2014-02-22 النص ودلالة الغياب في تفكيكية جاك دريدا
|
| |
هل ثمة من سبيل إلى قراءة حرة للنص Texte تخترق وحدته المزعومة ومتجاورة الإدعاء المعهود لثبات هوية النص وتطابقه معها؟ مثل هذا السؤال الذي ينطلق أمام نظرة الاتساق والتجانس والانغلاق التي لصقت بطبيعة النص والطروحات القديمة حياله لهو جدير برأي دريدا بأن يتجاوز عتبة ما كان مفهوما عن النص باعتباره بنية مغلقة ذات مركز قار ومعنى متماسك بالإمكان إدراكه، تماما مثلما نظر إلى مهمة النقد على أنها محاولة لاكتشاف معناه.
«إن حركات التفكيك لا تتوسل بنى الخارج، إنها ليست ممكنة ولا ناجعة ولا تحكم تسديد يد ضرباتها الإبسكناها هذه البنيات»(1) يقول دريدا، وهو ما يدفع بالنص حسبه إلى عرض طاقته التي تنبئ بمفارقاته وتناقضاته محيلة بذلك إلى العوالم المخبوءة والعلاقات المغيبة في النص التي لم يعلن عنها بعد، فمن مهام استراتيجية التفكيك النفاذ إلى عمق النص لاكتشاف علاقات الغياب، والمسكوت عنه والآثار المغيبة التي لا تحضر بوضوح في النص، سيما وأن القراءة المستعجلة كثيرا ما توهي بإمساكها بمدارات النص بينما تقوم عوالم النص العميقة بالعمل على إخفاء الدوال والآثار التي لا يتسنى لغير قراءة فاحصة تعتمد على التفكيك من اختراق وكشف تلك العوالم بتحرير الدوال والعلامة الخطية من القراءات التبسيطية أو الجاهزة المتسرعة، لأن «مصطلح علامة Signe والذي لم يوضح إلا نادرا وبشكل هزيل من قبل الفلسفة، اللسانيات والسيميولوجيا»(2).
لقد حاول دريدا من خلال التفكيك مساءلة مختلف أنواع النصوص باحثا فيما إذا كان النص فعلا يمتلك معنى Sens سيما وأن اللسانيين يعترفون أن أي تتابع للكلمات أو الجمل لا يكون بالضرورة نصا(3)، وهو لهذا الغرض قام بتفكيك أعمال كثيرة، سواء كانت أدبية Littéraires كتلك المتعلقة بكتابات أنتوني آرتو A.Artaud، جان جينات J.Genet، موريس بلانشو M. Blanchot، فرانسيس بونج F. Ponge، جايمس جويس J.Joyce بول سيلان P. Celan، أو الأعمال الفلسفية Philosophiques مثل أعمال نيتشه Nietzshe ، هيجل Hegel، أفلاطونPlaton، روسو Rousseau وغيرهم.
إن عمل التفكيك في قراءة ومقاربة النصوص عند دريدا لم يضع في أهدافه اكتشاف أو اقتفاء أثر حقيقة معينة بالمعنى الذي كانت ترمي إليه البنيوية مثلا من أن النص يمتلك معنى ما، فالنص وتبعا لدريدا لا يمتلك إلاّ آثارا فهو متوالية لا نهائية من الاختلافات التي تنسجها العلامات الخطية، «فالاختلاف هو الطريقة أو الأسلوب الذي يتم فيه إطلاق طاقة النص على صنع المعنى»(4).
يقوم عمل التفكيك الدريدي على تحرير وتفجير طاقة الدال والعلامة الخطية، بتخصيب مستمر للمدلول من خلال الانفتاح على النص كفضاء للمكن وليس كبنية مغلة تخضع لرغبة ما ينوي قوله كاتب النص، فالنص مع دريدا أصبح لا أصل له لأنه مجموعة نصوص متداخلة ومتقاطعة بخلاف نظرة الاتجاه البنيوي للنص كهيئة مغلقة أو ذو معنى تام، واقعة بذلك البنيوية في فخ الوصفية والتبسيطية معتمة ومهددة - حسب دريدا – بإسكات القوة، أي قوة الاختلاف تحت مطية الاحتفاظ بالشكل والبنية.
