30 نوفمبر 2013 بقلم
يحيى اليحياوي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:لسنا من الذين يركزون في التسميات كثيرًا، تسميات من قبيل "الاقتصاد الجديد"، أو "التنمية المستدامة"، أو "الرأسمالية الشعبية"، أو "الإعلام الجديد"، أو ما سواها. ولسنا ممن تستهويهم أطروحة النهايات، من طينة "نهاية التاريخ"، أو "نهاية الجغرافيا"، أو "نهاية الصحافة" أو ما سواها، وهي تعبيرات انطباعية واختزالية، ومن باب الموضة أيضًا، لا تقرأ الظواهر في سياقها العام المحيل حتمًا إلى المعاني الصرفة المفيدة للتحليل، بقدر ما تقرأها مع منسوب هالة مبالغ فيها.
وعبارة "الإعلام الجديد"، التي شاعت من مدة غير بعيدة، هي من تلك التسميات التي ترى أن الإعلام، الإعلام التقليدي، بروافده المختلفة المكتوبة والمسموعة والمرئية، قد انتقل إلى مرحلة جديدة من مراحل تطوره، بحكم الطفرة التكنولوجية التي طاولت ميادين الإعلام والمعلومات والاتصال، وانفجار الشبكات الرقمية، وفي مقدمتها شبكة الإنترنت. وانفجار القنوات الفضائية الباثة عبر الأقمار الصناعية، أو تكنولوجيا كوابل الألياف البصرية، والملتقطة بالحواسيب، والهواتف النقالة، وسواها. هذه هي خلفية التسمية، خلفية تستحضر البعد التكنولوجي، وجانب الإنترنت تحديدًا، للقول ببروز أشكال جديدة في الإعلام.
صحيح أن العديد من المنابر الإعلامية "التقليدية"، ولا سيما الورقية منها، قد انتقلت من الطبعة المعتادة إلى صيغ جديدة، من خلال التواجد على الشبكة العالمية للمعلومات الإنترنت، لا بل منها من ألغى الصيغة الورقية جملة وتفصيلاً مبكرًا، كما هي الحال مع كريستيان ساينس مونيطور مثلاً. وصحيح، أن الشبكات الإلكترونية قد مكنت المنابر الإعلامية من توسيع مجال انتشارها ورواجها. وصحيح أن ذلك قد مكنها من تخفيض التكاليف المرتبطة بطابعها التاريخي المعروف، وأن الشبكات الرقمية تجاوزت على الصيغ "التقليدية" بفضل مرونة الأولى وآنيتها ويسر امتطاء ناصيتها وسهولة تحيينها وتفاعليتها مع المتلقي، وهكذا.
هذه أمور صحيحة إلى حد ما، إذ إن التواجد على شبكة الإنترنت، لا يتطلب من أي مشروع إعلامي استثماراتٍ ضخمة ولا تجديدًا في الآليات ولا طاقمًا موسعًا في الصحفيين، ولا رتابة في تحيين المعلومات، ولا إمكانات لوجيستية وإدارية وبشرية وما سواها، وهي أمور صحيحة إلى حد ما، بالقياس إلى انحسار مد المنابر التقليدية، في ضمان "ثقافة القرب والتفاعلية"، مع متلقٍ تطورت حاجاته وتنوعت، وبات محكومًا بهوس السرعة والمعلومة الآنية، والموقع المتيح لسبل الرد والتعليق. وهذه كلها مزايا ضمنت لـ"الإعلام الجديد"، أقصد المقتني للشبكات الرقمية، نسبة متقدمة من التفوق على المنابر التقليدية.
