10 يناير 2015 بقلم
أنس الطريقي قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:هل نوشك في الزمن ما بعد الحديث أن نكرّر ونحن في طور التأسيس الأخطاء نفسها التي ارتكبناها في زمننا الحديث؟
في كلا الفترتين يبدو أنّنا فكّرنا وما زلنا نفكّر بمنطق يخالف اللّحظة التي نعيشها أو كنّا عشناها في تعاملنا مع زمننا الكونيّ المخطوط من قبل الآخر بفعل غلبته الماديّة.
وإنّنا في الزمن الحالي الذي يسمّى كونيًّا ما بعد الحداثة قد نقع في المزالق نفسها التي وقع فيها أجدادنا القريبون، لمّا كانوا يتفاعلون مع ما كان يسمّى في زمنهم حداثة.
في كلا الفترتين مثّل المعطى السياسيّ نقطة الجذب في واقعنا وفكرنا، وكما بهرتنا الوعود التي روّجتها الإيديولوجيا اللّيبراليّة الأوروبيّة الرأسماليّة خاصّة (مونتسكيو)، والاشتراكيّة، بقدرة الدسترة الدولتيّة على تطويع "اللّوفياتان" لتحقيق حلم العدالة والمساواة والحريّة، وإن أوقعتنا في شركه غزوًا استعماريًّا، أو استبدادًا داخليًّا، يظهر أنّنا نستعدّ لتكرار التجربة نفسها، ونحافظ على الثقة الأوروبيّة عينها في قدرة اللّوفياتان على أن يتحوّل إلى عبد لطيف ومطيع لنا نسخّره في تحقيق كلّ شيء.
ليس ما ندين في كلا الفترتين، ثقتنا المطلقة في الدولة، وتصديقنا لوعودها بالديمقراطيّة، إنّما خوضنا للتجربتين الحديثة وما بعد الحديثة بقيم معاكسة لخصائص ذينك الزمنين. فنحن مازلنا في طورنا ما بعد الحديث نستبطن من الطور الحديث بعض مخرجاته التي نختزله فيها على المستويين السياسيّ والدينيّ، فنقسّم سياسيًّا العالم إلى اشتراكيّ وليبرالي، ونقسّم اللّيبراليّة إلى اقتصاديّة وسياسيّة، تمامًا كما نقسّمه إلى علماني أو لائيكي ودينيّ.
وتمامًا كما خالفنا فلسفة الحداثة في طورنا الحديث، وتعلّقنا على نحو محرّف بتقسيماتها الستاتيكيّة التي أنتجتها تجربتها، ضدّ نظريّتها المثاليّة وروحها، يبدو أنّنا نخالف فلسفة ما بعد الحداثة، ونتعلّق بحلولها التجريبيّة الأوروبيّة النيوكولونياليّة المعاكسة لفلسفتها وروحها أيضًا.
ينبغي هنا التمييز بين الحداثة وما بعد الحداثة في مستوى القيم والفلسفة، وبينهما في مستوى الممارسة التاريخيّة التي أرادها لها صنّاع النماذج والأنواع المثلى وعلى رأسهم العلماء والساسة.
نعم يمكن القول إنّ الحداثة كانت استحداثاً لتصوّر جديد للمعرفة، والتاريخ، والإنسان، كرّس محوريّة العقل والإنسان وتقدّمهما المطّرد، كما يمكن القول إنّ ما بعد الحداثة فلسفة شكّ مستمرّ في كلّ موضوعيّة وفي كلّ السرديّات الكبرى حول التقدّم والانعتاق الكونيّ والأطر الأحاديّة. لكنّهما معًا متضمّنتان في بعضهما بعضًا. فليست الحداثة مفهومًا دالّاً على قرار، لأنّها كما يقول هنري ميشونيك (Henri Meschonic) هي نفسها بحث عن المعنى في شبه عمليّة ميلاد متكرّر لا متناه، يقصي فيه اللّاحق السابق، ويكون الحاضر أفقًا للمستقبل الذي سيطويه بالضرورة. وليس ما بعد الحداثة غير مرحلة من مراحل هذا البحث، فهي ارتياب قارّ بالأسس النهائيّة للتفسير، وبكلّ تمركز حول حقيقة ما، وموضوعيّة ما، وسرديّة معيّنة للتاريخ. إنّها رفض للثبات، يقابله إيمان بالطارئ والعرضيّ، وانفتاح على المحتمل بوصفه ممكنًا. إنّ مبدأها كما يقول ليوتار (François Lyotard) لا يكمن في التماثل الذي يخصّ الخبراء بل الخطاب الهامشي الذي يخصّ المبتكرين
[1].