أما العلامة الخطية ومن خلال اندراجها في مختلف السياقات النصية الكتابية تؤهل عمل الأثر المزدوج كإمحاء وبقاء مؤجل باستمرار إلى إقامة علاقات اختلاف داخل المكتوب كشبكة نصوص متداخلة، أي كتناص Intertextualité ينتج لعبة التيه واللعب بين العلامات الخطية في نشاط معمم للتطعيم Greffeوالبعثرة والبذر Dessimination في نسيج النّص، «النّص [الذي]هو نسيج «(5) بتعبير بارت.
أصبح النص مع دريدا عبارة عن شبكة من الآثار التي تحيل إلى علاقات لا نهائية من الاختلافات بين العلامات الخطية حيث يبقى نشاط التفكيك مرتبطا أساسا بالقدرة على استجواب النصوص، والغور في لعبة المعاني، أي العمل على تكملة المعنى من خلال تقويض سلطة المعنى الثابت والعمل على فتح القراءة الحرة للدال بتفجير قدرة العلامة الخطية على أفق التأويل إذ «انتقل مؤوّلو النص من البحث عن الحقيقة وعن المعنى القار الوحيد إلى البحث عن المحتمل والممكن وعن المعاني المتعددة»(6)، وبالتالي تجاوز مركزية وسلطة الكلمة الملفوظة وتفكيك المفهوم لأن كلا من النص الأدبي والفلسفي لا يمكنها الاستمرار إلا داخل اللغة المجازبية ولغة الاستعارةمثلما أشار إلى ذلك ينتشه في نقده للإرث الفلسفي كمجموعة استعارات.
ولهذا كان دريدا يعمد إلى التفكير في هذه الظواهر: اللغة، المؤسسة الأدبية، والمؤسسة الفلسفية، تقاطع الاثنين بما أن يكتبه دريدا هو دائما على الحدود بين الاثنين، فهو يستعين في زعزعته لنظام النص على المنهج الترنسدنتالي كما عند كانط وهو سيرل، لكن ترنسندنتالية دريدا لا تعزو لأن تكون عقيدة أو منهجا صارما بقدر ما هي استراتيجية لتجاوز المألوف، وهي بعكس – كانط وهو سيرل – لا ترمي إلى إثبات شيء ما من الأشياء مثل الهوية أو الماهية أو الحضور، وإنما توضع هي الأخرى موضع السؤال والتفكيك، لأن دريدا كثيرا ما أوضح أن كتاباته ليست مخزنا لكتابات جاهزة، وإنما هي مقاومات لكل محاولات التحليل أو التبسيط الجاهز.
كل هذا حذا بدريدا إلى ملاحظة أن الأدب والنقد الأدبي على وجه الخصوص يخضعان في الغالب لهيمنة نظم فلسفية كلاسيكية، أي لجاهزية تصور شكل تصنيف هذه الحقول التي تقصي اختلافية النصوص ومقاومتها رغم أن العديد من الكتابات تفلت من قبضة هذه الهيمنة نظرا لاستحالة احتوائها من قبل الفلسفة أو التأويلية النقدية وهو ما استقطب اهتمام دريدا مثل بعض الآثار المكتوبة التي وقعها مالاري أو باتاي أو آرتو، فمثل هذه النصوص التي هي بنيات غير قابلة للتحديد، تتيح برأي دريدا فسحة للعب وللانتقال داخل الميتافيزيقا ونقضها أو تجاوزها.
لطالما دعا دريدا إلى تحرير فهمنا التقليدي للغة بتفكيك الميتافيزيقا العالقة به، ودفعها للعب دور حرّ بوصفها متوالية لا نهائية من اختلافات المعنى تسمح بقراءة حرة للخطابات دون خلفيات مسبقة وهي الجرأة والإستراتيجية التي تعامل بها دريدا مع النصوص من خلال عمله على التموضع في البنى غير المتجانسة للنص والخروج وحرية الانتقال والغور بين الداخل والخارج لكشف المخبوء والمسكوت عنه وهي نفسها النظرة المحورية التي تفجر طاقة الآثار المكتوبة والاختلاف القائم داخل بنية النص التي تمنحه القدرة على تكوين فضاء لا نهائيا للعبة المعنى والتدليل وطاقة الكتابة(7).