ولو قسنا المسألة من زاوية الرسالة الإعلامية، فإن التمييز بين القديم والجديد غير ذي معنى، أعني هنا، أنه لو فصلنا الرسالة عن حاملها، لما كان ثمة حاجة لذات التمييز بالمرة. فالاختلاف هو اختلاف الحامل، مع احتفاظ الرسالة بوظيفتها ودورها ومكانتها. وعليه، سواء كان الحامل صحيفة أم محطة إذاعية أم قناة تلفزية أم موقعًا على الشبكة، فإن الرسالة تبقى هي هي، لا تتغير، اللهم إلا في سرعة الوصول للمتلقي. وإن بعضًا من التفاعلية، التي تضمنها التقنيات الجديدة في الإعلام والمعلومات والاتصال، ولا تمكنها المنابر الأخرى إلا بصيغ نسبية، متأخرة في التوقيت عمومًا.
وعليه، فإننا لا نستحب كثيرًا، هذا الطرح المبني على التقاطب بين القديم والجديد، من زاوية النظر إلى أن تاريخ التقنيات هو تاريخ تراكمي وتكاملي، ولا يلغي السابق فيه اللاحق، بقدر ما قد يثريه ويغنيه، ولربما يفتح له سبلاً جديدة.
إن إعلام نهاية القرن العشرين وبداية هذا القرن، كان ولا يزال إعلام مجموعات، وشبكات إعلامية، ووكالات أنباء عالمية، وبنوك معطيات معلوماتية، غالبًا ما تتحكم فيها الشركات متعددة الجنسيات الغربية. وهذه ملاحظة يسهل التأكد منها على مستوى الصحافة المكتوبة، وعلى مستوى الشبكات التلفزيونية العالمية، التي غالبًا ما تكون خلف إنتاج المعلومات، والأخبار المتداولة عبر العالم، وحول مجمل قضايا العالم، بمراسليها ووكالاتها، وقدرتها على تغطية كل بقاع الكون بمقياس الآنية والسرعة والتواجد بالقرب من مكان الحدث.
وقد نسلم بأن حدة الاستقطاب قد خفت نسبيًا بظل الشبكات الإلكترونية، والتجاوز النسبي على احتكار وكالات الأنباء العالمية للمعلومة والخبر، وتراجع مد الشبكات التلفزيونية العالمية، بحكم بروز شبكات تلفزيونية موازية، وإن بإمكانات محدودة. إلا أن الملاحظ أن ذات الاحتكار قد انتقل إلى الشبكات، فباتت محركات البحث، كغوغل مثلاً أو ياهو أو ألطافيسطا أو غيرها، متحكمة فيما يروج من معلومات وأخبار وصور، الحي منها كما القار، وبات بإمكانها تزويد وكالات الأنباء بالأخبار، لا بل إن العديد من الصحفيين اتخذوا من مواد ذات المحركات مصادرهم في الإخبار والتثقيف والترفيه.
وعليه، فقد تحولت هذه المحركات إلى حوامل "جديدة" حقيقية، لتمرير إعلان الشركات الكبرى والترويج لإشهارها، بعدما تأكد للشركات ذاتها أن "الإعلام التقليدي" لا يفي بالغرض، أو لا يفي به إلا جزئيًا، أو لا يعطي لهذه الشركات فكرة سريعة عمن يطلع على موادها أو خدماتها أو سلعها. إن الشبكات الرقمية من هذه الزاوية تبدو أكثر فاعلية ونجاعة من الصحافة المكتوبة، وربما لا يبلغ الإعلان من خلالها إلا نسبًا محدودة من المتلقين، أو من صحافة مسموعة يتراجع جمهورها يومًا عن يوم، أو من تلفزيون تتزايد به تكاليف وأسعار الإعلان... وهكذا.