من هنا لا تبدو ما بعد الحداثة غير ردّ فعل في قلب الحداثة، إنّهما علامتان على استمراريّة واحدة.
ولكن يبدو أنّ فلسفتهما هذه تحجبها المصفوفات المنمّطة لصنّاع القرار، فيكرّسونها من أجل ضبطها وتوجيهها بالسلطة في تحديدات تجعلها قابلة للقياس. هكذا نشأت كما يبدو دولنة الحداثة، والتقسيمات التي انبثقت عنها للسياسي إلى ديمقراطيّ، وديكتاتوري، وعلماني وإسلاميّ، ونشأت في حياتنا كلّ التقسيمات التي رفدتها نظريّات العلم وقوالبه الصوريّة. هي في الواقع تحديدات للواقع مانعة لسيلانه وتحوّله وفق الممكن والمتاح فعله في أفق السعادة.
كيف تفاعلنا نحن العرب مع الحداثة وما بعد الحداثة؟ الظاهر أنّ ما احتفظنا به هو التقسيمات المنمذجة السلطويّة، القادمة منّا ومنها، وتركنا الجوهر.
وقع معنا ذلك في فترة النهضة من تاريخنا، لمّا التفت الفكر الإصلاحيّ إلى الآخر، وفسّر تقدّمه بذهنيّته التي عشّش فيها ابن خلدون، حاملاً في ثناياه الماوردي من جهة والغزالي من الجهة الأخرى. كان ينظر إلى فكر متحرّك مفتوح على المحتمل، يعيش فترة من فتراته، ستكون له ردّة فعل عليها، لكنّه لم يدرك منها إلاّ صورتها التي ركّبها صنّاع القرار هنا، وصنّاعه هناك. فإذا الحداثة عنده تثبيت على تثبيت، تثبيت للنمط الديني السياسي التقليدي الموروث من الماوردي والغزالي عبر ابن خلدون في تفسير العالم، على النمط السياسي الحديث لإدارة الحياة وتحقيق السعادة. والنتيجة تنميط مضاعف يقسّم العالم حسب تحديدات: علمانيّ ضدّ إسلاميّ، واشتراكيّ ضدّ رأسمالي. وفوق ذلك منظومة تحقّق السعادة في الحياة بفضل العدالة مقابل منظومة تحقّقها بالحريّة المساواتيّة.
لكن ما كانت النتيجة في المحصّلة؟
يمكن القول بدرجة عالية من الصلاحيّة إنّ التسييس المضاعف لرغبة التغيير، من قبل العين الرّاغبة في الاقتباس، ومن قبل الحاضنة السياسيّة الدولتيّة الأوروبيّة المروّجة لهذه الرغبة كونيًّا، نجح في تحويل وجهة فكرنا العربيّ في طوره الحديث من رغبة الاندراج في آليّة التغيير، بوصفها حكمة جديدة للحياة، إلى وجهة سياسيّة نمطيّة، صرفته عن الطريق الممكنة للإبداع الحضاريّ، إلى الارتكاس في وضع ستاتيكي مناقض لحركيّة الحداثة، مازال إلى الآن يستفرغ كلّ جهده. فهو بين تأسيس دولة كالتي أسّسها الغرب، أو دولة تستجيب لذاكرته الإسلاميّة الرّسميّة العنيدة، أو دولة البين بين، لا يبرح مكانه يلهث وراء الأقانيم، منشغلا عن الجوهريّ الضروريّ لوجوده، وهو أن يستعيد ديناميكيّة التغيير.