نجد دريدا ينتقد بشدة الانحباس أو البقاء داخل النص الأدبي، أي الانغلاق والاكتفاء بالقراءة الباطنية المحايثة للنص لأنها في رأيه تقوم على الاحتماء داخل الحدود المقامة تاريخيا، والتي تفترض مجموعا كاملا من العقود التاريخية المتعلقة بتأطير النص وتحديد وحدته، ومتنه، وضماناته القانونية وما إلى ذلك من تحديدات اجتماعية وغيرها، وعلى الرغم من أن دريدا لا يعترض على دفع القراءة المحايثة إلى أبعد ما يمكن كخطوة أولى إلاّ أنه يشكك في جذريتها لأنه وبعيدا عن ممارسة ساذجة لسوسيولوجية النص أو لدراسة سيمكولوجية أو سياسة أو لسيرة المؤلف فإنه بحسب دريدا» ثمة بين خارج النص وداخله توزيعا آخر للمجال أو الحيز»(8) ، ويعتقد في نفس السياق أنه سواء تعلق الأمر بالقراءة الباطنية أو بالقراءة التفسيرية للنص عبر مسيرة الكاتب أو تاريخ الحقبة، يظل دائما هناك شيء ناقص.
في تناوله لنصوص مالارمي Mallarmé، بونج Ponge، جويس Joyce، آرتو Artaut، سلان Celan، سيكسو Cixous وآخرين وضح دريدا كيف أنه بالنسبة لكل واحد من هؤلاء كان يلمس عبقرية في تطويع اللغة وتفجير طاقة لعبها وكيف يلمس البذر الضائع Semence perdue للآثار المكتوبة في كتابات هؤلاء(9)، ولعل هذا ما جعل الترجمة أو بصفة أخرى صعوبة استحالة الترجمة Intraductibilité من اهتمامات دريدا المركزة في مشروعه التفكيكي: الترجمة كاختلاف، لأن الجملة حسبه مدينة للأبد للغة أو اللسان وأن جسم الكلمة من هذه الناحية غير منفصل عن المعنى وأن الترجمة لا يمكنها إلا أن تضيعه، لذلك تم التفكير في النص عند دريدا باعتباره نسق من الآثار التي لا تختزل إلى مادية Matérialitéنتائج المكتوب Ecrit .
تقوم ممارسة تفكيك النصوص عند دريدا على تأسيس قوة التشظي في خارطة النص من أجل تفجير وتعرية بنياته المخفية وبيان اللامفكر فيه توسلا بجينيالوجيا نيتشه وفينومينولوجيا هوسيرل وهدمية هيدغر، فاستراتيجية التفكيك تقوم أساسا على مجموعة من المنطلقات التي تتصف بها النصوص وتسم بنيتها، في مقابل الطرحات البنيوية كما تجلت عند غريماس (1917-1992) Greimas مثلا الذي رأى أن النص يتكون من مجموعة إيزوتوبات(10) Isotopies صورية متعددة تمثل الخطاب الملفوظ الذي هو الدال داعيا لاكتشاف مدلوله.
يبدو أن النصوص حتى تلك تعبر فلسفية منها، ليست بسيطة أو ذات معنى واحد، إذ لا يجب حسب دريدا التعامل معها كأنساق مغلقة لأنها تتضمن قوى متناقضة ومرجعيات متعددة مختلفة، لهذا فمن الطبيعي عدم الانسياق وراء المسلمات التي تقول بوجود متكآت أصلية ميتافيزيقية للنص، لأن فكرة الأصل ذات منحى ميتافيزيقي، وهكذا فالنص يحمل بين طياته تعارضات بين دلالته الظاهرة والمستترة الباطنة، وهذا ما يساعد على استنطاقها من اجل الوصول إلى دلالات جديدة تتجاوز سياقها الأصلي، وهذه الخصوصية التي يمتلكها النص عن الاختلافات والتناقضات ترتبط أسسا ببنيته كوحدة مركبة من نصوص أخرى وهو ما يوحي بأن عمل التفكيك يقوم بكشف الاعتقاد القديم القائل بوجود وثوقية وجود معنى ناجز وتام في النص، وأن «العمل الأدبي ينطوي في بنياته الأساسية على متلق قد افترضه المؤلف بصورة لا شعورية وهو متضمن في النص في شكله وتوجهاته وأسلوبه»(11) .
تتعلق فاعلية التفكيك وحركيته الممارسة على النص بما يسميه دريدا بالنقد المزدوج Double critique أو الكتابة باليدين من خلال حركتين متكاملتين: قلب حمولة النص من خلال تفكيك شبكة التعارضات والتراتبيات القائمة بين المفاهيم وتبيان زيفها والتناقضات القائمة فيها، ثم زحزحة لما تم قلبه حتى لا تحل محله الميتافيزيقا من جديد، ثم زرعGreffe مفردات جيدة لتطعمها به لخلق إثارة جديدة للاختلافات وللعبة التدليل التي لا تنتهي عند حد في النص من خلال طاقة العلامة الخطية وقدرتها على تأهيل لعبة الاختلافات داخل نسيج النص.
