17 أكتوبر 2014 بقلم
حسن قرنفل قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:الموضوع الذي اقترحته مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" لافتتاح موسمها الثقافي لهذه السنة ثري وشائك، وكونه ثرياً يغري باقتحامه بلا هوادة، وكونه شائكاً يستدعي التريث والحذر. ومهما كان الأمر فسيكون من باب الادعاء الكاذب الاعتقاد بأنّ الدقائق المحدودة لهذه المداخلة ستكون كافية للحديث في الأمر بالعمق والوضوح الضروريين، لهذا فإنني أقترح مقاربة موضوع الندوة من خلال تقديم مجموعة من الملاحظات.
الملاحظة الأولى: يشكّل الدين في الفترة الراهنة، والإسلام على وجه الخصوص، الموضوع الأساسي والمفضّل للأغلبية الساحقة من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين المنتمين إلى الفضاء العربي الإسلامي، بغض النظر عن المواقف والإيديولوجيات والمنهجيات وأساليب الاشتغال وطبيعة المقاربة المتبعة في التحليل. ويعكس هذا الأمر بشكل شبه موضوعي أهمية الاعتقاد الديني والسلوكيات الدينية لدى مجتمعات هذا الفضاء العربي الإسلامي، وذلك خلافاً لما نلاحظه في فضاءات معرفية أخرى، سواء تعلق الأمر بأوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان أو الصين، حيث تراجع بشكل كبير اهتمام الفلاسفة والمفكرين بالدين والممارسة الدينية كموضوع معرفي، ولم يعد الأمر يشكل أولوية فكرية. وحين يحصل ويهتم بالدين فلاسفة ومفكرو الفضاءات المعرفية الأخرى، غير العربية الإسلامية، فإنّ اهتمامهم ينصبّ على الإسلام وسلوكيات المسلمين.
ففي أوروبا على سبيل المثال، وبالرغم من أنّ الأغلبية الساحقة من السكان يعتنقون المسيحية، لا يعير الفلاسفة والمفكرون الغربيون اهتماماً يذكر للقضايا الفكرية أو المجتمعية التي تطرحها الديانة المسيحية. وأصبح الاشتغال والبحث في الدين المسيحي والكتابة عنه حكراً على الكنيسة وكبار منظريها، الذين يسعون أحياناً لإيجاد حلول من داخل المسيحية للإجابة عن التحديات الحضارية الجديدة.
ويبقى ـ بصفة عامة ـ عدد الفلاسفة والمفكرين الغربيين الذين يكتبون عن الإسلام أكبر بكثير من أولئك الذين يكتبون عن المسيحية والمسيحيين. وإذا كان الإسلام يشكل الموضوع الأساس لفلاسفة ومفكري الفضاء العربي الإسلامي، فإنّ من المفارقات الكبرى أن نلاحظ التراجع الكبير لتأثير هؤلاء في الرأي العام في الفضاء نفسه، إذ لم يعد الفلاسفة والمفكرون هم صنّاع الرأي وموجهوه، كما لم يعودوا يمارسون أيّ تأثير يذكر على صنّاع القرار أو النخب السياسية المؤثّرة. يشهد على ذلك غيابهم الكبير عن المؤسسات واللجان الوظيفية التي تبث في عدد من القضايا المصيرية (التعليم، الصحة، العدل، منظومة القيم...).
ويمكن أن نُرجع هذا التراجع في التأثير الممارس من طرف الفلاسفة والمفكرين في الفضاء العربي الإسلامي إلى أزمة القراءة في هذا الفضاء، حيث تسجل أضعف نسب المقروئية على الصعيد العالمي لأسباب يطول شرحها. وبالمقابل يتفاعل المواطنون والشباب منهم على وجه الخصوص، في المنطقة العربية الإسلامية مع وسائط الاتصال الحديثة، حيث الإقبال شديد على القنوات الفضائية والإنترنيت بكل إمكاناته المتعددة، من أجل اكتشاف العالم والتعرف عليه والتفاعل معه أيضاً. ولأسباب مرتبطة بالتنشئة الاجتماعية والفكرية للفلاسفة والمفكرين، لم يتجاوب هؤلاء مع هذا التحوّل، وظلوا متشبثين بأساليب وطرق التواصل التقليدية التي ألفوها، وهي كتابة الكتب ونشرها لتباع في المكتبات، أو نشر الأبحاث في المجلات والجرائد، وهم بذلك يعملون على تقليص عدد المتأثرين بأفكارهم والمتفاعلين معها، وهذا ما يكشف عنه حجم مبيعات الكتب في الفضاء العربي الإسلامي.