وإننا نتصور من جهة أخرى، أن انتقال العديد من المنابر الإعلامية للصيغة الألكترونية، جزئيًا أو بالجملة، إنما يطرح إشكالات كبرى، في ظل كل ذلك، تتعلق بالملكية الفكرية وحقوق المؤلف، وأخلاقيات المهنة وما سوى ذلك، وهي أمور لم تحسم على الرغم من مؤتمري القمة العالمية لمجتمع الإعلام في جنيف ثم في تونس بداية هذا القرن، هي قضايا لا تزال مطروحة بحدة في واقع الحال، فما بالك عندما يتعلق الأمر بالفضاء الافتراضي، حيث سبل التجاوز على القانون، وما بالك بالأخلاق أو القيم الواردة والمسوغ لها في بعض الأحيان.
إن الشبكات الرقمية، في ظل الإنترنت الحالي، وبظل جيل الويب الثاني تحديدًا، هي شبكات مفتوحة، بإمكان المرء التموقع من بين ظهرانيها حيثما شاء، ودونما سبل كبيرة إلى مراقبة ما يمرر، أو ممارسة الرقابة على ما يسعى إلى تداوله، هي شبكات افتراضية، ربما لا يعرف صاحب الرسالة صورة أو هوية المتلقي، لكنه قد يبقى على اتصال معه لزمن طويل.
ثمة طروحات، رائجة هنا وهناك، ترى أن الشبكة استنبتت بسياق حرية وتحرر، والمفروض أن تبقى كذلك دونما قيود أو حواجز، وأن ما يقوم من بين أضلعها مما قد يكون تجاوزات، لن يلبث أن يتمثل قيم الشبكة، ومبدأ الحرية القائمة من بين ظهرانيها. وثمة، على النقيض من ذلك، طروحات ترى أن المطلوب هو تقنين الشبكة، وإخضاعها للحد الأدنى من الرقابة والمراقبة، من زاوية أنها تمرر لمعطيات تطاول القيم والأخلاق المعتمدة، ومن شأنها زعزعة السائد من تمثلات وتصورات. هذه إشكالية ضخمة وحقيقية، إشكالية الحسم في مسألة: هل المفروض تقنين الشبكة وتنظيم قواعد اللعبة من داخلها، أم الاكتفاء بضمان الحد الأدنى لحكامتها.
إن أدوات "الإعلام الجديد"، من قبيل اليوتوب والدايلي موشيون والفايسبوك وغيرها، باتت حقًا الميزة الأساس للشبكات الإلكترونية بداية هذا القرن، إذ أضحى بإمكان كل من لديه مادة أو صورة أو معطى، أن يتحصل على حساب مجاني، يمكنه من العمليات ذاتها، دونما مراقبة من سلطة، أو رقابة من رقيب، هي مواقع ومستجدات غدا المستخدم بموجبها منتج المادة ومستهلكها في الآن ذاته، مسهمًا بذلك في تقويض أطروحة التمييز بين المستويين، مستوى الإنتاج ومستوى الاستهلاك.
إلى جانب ذلك، يبدو أن المواقع ذاتها بات لها بعض من النفوذ كقوة ضغط؛ فتمرير صور حية تؤرخ لهذا التجاوز أو ذاك، أو لهذه الفضيحة أو تلك، عبر هذه المواقع، غالبًا ما يؤثر على أصحاب القرار، ويدفعهم للتجاوب مع المواد المروجة.
وعليه، فإن غياب ثقافة الرقابة التي تحد من الحرية بأرض الواقع، لم تعد قادرة على ضبط ما يروج له في هذه المواقع، لدرجة اعتبارها الفضاء العام "الجديد"، ثم إن غياب التراتبية وغياب الوسيط، الذي يعمل في الصحافة "التقليدية" مثلاً، على تقييم وتقدير ما ينشر وما لا ينشر، هذا الغياب جعل كل من لديه مادة أو رغبة في التواصل، من إدراك ذلك بسهولة ويسر.
