك، منتقيةً منها ما تجده مفيداً للقارىء ومعبراً عن تجربتها الأدبية.
وهي توضح ذلك بالقول : “ لقد تسلمتُ عدداً لا حصر له
من الرسائل، من طلبة، وأساتذة، وصحافيين، في ما يتعلق بعملي الأدبي. ومن المستحيل
عملياً الإجابة عليها جميعاً. وأأمل أني بهذه الطريقة في اختيار أسئلة والرد عليها هنا سأكون
قد حققت شيئاً من الفائدة. “ ونحن هنا نختار بعض تلك الأسئلة وإجابات الكاتبة عليها ــ المترجم.]
س / هل لديك أنواع أخَر تهتمين بها في استكشافك الأدبي، أم أنك ترين أنك ماضية بالعمل في مجال القصة؟
ج / لقد كتبتُ مسرحيات في شبابي وكنت أحبها ؛ فأنا أحب أن أعمل في فريق. كما أني حاولت كتابة قصص للأطفال حين كان أبنائي صغاراً ؛ وكنت أروي لهم قصصاً في كل ليلة،
وكان ذلك تدريباً مدهشاً لي حافظتُ عليه. وفي عام 2001 كتبتُ روايةً للصغار والبالغين الشباب تدعى “ مدينة الوحوش “. وكتبت الفكاهة لعدة سنين وأظن أن ذلك كان النوع الأصعب على الإطلاق. ولم أحاول كتابة الشعر أبداً ولا أعتقد بأني سأفعل هذا.
س / هل بإمكانك التوسع في فكرة كتابة الأدب القصصي، قول الحقيقة، الكشف عن نوع ما
من الواقع، والكيفية التي يمكن لهذه الفِكَرة أن تعمل بها سويةً أوضد بعضها البعض الآخر؟
ج / أن أول كذبة للقصة هي أن المؤلف يمنح شيئا من النظام لفوضى الحياة : نظام تأريخي
Chronological، أوأي نظام يختاره المؤلف. وككاتب، تنتخب جزءاً من كل ؛ تقرر
أن تلك الأمور مهمة والبقية لا. وستكتب عن تلك الأمور من منظورك أنت. والحياة ليست
هكذا. فكل شيء يحدث على نحوٍ متزامن، بطريقة فوضوية، وأنت لا تقوم بخيارات. فأنت
لست الرئيس ؛ الحياة هي الرئيس. ولذلك فحين تتقبل ككاتب أن تلك القصة تكذب، فإنك تصبح عندئذٍ حراً ؛ ويمكنك أن تفعل أي شيء. وبعدها تبدأ بالسير في دوائر. وكلما كانت الدائرة
أكبر، كلما اسنطعتَ الحصول على حقيقة أكثر. وكلما اتسع الأفق أكثر، كلما سرتَ أكثر،
وكلما تباطأتَ أكثر، كلما كانت الفرصة لديك أفضل للعثور على جزيئات الحقيقة.
س / من أين تحصلين على إلهامك؟ وكيف يعمل هذا الإلهام؟
ج / إنني مستمعة جيدة وصيادة قصص. فلكل واحد قصة وكل القصص هامة وممتعة إذا ما روِيت بنغمة سليمة. وأنا أقرأ الصحف وغالباً ما يستطيع خبر خفي صغير أن يلهمني كتابة
الرواية بكاملها.
فأقضي عشر ساعات أوأكثر كل يوم أكتب لوحدي في غرفة. لا أتحدث إلى أحد، ولا أرد
على الهاتف. فأنا مجرد وسيلة أوأداة لشيءٍ ما يحدث ورائي، والأصوات تتكلم من خلالي.
وأنا أخلق عالماً هوخيال لكنه لا يخصني. لستُ الله ؛ أنا فقط أداة. وفي تلك الممارسة اليومية الصبورة الطويلة من الكتابة، اكتشفتُ قدراً من الأمور عن نفسي وعن الحياة. لفد تعلمتُ.
وأنا لا أعي ما أكتب. إنها عملية غريبة.