لا يصعب في الواقع العثور على نماذج صريحة لهذه الواقعة في كلّ فكرنا الحديث، ففيه إجماع يكاد يكون تامّاً على وعي التغيير، ووعي ضرورة الاندراج فيه، يستوي في ذلك الإسلاميّ والعلمانيّ، وداعية التقنية مع داعية الثقافة مع داعية السياسة، إلاّ أنّ المسارات المختارة لإنجازه، سرعان ما تحوّلت إلى مطلقات ثابتة، نافرت من بعيد ما جاءت من أجله.
واليوم ونحن في الطور العولميّ الرّاهن، الطور ما بعد الحداثيّ شعارًا لانفتاح الحياة على الممكن والمحتمل، ألسنا نكرّر أخطاء حداثتنا المنمّطة، بتنميط شبيه ننجزه في ما بعد حداثتنا. في هذا الطور أيضًا تختزل عندنا ما بعد الحداثة في الصورة السياسيّة الجديدة التي تروّجها لنا العولمة، فإذا هي وضع ثبات جديد معاكس لدينمايكيّة هتك كلّ القطعيّات والحتميّات. يبدو ما بعد الحداثة على هذا النّحو خيارًا سياسيّاً نمطيًّا بامتياز، وبدل التقسيمات القديمة لخيارات المستقبل، تستزرع الخيارات السلطويّة الرّاهنة بالمفهوم العام للسلطة، على الخيارات الموروثة الماثلة فينا باستمرار، ولذا فبدل المقابلة من ناحية بين اللّيبراليّة بمفهومها الأوروبيّ القديم، سياسيّة أو اقتصاديّة، والاشتراكيّة من ناحية أخرى، والإسلاميّة من ناحية ثالثة، يدفع في مجالنا السياسي بتركيبات جديدة تقتبس من الجهات القديمة الأوروبيّة والإسلاميّة، والأمريكيّة الصاعدة، تسميات نمطيّة جديدة، فتتلاقى في الإطار نفسه نماذج لا هي بالمنسجمة مع مجالها الخاصّ الذي تتحرّك فيه، ولا هي قادرة على إقامة تعايش قارّ فيما بينها، ولا هي مستجيبة لمقتضيات ما بعد الحداثة فلسفة للتاريخ. فعلى هذا النحو نسمع في تونس بعد الثورة عن ليبراليّة اجتماعيّة، تكسر -على نحو لا تعلم طريقته- التقسيم ليبراليّ/اشتراكيّ، في نوع من الاقتباس عن اللّيبراليّة الجديدة الأمريكيّة بعد جون راولس، كما نسمع في الآن نفسه تمسّكًا بمقولات الاشتراكيّة، وبالقوّة نفسها يحتفظ بالثنائيّة علماني إسلاميّ على نطاق واسع بفعل الدعوة القارّة إلى استبقائه من قبل الإسلاميّين. وخلف هذا الخليط الجديد المكوّن لعمليّة التنميط السياسيّة للواقع، ما يبقى قارًّا على الدوام هو عين الخطأ الذي اقترفه فكرنا الحديث في طوره الإصلاحيّ: يطلب التغيير في البداية، بوعي حادّ بضرورته، ولكنّ تنميطه السياسيّ من قبل صنّاع القرار عندنا، وعندهم، ينسّينا كونه هو المطلوب، وأنّه حركة منفتحة على المحتمل والممكن. يحكي محمّد الحدّاد في كتابه مواقف من أجل التنوير