واستغلّ الوضعية الجديدة المتّسمة بالإقبال المكثف من طرف الشباب على القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية والتفاعلية، جيل جديد من الدعاة وأشباه الباحثين الذين استوطنوا القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية متجهين بأسلوب جدّ مبسط إلى فئات واسعة من الجمهور، والشباب منهم على وجه الخصوص، من أجل عرض رؤاهم وبسط تحليلاتهم لقضايا المجتمع وعلاقتها بالدين، مستغلين في ذلك مهاراتهم التواصلية وقدرتهم على التأثير المباشر على المتلقين دون ابتغاء التعمق في التحليل واستخدام الآليات العقلية الواضحة.
وعلى خلاف الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، أصبح لهؤلاء الدعاة وأشباه الباحثين جمهور عريض يتفاعل مع ما يبثونه. وتحوّلت الدعوة إلى عمل مؤسساتي وإعلامي احترافي، في تركيز شديد على الشباب والنساء. وأصبح هؤلاء الدعاة نجوماً حقيقيين لهم معجبون كثر يعدون بعشرات الآلاف وإقبال شديد من طرف الجمهور. ومن المفارقات الكبرى أنّ وضعيتهم الجديدة هاته أصبحت جدّ مربحة على المستوى المادي، حيث تحوّل عدد منهم إلى أثرياء يكسبون الملايين سنوياً من وراء الدعوة. ومنهم على سبيل المثال عمرو خالد المصري الجنسية الذي أصبحت له شهرة كبيرة جداً ووضعية مالية مريحة جداً، حتى إنّ بعض المصادر الإعلامية تحدثت عن دخل يتجاوز 2.5 مليون دولار سنوياً، كما أنّ موقعه الإلكتروني الخاص يزوره شهرياً قرابة مليونين من الزوّار. ومنهم أيضاً السعوديان عائض القرني وسلمان بن فهد العودة، إضافة إلى عمر عبد الكافي المصري وطارق سويدان الكويتي.
الملاحظة الثانية: تتعلق بحضور الدين في المجتمعات العربية الإسلامية؛ فقد أظهرت كثير من الدراسات واستطلاعات الرأي التي أنجزت على مستوى المنطقة وعلى مستوى العالم أنّ المجتمعات العربية الإسلامية من أكثر المجتمعات تديناً والتزاماً بالتعاليم الدينية. فالإسلام هو الموجّه الأساس لسلوكيات الأفراد في شتى المجالات، ابتداء من أبسط السلوكيات إلى أكثرها تعقيداً وحميميّة. فالإسلام حاضر في حياتنا ومهيمن على رؤيتنا للعالم، إلى درجة أنّ كثيراً من المسؤولين الحكوميين الذين يضعون السياسات العمومية يلجؤون إلى العلماء والفقهاء من أجل مساعدتهم في العثور على الدعم الضروري لسياساتهم ومبادراتهم، من خلال الغوص في القرآن الكريم والسنّة النبوية، بحثاً عن تأصيل لعملهم يقوم على مصادره الدينية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الدور البالغ الأهمية الذي يلعبه الخطباء في توجيه الرأي العام وضبطه.
وغالباً ما كان يقال في السابق إنّ هذه الوضعية راجعة لتفشي الأميّة والجهل. والواقع أنّه بالرغم من التراجع الملموس لنسبة الأميين في الفضاء العربي الإسلامي، فإنّ الدين الإسلامي ما زال يمارس تأثيره الكبير على هذه المجتمعات، كما أنّ الفئات المتعلمة وخريجي الجامعات يشكلون أكثر مكونات المجتمعات العربية الإسلامية تأثراً بالإسلام، وأكثرهم استرشاداً بالدين الإسلامي.