النص يقوم بتوليد مستمر ومتدفق للدلالة حينما ينتج الدال العلامة الخطية كلعبة متواصلة لا نهائية من دون إتاحة مدلول ما أن يفرض حضوره أي أن يتعالى، وهكذا فلا مجال لإقامة حدود تحصر المعنى، وهنا يلاحظ دريدا أن كل دال Signifiantما هو إلا استعارة Métaphore لتعوم المدلول Signifiéالذي يتحول بدوره إلى دال يقوم بدوره هو الآخر بإنتاج جديد من الدلالات وهكذا تستمر لعبة المعنى والإحالات، إذ ليس من مرجع تقوم عليه العلامة برأي دريدا خارج اللغة، أو بتعبير بارت» العلامة كسر لا ينفتح أبدا إلاّ على وجه علامة أخرى»(11).
هكذا، فالأمر لا يخرج عن كونه مجرد حضور للعلامات في اختلافيتها وصيرورة إنتاجها للمعنى لأننا حسب دريدا لا نفكر إلا بالعلامات التي تفتح مجالا للتعدد والاختلاف في المعاني، وبالتالي تصبح اللغة مدارا لآفاق ذات دلالات كثيرة، وينفتح القارئ على رغبة اللغة ويبدأ البحث عما هو مغيب فيها في أفق سيميائية عامة تفتح المجال لعلم تيولوجيا أو أنماط العلامات(12) الذي يبحث في تنويعات التواصل الممكنة.
إن لعبة Jeu الاختلاف تنتج الكتابة وتوجهمها، وكل عنصر يتكون انطلاقا من الأثر Trace في ذاته للعناصر الأخرى في السلسلة أو النسق، وهذا التحول الذي يتم داخل النسيج هو ذاته النص الذي لا ينتج إلا داخل تغيرات نص آخر، فالنص هو بالأساس إنتاجالمعنى : النص الذي ينتج ويوقع نفسه Se signe.
يستعبد دريدا في استراتيجية تفكيكه للنصوص من أن يكون «هناك نص متجانس Homogène إذ أن هناك في كل نص حتى في النصوص الميتافيزيقية الأكثر تقليدية، قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى عمل تفكيك للنص»(13)، وهذا الموقف الدريدي ترتب عنه بعض ردود الأفعال والنقاشات الحادة مثل ذلك الذي جرى بين دريدا وهبرماس Habermasبخصوص العلاقة بين النص الفلسفي والنص الأدبي، في الوقت الذي يلوذ فيه دريدا في الغالب بالجمالياتEsthétiques لكسر إطلاقية النص الفلسفي ومقاربة العمل الفني من منظور سيميائي(14)، إذ ليس من تعارض- في رأي دريدا- بين المتخيل والحقيقة أو بين الاستعارة والمفهوم، وبحسب هبرماس سعى دريدا إلى تحويل البرهان والحجاج المنطقي إلى بلاغة وبيان، وتحويل المفاهيم الفلسفية إلى مجرد استعارات أو إقحام الأدب بدوره في التأمل الفلسفي، غير أن دريدا يتبرأ من مثل هذه التهم مؤكدا أنه لم يسع إلى المماثلة بين النص الفلسفي والأدبي، وأن كلا النصين متمايزين، برغم إقراره بتعقد وحساسية الحدود الفاصلة بينهما، وبالتدخلات العميقة بينهما.
وهكذا فدريدا يحاول تفكيك الادعاءات التأملية لفكر خالص ومطلق، وتجاوز التقابلات القائمة بين الشعري Poétique والمنطقي ولتراتبية النص الفلسفي والأدبي، ونقده للمؤسسة الأكاديمية في احتكارها لأحقية تحديد طبيعة النص وقيمته، لهذا فهو يدعو إلى تحرير النص من هذه النمطية والقولبة بدعوته لنص متشظٍ ومختلف يفلت من النظرة البنيوية الدوغمائية للنص(15).