س / هل يمكنك أن تحدثينا عن الشخصيات؟
ج / عندما أطوِّر شخصيةً، أبحث في العادة عن شخصٍ يمكنه أن ينفع كموديل ( نموذج ). فإذا ما خطر ذلك الشخص في بالي، أصبح أسهل علي أن أخلق الشخصيات القابلة للتصديق. فالناس
مركَّبون ومعقدون، ونادراً ما يُظهرون جميع وجوه شخصياتهم، وينبغي لشخصيات القصة أن تكون هكذا أيضاً.
وأنا أدع الشخصيات تعيش حيواتها هي في الكتاب. وغالباً ما يتولد لدي شعور بأني أفقد السيطرة عليها. وتمضي القصة في اتجاهات غير متوقعة وعملي أن أدوِّن ذلك، لا أن أرغمه
علي أن يكون وفق فِكَري المسبقة.
س / هل تكتبين بالكومبيتر؟
ج / أنا أسجل ملاحظات على الدوام. لدي دفتر في جزداني وعندما أرى أوأسمع شيئاً مهماً،
أسجل ملاحظة. كما أنني أقتطع أشياء من الصحف وأخبار التلفزيون. وأكتب القصص التي يخبرني بها الناس. وحين أبدأ كتاباً، أستخرج كل هذه الملاحظات لأنها تلهمني. وأكتب مباشرةً بكومبيوتري من دون مخطط تمهيدي، متَّبعةً غريزتي. وعندما تُروى القصة على الشاشة، أطبعها للمرة الأولى وأقرؤها، وعندئذٍ أعرف ما الذي يدور حوله الكتاب. والمخطوطة الثانية تتعامل مع اللغة، والتوتر، والنغمة والإيقاع.
س / ما الذي يحقق نهايةً جيدةً للقصة؟
ج / لستُ أدري. في القصة القصيرة يختلف الأمر عنه في الرواية. فالقصة تأتي كاملةً ؛ وهناك نهاية ملائمة واحدة لها، تشعر بها. فإذا لم تستطع أن تجد تلك النهاية، فليس لديك في هذه
الحالة قصة، ولا فائدة قي أن تبذل مزيداً من العمل بها. وبالنسبة لي تشبه القصة سهماً ؛ يجب أن يكون لها اتجاه صحيح من البداية وعليك أن تعرف بالضبط إلى أين تهدف. أما في حالة الرواية، فأنت لا تعرف أبداً. إنه عمل يومي وصبور، مثل فرز نسيج من ألوان كثيرة. فأنت تمضي ببطء ؛ ولديك في عقلك نموذج. ولكن فجأةً تقلبه فتدرك أنه شيءٌ ما آخر مغاير لذاك.
وإنها لتجربةٌ فاتنة لأن لها حياتها الخاصة بها. في القصة القصيرة تمتلك أنت كل السيطرة على
الأمور، وعلى كل حال، فهناك قصص قصيرة جيدة قليلة جداً. وهناك روايات لا تُنسى كثيرة. وفي القصة القصيرة تُعتبَر كيفية سردك لها أكثر أهميةً مما تسرد ؛ فالشكل مهم جدا هنا. أما في الرواية فإنك يمكن أن ترتكب أخطاءً والقليل جداً من الناس سيلاحظ ذلك. والنهايات السعيدة عادةً لا تمشي معي. فأنا أحب النهايات المفتوحة. وإني أثق بمخيلة القرّاء.
س / أيّ الأمور الكبرى التي تؤثر فيك؟
ج / إنني أنتمي للجيل الأول من الكتَّاب الأمريكيين اللاتينيين الذين تربُّوا على قراءة كتَّاب
أمريكيين لاتينيين آخرين. فقبل زمني لم يكن نتاج كتَّابنا يوزَّع بطريقة حسنة في قارتنا. ولذلك، كان من الصعب جداً، في تشيلي، أن يقرأ الواحد لكتَّاب آخرين من أمريكا اللاتينية. فكانت
التأثيرات الكبرى علي للكتَّاب العظام من موجة الانتعاشة الأمريكية اللاتينية في الأدب. وكذلك
لروائيين روس وإنكليز، ولكتب اليافعين التي قرأتها وأنا طفلة. فمن هذه الكتب حصلت على
الحس بالحبكة والشخصيات القوية. واكتشفتُ الفنتازيا والإثارة العاطفية في “ ألف ليلة وليلة “. وكان للمؤلفات المناصرات للمساواة بين المرأة والرجل اللواتي قرأتُ لهن في أوائل
السبعينات تأثير أساسي في حياتي وفي كتاباتي. وأنا في الغالب أتأثر كثيراً بالأفلام السينمائية.