ومن هنا، فإنّ كل الدعوات التي أطلقها ودافع عنها بعض المفكرين والباحثين في المنطقة العربية الإسلامية والداعية إلى تبني العلمانية وقيمها، وانسلاخ هذه المجتمعات عن مرجعياتها الدينية، قد لاقت فشلاً ذريعاً وظلت ضعيفة التأثير في الجماهير العريضة. الأمر الذي يظهر أنّ معركة العلمانية في هذه المجتمعات معركة فاشلة. غير أنّ هذا لا يعني أنّ قضية الإصلاح الديني قد دُفنت بشكل نهائي، وإنّما يعني ضرورة قيادة معارك فكرية تهدف إلى تجديد التفكير الديني، وتبنّي نظرية مقاصدية تبتغي إحلال الغايات الكبرى للدين، بدل اللجوء المستمر إلى التراث الإسلامي من أجل البحث عن حالات شبيهة بالحالات التي تطرح في واقعنا الحالي كي نسترشد بها.
الملاحظة الثالثة: هي أنّ حركة التجديد في الفكر الإسلامي قد ظهرت ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر منطلقة أساساً بشكل صريح أو مضمر من السؤال المركزي التالي: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر المسلمون والعالم الإسلامي؟ وارتكز هذا السؤال الكبير وقتذاك على واقع يؤكده. واقع كان يشكو فيه الفضاء العربي الإسلامي من تخلف رهيب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري. وكان المفكرون المنتمون إلى هذا الفضاء يشعرون بحرقة كبرى ويعانون من كثير من الإحباط حين يقارنون بين واقع المجتمعات العربية الإسلامية والمجتمعات الغربية، ويزدادون اقتناعاً بضرورة اتباع النموذج الغربي على كل المستويات، ابتغاء الخروج من وضعية التخلف والتأخر.
ولكن ابتداء من تسعينيات القرن الماضي ستتغير الأمور بشكل كبير في بعض دول المنطقة العربية الإسلامية، حيث تمكنت دول الخليج بفضل مخزونها الكبير من مواد الطاقة التي أصبحت تشكل العصب الحي للاقتصاد العالمي وما يوفره ذلك من موارد مالية ضخمة لهذه الدول بفعل ارتفاع استهلاك البترول والارتفاع الصاروخي لأسعاره، تمكنت إذن هذه الدول الخليجية بشكل تدريجي من الخروج من وضعية التخلف الاقتصادي، حيث حققت إنجازات كبرى على مستوى البنيات التحتية الأساسية، فشيدت الطرق والمطارات والموانئ، كما بذلت مجهودات كبرى على مستوى توفير الخدمات الاجتماعية الضرورية مثل التعليم والصحة وشتى أنواع المساعدات الاجتماعية. وتمكنت بذلك هذه الدول من احتلال مواقع متقدمة على مستوى التصنيف الدولي في ما يخصّ الدخل الفردي والخدمات الأساسية والتنمية الاجتماعية وتوفير التعليم وعدد خريجي الجامعات، حتى فاقت في ذلك بعض الدول الأوروبية الكبرى. وشيئاً فشيئاً لم يعد ينظر إلى هذه الدول على أنّها دول متخلفة، بل على العكس، أصبحت على مستوى التجهيزات الأساسية والبنيات الاجتماعية والخدمات المقدمة لمواطنيها تنافس الدول الغربية.
ومن هذا المنطلق، لم تعد مسألة تخلف الدول مقترنة في تصور كثير من مواطني الفضاء العربي الإسلامي بالانتماء إلى هذا الفضاء، وترسّخ النموذج الخليجي كنموذج يُحتذى، خصوصاً أنّ المجتمعات الخليجية تُعتبر مجتمعات محافظة يحتل فيها الإسلام مكانة أساسية ويوجه سلوكيات الأفراد بشكل كلّي. ومن ثمة أصبح النموذج الخليجي نموذجاً يُراد تقليده من طرف باقي المجتمعات المنتمية إلى الفضاء العربي الإسلامي. ويبقى مع ذلك فرق أساسي بين دول الخليج وباقي دول الفضاء العربي الإسلامي، وهو أنّ هذه الأخيرة لا تتوفر على الموارد الطبيعية التي تتوفر عليها الدول الخليجية بسخاء كبير.