لقد أوضح دريدا أن ما كان يهمه وهو يتناول تفكيك نصوص، فرويد، هوسيرل، هيدغر، أفلاطون أو ديكارت ليس الوقوف عند حدود النقد الخارجي ولكن التموقع في البنية غير المتجانسة للنص بهدف العثور على توترات أو تناقضات داخلية، يقوم النص من خلالها بقراءة نفسه، وتفكيك نفسه بنفسه، لأن هناك بحسب دريدا إمكانية أن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه، لأن «النص يتكون ويضع نفسه من خلال تشابك مستمر»(16)، فالنص يملك قوى متنافرة تأتي لتفويضه وتجزئته، وهو ما لا حظه دريدا مع النص الفرويدي مثلا باعتباره يضم بين طياته بقايا طبقات ميتافيزيقية ودوغمائية لم يتم بعد تفكيكها واستنطاقها، ويمكن إخضاعها لذلك من مواقع أخرى وحركات أخرى انطلاقا من عمل فرويد نفسه، أي بمعنى إخضاع النص الفرويدي لتفكيك ذاتي، أي إفساح طاقة التفكيك على عمل إحالة مستمرة للاختلاف القائم في عمق النصوص، وبهذا سعى دريدا من خلال مشروعه التفكيكي إلى قلب المسلمة التي تقول بأن النص يمتلك معنى ثابت Immuable ووحيد Unique، ومن خلال المتكآت النظرية للسانيات والتحليل النفسي يطور مقاربته في تفكيك النصوص، ويعتبر منذ البدء أنه لا يمكن تقبل التناول التقليدي للنص الذي ترتب عنه الوقوع في الأحكام المسبقة والأفكار المغالطة عن طبيعة النص ذاته.
القارئ التقليدي في نظر دريدا يعتقد أن اللغة قادرة على التعبير على الأفكار من دون تشويهها، تغييرها أو تكييفها على الأقل، واعتبرت الكتابة ثانوية في مقابل الكلام الذي هو مصدر المعنى الذي ينويه النص الذي يكتبه، في حين يبين دريدا من خلال بحثه في صيدلية أفلاطون في كتابه البعثرة أو البذر ، Dissémination كيف أن النص يمتلك هذه القدرة على التخفي وان طبقات نسيجة تظل مستعصية على الانكشاف مؤكدا قدرته على اللعبJeu إذ» لا يكون نص نصا إن لم يخف على النظرة الأولى، وعلى المقام الأول قانون تأليفه وقاعدة لعبه»(17).
لا يخفي دريدا من أن اهتمامه الأساسي قبل الاهتمام الفلسفي منصب على الأدب، وعلى الكتابة الأدبية، ويتتبع توازيا مع هذا الاهتمام البحث في معنى الأدب ومعنى أن تكتب(18)، ويخلص دريدا إلى أن الأدب والكتابة الأدبية تتيح بما هي مجال رحب للممكن Possible من مضاعفة لا نهائية لتجربة تفعيل اللعب» ففي الأدب، في السر الفريد للأدب، هناك فرصة لقول كل شيء من دون المساس بالسر Secret «، فالأدب والكتابة الأدبية وبعيدا عن تقليصها في جملة من الخصائص الجمالية أو بعض منابع المتعة الشكلية فإن جوهره الأساسي يبقى في السر، وفي إمكانية تحويل كل نص إلى موضوع أدبي Objet littéraire، الكتابة الأدبية بما هي تسريح وقبول قول كل شيء وكذا بطبيعتها الوظيفية وقدرتها على الاحتفاظ بالسر، أو ما عبر عنه بارت Barthes أيضا بما أسماه بالوهم الرائع Magnifique illusion، وهو ما يسمح به الشعر على وجه الخصوص لأنالشعر هو القوة الأساسية للسكن الإنساني بتعبير هيدغر.
هذه الرؤية التي ينتهي إليها دريدا فيما يتعلق بالنص تفتح المجال واسعا أمام مضاعفة قراءة وتأويل النص وهو الذي يعترف أنه يحس نفسه قريبا من هيدغر من زاوية كثافته الوجودية من تلك التي لدى هوسيرل، وأن هوسيرل يمثل بالنسبة له ذلك الذي لقنه تقنية Technique ومنهج Méthode وانضباط Discipline وأن الفينومينولوجيا تمرين لائق لكل قراءة ولكل تفكير ولكل كتابة.
بهذا يتقدم سؤال القراءة والنص المكتوب واشكالية التلقي Réception كإشكالية تنفتح على فينومينولوجية التلقي الأدبي كإحدى أشكال طاقة الكتابة وحيوية العلامة الخطية في نسيج النص التي تفجر قوة إنتاج لا نهائي للاختلافات: الاختلاف Différance الذي يمكن من القول أنه يستحيل الوصول إلى تحليل نهائي للنص بسبب تبعثر معناه برأي دريدا وهو خلاصة ما أتت إليه تأويليته من أنه لا شيء خارج النص