س / هل خلفيتك كصحافية تساعدك في عملك الأدبي؟
ج / إنني أعمل بالأحاسيس أوالانفعالات ؛ واللغة هي الأداة، الوسيلة. فالقصة دائماً تتضمن
انفعالاً ما عميقاً جداً وهومهم بالنسبة لي. فعندما أكتب، أحاول أن أستخدم اللغة بطريقة وافية بالغرض، الطريقة التي يستخدمها الصحافي ــ لديك حيِّز صغير ووقت قليل وعليك أن تمسك
بقارئك من عنقه ولا تدعه يذهب. وذلك هوما أحاول أن أفعل باللغة : أن أخلق التوتر أوالشد
tension. ومن الصحافة أيضاً أستخدم أشياء عملية، مثل البحث وكيف أُجري مقابلةً وكيف
ألاحظ وأتحدث إلى الناس في الشوارع. وكل هذا مفيد لي ككاتبة.
س / أعتقد أن السموtranscendence هوما تتحدثين عنه، القدرة على التحليق وإلى ما وراء
هذا العالم الواقعي نحوفهمٍ سامٍ للمشاعر والانفعالات. فهل ترَين أن رواياتك تحددها الشخصيات أكثر من أية أمور أُخَر؟
ج / إن من الغريب أن يصنَّف نتاجي الأدبي بأنه واقعية سحرية لأني أرى أن رواياتي هي أدب واقعي فقط. وهم يقولون أنه لوكان كافكا قد ولد في المكسيك، لكان قد أصبح كاتباً واقعياً. وعليه، فإن الكثير يعتمد على المكان الذي يولد فيه الكاتب.
س / ذكرتِ في محاضرةٍ أنك لن تكتبي قصصاً قصيرة أخَر. فهل أنت متصلبة في قرارك بعدم العودة إلى ذلك النوع الأدبي؟
ج / لا أدري. ينبغي لي ألاَّ أقول على الإطلاق أني لن أفعل شيئاً ما أبداً. إن القصص القصيرة تأتي إلى المرء كاملةً. أما الرواية، فهي عمل ــ عمل، عمل، عمل ــ ثم وفي يوم ما تنتهي ؛ لكن القصة القصيرة شيءٌ ما يحدث لك كالإصابة بالانفلونزا ! والقصة القصيرة تتطلب
إلهاماً. ففجأةً، يصيبك وهج من الإشراق الذي يدعك ترى الحدث من زاوية أخرى غير متوقعة كلياً. فأنت لا تستطيع أن تستثير ذلك. إنه يحدث لك. تذهب إلى مكان، فترى أناساً يرقصون، وفجأةً تفهم العلاقة بين أولئك الناس، أويبدولك أنك تلاحظ شيئاً ما هناك لا يمكن لغيرك في الغرفة أن يراه. وبعدها تكون لديك قصة قصيرة.
س / حدثينا عن “ قصص إيفا لونا Eva Luna “.