وهكذا أصبح هنالك اعتقاد عند البعض أنّ الإسلام لا يقود بالضرورة إلى التخلف والتأخر الاقتصادي والاجتماعي، بل على العكس يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تنخرط في مسار التقدم التقني والعلمي دون التفريط في معتقداتها الدينية، الأمر الذي أعاد للإسلام، كمنظومة فكرية، مكانته السابقة بالنسبة لبعض المجتمعات العربية الإسلامية، مع فارق أساسي هو أنّ الدول العربية الإسلامية مدينة لحالة الرفاه والغنى التي تعيش فيها للبترول وموارده المالية، وأنّها تظل لحد الساعة مستهلكة للتكنولوجيا ومستوردة لأحدث التقنيات والسلع الحديثة دون قدرة على المساهمة بشكل بارز في المجهود العلمي المبذول من أجل إنتاج هذه التكنولوجيا.
الملاحظة الرابعة: هي أنّ الإسلام يوجد في صلب الحياة المعاصرة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية أصبحت الدول العربية الإسلامية والدول التي تتوفر على أغلبية مسلمة طرفاً أساسياً في كلّ النزاعات الدولية. انطلاقاً من النزاع العربي الإسلامي، ومروراً بحروب الخليج المتتالية: العراق/إيران، العراق/ دول الجوار والمنتظم الدولي، حرب أفغانستان أيام الاتحاد السوفياتي، والتدخل الأمريكي لملاحقة طالبان، والحرب على الحدود بين الهند وباكستان، ثم الحرب في السودان التي أدّت إلى ظهور دولة في جنوب السودان منفصلة عن السودان الشمالي المسلم. وفي هذه الحالة الأخيرة، لا بدّ من التذكير بالمسؤولية المباشرة للحكومة السودانية ذات التوجه الإسلامي في حدوث هذا الانفصال، بإصرارها على جعل الشريعة الإسلامية مصدراً وحيداً للتشريع في كلّ بلاد السودان في تجاهل تام لحقوق مسيحيي الجنوب والأنيميين، الأمر الذي أدّى إلى تعاطف المنتظم الدولي مع جنوب السودان والضغط لحصوله على الاستقلال عن السودان. وفي هذا الصدد، فإنّ الكاتبة السويسرية كريستينا برجمان المقيمة في مصر ذكرت في برنامج تلفزي مصري أنّها كانت شاهدة عيان على قطع يد سارق في السودان، لأنه سرق موزة. ولاشك أنّ ما يقع اليوم في سوريا والعراق وإعلان ما يُسمى دولة الخلافة في بعض أراضي البلدين يؤكد ما قلناه من أنّ الإسلام والمسلمين أصبحوا طرفاً أساسياً في معظم النزاعات الدولية.
وأمام هذه الوضعية، أصبحت الدول الغربية شديدة الاهتمام بالقضايا المرتبطة بالإسلام، وظهرت مراكز بحث مختصة تهتمّ بدراسة واقع الإسلام والبلدان الإسلامية في محاولات استباقية لرصد بؤر التوتر والصراع التي يمكن أن تظهر في الفضاء العربي الإسلامي.
الملاحظة الخامسة: هي الانتشار الواسع والكبير للإسلام في كلّ أنحاء المعمورة، حيث يمكن القول اليوم إنّه لا يوجد بلد في العالم، أو يكاد لا يوجد بلد ليس فيه مسلمون. فالإسلام منتشر في القارات الخمس، والمسلمون في معظم دول العالم يتمكنون من ممارسة شعائرهم الدينية دون تضييق أو حصار. وقد تمّ هذا الانتشار الكبير للإسلام في العالم ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين بفضل سياسة الهجرة التي انتهجتها كثير من الدول الغربية بفعل التراجع السكاني الذي عرفته بعد الحرب العالمية الثانية. وتحوّلت هذه الهجرة إلى هجرة دائمة بعد قدوم عائلات المهاجرين وحصول أعداد كبيرة منهم على جنسيات هذه الدول بفعل الولادة (بالنسبة للأبناء) وبفعل الإقامة الطويلة بالنسبة لجيل الآباء.
وبذلك تحقّق اليوم أكبر انتشار للإسلام في العالم منذ ظهور الدعوة النبوية،مع التأكيد على أنّ هذا الانتشار تمّ بسلاسة كبرى ودون إراقة دماء. كما يشهد العالم باستمرار اعتناق الآلاف للديانة الإسلامية، خصوصاً بفضل الزواج المختلط، حيث يحرص الذكور والإناث المسلمون على أن تعتنق زوجاتهم وأزواجهن الدين الإسلامي