إن الثورة في ميدان تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، قد مكنت من التجاوز على مرحلة الندرة، التي كانت تطبع فترات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وقد بات للوطن العربي، شأنه في ذلك شأن معظم دول العالم، المئات من القنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية، والآلاف من المواقع على الشبكة العالمية للمعلومات، وقس على ذلك. من هذه الزاوية، زاوية الحامل أو البنية التحتية أو الرافعة المادية، يمكننا القول إن ثمة طفرة حقيقية في الارتباط بالشبكات الجديدة من لدن معظم أقطار الوطن العربي.
ونلاحظ أن العالم العربي لا يتوفر على بنوك معطيات بالإمكان الاعتداد بها، ولم يطور محركات بحث ناجعة بشبكة الإنترنت، ولم يوظف الكفاءات البشرية القوية المتوفرة بهذا الجانب، ولم يمتط ناصية اللغة العربية كثيرًا لترويج المادة الإعلامية بالشبكات الكبرى. لنتساءل هنا : كم نصيب العرب من مئات المليارات من الصفحات الموجودة على الإنترنت؟
ومن المفارقة أنه في ظل انفتاح السماوات وانتشار مدى الشبكات، نلاحظ أنه لا تزال ثمة تضييقات على مستوى بلوغ المعلومات، والنفاذ إلى المعطيات المحلية أو الوطنية، لا بل وتراجعت الحريات الإعلامية بقوة. ولنا أن نرى وضعية هذه الحريات في التقارير الدولية الأخيرة، ولاسيما تقرير منظمة فريدوم هاوس؛ معنى هذا أن إنتاج المعلومة ورواجها واستهلاكها، لا تزال خاضعة لتصورات سياسية، واعتبارات أمنية، يحد من نجاعتها ومن مجال انتشارها، ويبدو أن المعلومة والمعرفة لا تزالان أداة من أدوات الحكم في العديد من الدول العربية، وأن الأمية في تلك الأدوات، وإلا فما السر في نسب الأمية المرتفعة في الوطن العربي، في زمن المعرفة المشاع، وتجاوز الدول لمفاهيم الأمية الأبجدية والكتابية؟
إنثورة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال وفرت الإناء والأداة، فبات كل من لديه بعض من المال أو الجاه أو السلطة، ناهيك عمن لديه مشروع استثماري أو تجاري، بمقدوره إنشاء قناة تلفزيونية أو إقامة محطة إذاعية أو غير ذلك. العيب هنا ليس في الأداة، بل في التوظيف والاستعمال.
في هذا السياق، يمكن أن نقرأ تزايد عدد ما يمكن تسميته بـ"القنوات الشاذة"، كقنوات الشعوذة والسحر والتبشير بالغيب، وغيرها، وهي قنوات تراهن على طبيعة المجتمع العربي، الذي لا يزال في جزء كبير منه يؤمن بالخرافة وحسن الطالع، والحظ والانتهازية وغيرها. إنها قنوات تخاطب مخيالاً جمعيًا متأزمًا مستلبًا مقموعًا إلى حد بعيد، يتطلع للخروج من واقع حاله المتردي، عبر الارتباط بقشة ما، حتى وإن كان يعلم أنها غير حقيقية في معظمها. وإلا فمن ذا الذي يصدق قدرة شخص على شفاء سرطان الكبد، في مراحله الأخيرة بمجرد لمس المريض، أو إعطائه بعض الأعشاب الطبيعية؟ ومن ذا الذي بمقدوره أن ينتقل بشخص من وضعية فقر مزرية إلى وضعية غنى، اللهم إلا إذا كان ذلك بالتحايل وتحريف وجهة المال العام؟
والغريب في الأمر، أن وزارات الإعلام العربية لا تتحدث عن مثل هذه القنوات في اجتماعاتها، بقدر تركيزها على القنوات التي تتعرض للحكومات أو للقائمين عليها. وهذا يبين إلى حد ما، السر في شيوعها، وسهولة حصولها على تراخيص البث عبر هذا القمر الصناعي "العربي" أو ذاك. إنه واقع "الإعلام العربي الجديد" في ظل واقع الإعلام الجديد.