ج / لقد كُتِبت هذه القصص بصوت بطلة روايتي السابقة : إيفا لونا. ما عدا القصة الأخيرة، التي هي قصة كيف أن رولف كارل يجد فتاةً صغيرة في الوحل فيساعدها على الموت ــ تلك لم
تُكتَب من منظور إيفا لونا. لقد كُتِبت من وجهة نظره هو. وهي قصة حدثت بالفعل، في عام 1985 في كولومبيا. وكان هناك ثوران بركان يدعى نيفادورويز، وغطى انزلاق طيني القرية بالكامل، فمات آلاف الناس. ولم يستردوا معظم الجثث، وأخيراً أعلنوا المكان كله
مقبرة، أرضاً مقدسة. وكان من بين الضحايا فتاة صغيرة، في التاسعة من العمر، تدعى
عُمَيرة سانشيز. وراحت هذه الفتاة ـ التي كان لها شعر مجعد أسود قصير جداً وعينان سوداوان
كبيرتان ـ تتعذب لمدة أربعة أيام، وهي عالقة في الوحل. ولم تستطع السلطات أن تطير بمضخة لتضخ الماء وتنقذ حياتها، واستطاعت وسائل الاعلام أن تأتي بكاميرات التلفزيون
في المروحيات والطائرات والحافلات. وشهد الجمهور، في جميع أنحاء العالم، ولمدة
أربعة أيام، عذاب الطفلة.
س / إنك تكتبين بالأسبانية لكنك تعيشين بالانكليزية في الولايات المتحدة. وتدهشني قدرتك
على أخذ شيءٍ تراه أغلبية العالم عائقاً وتحولينه إلى فائدة. فمعظم الناس يرون في العيش بلغة ثانية أمراً يتَّسم بالتهميش.
ج / لكن ذلك شيءٌ عظيم ! مَن، يا تُرى، يريد أن يعيش في الخِضَمّ؟! منذ فترةٍ، سمعتُ
شيئاً مدهشاً من التلفزيون عن المشكلات التي ستواجهها هذه البلاد في السنوات العشر القادمة ــ
الجريمة، العنف، الافتقار إلى القيم، تدمير الأسرة، حمل المراهقات، المخدرات، الأيدز.
وقد قال أحدهم شيئاً مدهشاً، “ هل لاحظتم أن المهاجرين الجدد ليست لديهم هذه المشاكل؟
لأنهم يأتون إلى هذه البلاد بنفس الأفكار وبنفس القوة التي أتى بها أجدادنا العظام. “ فكونك هامشياً يشبه كونك مهاجراً جديداً. فإذا استطعتَ أن تحوِّل الهامشية إلى شيءٍ ما إيجابي، بدلاً
من الإقامة فيها كشيءً سلبي، فإنه مصدر مدهش للقوة.
س / غالباً ما نتحدث عن صوت المرأة في الأدب، وذلك منظور تكتبين منه على نحوٍ ناجح جداً. فهل كان من الصعب عليك في “ الخطة اللامتناهية “ أن تكتبي بصوت رجل؟
ج / لا. لقد كتبت أيضاً من منظور رجل وبصوت رجل في “ بيت الأرواح “. فبعض أجزاء الكتاب يرويها إستيبان تروبا. ولا أجد ذلك صعباً على الإطلاق. وكان الأمر مع “ الخطة اللامتناهية “ سهلاً لأني استمديت إرشاداً من زوجي. ثم أدركتُ أن التماثلات أكثر من الاختلافات في جنسي المرأة والرجل. فالبشر، أساساً، متماثلون جداً، ولكننا متعلقون
بالاختلافات بدلاً من التأكيد على التماثلات. فحين دخلتُ جلد البطل الذكر، الذي يستند إلى
زوجي، ويلي غوردون، صرتُ أفهمه أفضل كثيراً مما لوكنتُ قد عشتُ معه ثلاثين عاماً.
س / وأخيراً، بمذا تنصحين الكتّاب الشباب والطامحين؟
ج / إن الكتابة تشبه تدرب المرء ليكون رياضياً. هناك قدرٌ من التدرب والعمل الذي لا أحد
يراه للتنافس . فالكاتب يحتاج لأن يكتب كلَّ يوم، تماماً مثلما يحتاج الرياضي للتدرب.
والكثير من الكتابة لن يتم استخدامه أبداً، لكن من الأساسي القيام به.
وأنا على الدوام أطلب من تلامذتي أن يكتبوا في الأقل صفحة جيدة واحدة في اليوم. وفي
نهاية العام سيكون لديهم ما لا يقل عن 360 صفحة جيدة، وهذا كتاب!
عن /