2014-04-20 خريف ماركيز وربيعنا
|
| |
لم يكن جابرييل غارسيا ماركيز كاتبا لاتينيا، بقدر ما كان كاتبا عربيا بامتياز، فحين وصلت النسخ المترجمة لرواية مائة من العزلة الى منطقتنا، ثم " خريف البطريرك" و" ليس لدى الكولونيل من يكاتبه"، قبل غروب حقبة السبعينيات، كانت حدائق شرقنا الأوسطي تزدهر بالنسخة العربية الجديدة من طغاة لهم ملامح تتشابه مع هؤلاء الذين تناولتهم حكايات ماركيز الساحرة. وحين كنا نقبل على التهام رواياته، من قبل أن تتوجها نوبل بجائزة الاداب عام 1982، كان ماركيز برواياته قد احتل مكانا بارزا في قلوبنا وفي عقولنا أيضا، نحن الذين كنا نكتوى بتسلط غشوم لطبعات جديدة من ديكتاتوريات خارجة عن الزمن، وكانت في مجملها أشد غلظة وغرورا، من هؤلاء الذين مروا على شعوب امريكا اللاتينية، قبل أن تلفظهم في نهاية المطاف، وتفتح نوافذها لخيوط الشمس لتتسلل منها في سكينة. لم يكن ماركيز في ذلك الوقت البعيد، يكتب عن واقع قارته اللاتينية، بل أيضا، عن واقعنا الذي كان قد غادر لتوه زمن الأحلام الكبري، وودع دون رجفة ندم، مشروعا وطنيا كان قد قطع شوطا مهما فيه. وحين تلقفنا كتب ماركيز، وانكببنا على قراءة صفحاتها، كانت صورة جنرالاتنا العتاة تخترق الصفحات، وتبدو شاخصة أمام اعيننا، وكان صوت أحدهم يرتفع في غرور وهو يهدد بفرم معارضيه، ثم ينتقل الى مرحلة أخرى، فيحشر خمسة آلاف وخمسمائة منهم في سجونه، في ليلة واحدة، متفاخرا في خطاب على الهواء بأن أحدهم " مرمي كالكلب في السجن"، وكان طاغية آخر قد فرغ لتوه من ارسال طائرات الوطن لضرب أعداد من المواطنين بالسلاح الكيماوي، ثم انتقل بعدها ليلقي بنحو 180 الف من البشر من المصنفين داخل خانة المعارضة، إلى حفر أرضية رحبة، ناقلا اياهم دون جهد، ودون مقابل، إلى " استراحة الموت الأبدية". وكان طاغية ثالث، يبيد مدينة تاريخية بأكملها، فيما كان جنرال رابع يمارس هوسه الجنسي وهو يتحدث عن الوحدة العربية والافريقية والأممية أيضا، ويطلق على الناس كلابه وكتابه الأخضر. في نفس هذا التوقيت كانت حشود من المشردين الهاربين من نعيم أنظمتنا الرؤوم، تنطلق الى ساحات اللجوء، وخيام التشرد، بينما تتزايد أسماء المطلوبين على قائمة انتظار الوصول الى المطارات مع اطلالة كل شمس. كنا في ذلك الوقت الذي يتناول فيه ماركيز قصص خريف الطغاة في أميركا اللاتينية، نعيش في ربيع ديكتاتورياتنا البازغة، وهي تطل علينا بشعاراتها المندفعة، لتطلق فينا أقصي وعود الأحلام، قبل أن تركلنا فيما بعد من قمة الجبال التي أصعدتنا إليها، لنتهاوي في ذهول على رؤوسنا، بعد أن شربنا المقالب، وصدقناها، بل وتشققت حناجرنا وهي تهتف في حماس للزعيم الأوحد ولجوقة من الطغاة كنا قد تماهينا معهم دون أن ندري. راحت أمريكا اللاتينية تنتفض ضد طغاتها، تحول الزمن هناك الي جهة الضوء، وانقلب بنا نحن نحو الخيلاء وجهالة التسلط، ودعوا هم زمن الارتهان والقبح، وتركونا نحن لنعاقر رعونة قابضي الأرواح، وهي تسخر من أحلامنا، وتبيع البلاد والعباد لأقرب طامع، تمضغنا في أناة، وتستمتع بتصاعد حشرجات أنيننا، تصب اللعنات على الزمان الذي ألقى بنا لنكون من نصيبها، تهين أمالنا وتدوس أمانينا، وتلقي بأحشاء أوطاننا في جعبة الحواة والسحرة، وتروح لترتمي في أحضان الذين يترصدون لأوطاننا، في مقابل أن تضمن بقاءها على رأس سلطتها، بينما نحن نتكلس في نفس أماكننا، نتفرج، نهذي، أو نتمتم بعبارات الأمتنان لولاة النعم، حتى إن بلغنا حدود الربيع، بتنا نشعر بالخوف من أن نكون قد ذهبنا معه الى مجهول. مات غابرييل غارسيا ماركيز الآن، في وقت اختفت فيه ديكتاتوريات قارته، وتهاوت فيه نسخ عتيقة من ديكتاتوريات الشرق، في انتظار أن تكشف الأيام القادمة عن ما سوف يأتي، ذهب " غابو" إلى مستقره الأخير، تاركا لنا سحر سرده، ومرارة سخرياته من خيالات المآتة اللاتينيين، وأشباههم الشرق أوسطيين، من الرجال الجوف الذين أرعبوا بلادا، ظلت تظن مثلما ظننا، أن الهشاشة يمكن أن تخيف إلى الأبد، وإن الانتظارات الراضية بمقسوم الاستبداد، هي من دلائل الفضيلة، وعلامة الطريق السالك الى نعيم الاستبداد. مات " غابو" الساخر، بعد أن تحدث ضمنا عن أحوالنا أيضا، التي تتشابه وأحوال أهـالي " ماكوندو" بلدته المخترعة، وكأنه كان يصرخ في وجوهنا: لديكم من المساخر ما يفوق ما كان لدينا، لديكم أشباه خوسيه غاسبر رودريغز، ديكتاتور الباراغواي الذي جسده أغوستو روز باستوس في روايته البديعة " أنا الأعلى"، وشبيه استرادا كابريرا الذي كان محور رواية " السيد الرئيس" لميغيل استورياس، ولديكم تنويعات على شخصية جيراردو ما تشادو، ديكتاتور كوبا الذي سلط الضوء على استبداده الروائي المهم اليخو كاربنتر في رواية " أسباب الدولة"، ولديكم أو كان، طاغية قريب الملامح من رافائيل ليونادس تروخيليو الذي ظل 30 عاما يحكم الدومنيكان، والذي كتب مايو فارغاس يوسا رائعته " حفلة التيس" عنه. هل كنا ننتظر من ماركيز أن ينبهنا إلى أن لدينا ما كان أشد استبدادا من أوغستو بينوشيه طاغية تشيلي، ومن عائلة سوموزا التي حكمت نيكاراغوا بالحديد والنار عبر ثلاث رؤساء ولمدة نصف قرن، فلماذا لم نكتب نحن مآسينا بعد؟ هل نقول لماركيز وهو يدخل متاهته الأخيرة، أن لدينا ربيعا نحتار في أوصافه، حتى الآن؟ أم نخبره بتوقنا الجارف لأحضان الطغيان، هل نقول أننا استعذبنا الهتاف للأب الطاغي وهو يسكننا؟ ويمدد قدميه في استرخاء؟ هل نقول له أننا اكتشفنا أن عقدة استوكهلم تسكننا؟ وهي السبب الذي يجذر عشقنا الجاف لآباء الطغاة؟ أم نخبره – دون خجل - أننا لم نكن نقصد على وجه التحديد، الدخول من باب الربيع، لأننا لم نكن نستحقه؟ بعد أن بات ربيعنا والخريف في المطاف، يحملان ملامح متشابهة؟