[2] عن نموذج ممثّل لهذه الواقعة التي نعيشها حاليًّا يأخذه من أربعينات القرن العشرين، لمّا كان العالم العربيّ يقدّم وعودًا حقيقيّة بالانخراط في منوال حضاريّ أساسه تبنّي ديناميكيّة التغيير، والنموذج الذي يتحدّث عنه هو سيّد قطب ذاك الذي يعدّ الآن واضع التفكير القاعدي للنمطيّة الإسلامويّة المعاصرة التي يمكن اعتبارها أقصى تجلّيات انكسارنا نحو الستاتيكيّة المنافية للحداثة وما بعدها. ما يرويه هو التحوّل الذي انتاب سيّد قطب كسائر ثقافتنا نتيجة اكتساح النمطيّة السياسيّة القاتلة لكلّ انفتاح فيها على المستقبل وعلى المحتمل. كان سيّد قطب في الأربعينات واحدًا من الأصوات التي دافعت عن التغيير، وكانت مجلّة الرسالة واحدة من المجلاّت التي احتضنت المعارك الفكريّة الطاحنة بين دعاته ومناوئيه، وفيها كتب سيّد قطب إحدى مقالاته البارزة في التبشير بضرورة التغيير. كان المعبّر عنه في تلك المقالة وقتها في نظر قطب أديب صاعد افتتح في مجال الأدب وفي القصّة تحديدًا معركة الإطاحة بالنمطيّة العامّة وقد تجلّت في الثقافة في احتكار نموذج الواقعيّة من قبل العائلة التيموريّة. لم يكن وقتها كثيرون يتوقّعون أنّ الأديب الشاب الذي كان يمثّله نجيب محفوظ سيكون باعث واقعيّة ذات أفق إنسانيّ تحمله إلى جائزة نوبل للآداب، ولكنّ سيّد قطب كان كمن تنبّأوا بذلك. لقد وعى بحسّ مرهف أنّ ميلاد قصّة نجيب محفوظ كان تعبيرًا عن حاجة الانفتاح الضروريّ على المستقبل. وبالحس نفسه المدرك لقيمة الثقافة والأدب في كسر الحدود والأقانيم والانتقال بنا من عصر الإيديولوجيا إلى عصر الثقافة تمنّى أن تصبح قصّة نجيب محفوظ في يد كلّ فتاة وفتى. سيّد قطب نفسه الذي عبّر عن هذا المطلب هو عينه الذي اعتبر بعد عشرين عامًا أنّ كلّ مجتمع لا يلتزم بالنموذج المعياريّ الإسلاموي للدولة هو مجتمع جاهلي. كيف يمكن لمن كان داعية للمستقبل والتغيير أن ينقلب إلى داعية الماضويّة والنمطيّة في أقصى تجلّياتها؟ الجواب كما يقرّره الحدّاد، ويؤكّده الواقع هو أنّه لم يبق مجال لممارسة الثقافة خارج السياسة. والأحرى أن نقول إنّه لم يعد مجال لممارسة الحياة خارج السياسة. يبدو أنّ ما كان يقصده الحدّاد بالسياسة بالنسبة إلى هذه الحالة الخاصّة، هو ثورة يوليو 1952 الواقعة في فلك الوهج الثوري وقتها للثورة الشيوعيّة التي نجحت في تكريس الدولة إيديولوجيا تعبويّة. لكنّه في الواقع يعيّن من ورائه السبب نفسه الذي يغرقنا الآن في الثنائيّات الإيديولوجيّة المعيقة لتقدّم الواقع، نعني بذلك هيمنة السلطة بصفتها إيديولوجيا على كلّ شيء. إنّها كما يقول الحدّاد: "ذلك المارد ذلك العظيم الذي سيطر على كلّ شيء" و"كانت الثقافة هي الخاسر الأكبر لأنّها فقدت مجالها الخاصّ وأصبحت جيبًا من جيوب هذا المارد العظيم"
[3].
وحين ننظر إلى واقعنا الرّاهن باستحضار ذلك الدرس الموجز ألا نعاين المظاهر نفسها التي منعت قطب وحوّلته ذلك التحويل، في النقلة نفسها التي نراها لدى شباب متمدّن يعيش في قلب التغيير الحداثيّ وما بعد الحداثيّ نحو ماضويّة أشدّ من ماضويّة نقلة قطب؟
يبدو أنّ الأسباب هي عينها، فما يصرفنا عن الشعور بالحداثة وما بعد الحداثة، أفقًا للممكن والمحتمل، ليس اليأس منها ومن المستقبل، إنّما وقوعها في شرك الاستحواذ نفسه من قبل السياسيّ الغازي لها بالدولة. جرى هذا في طور قطب، وقبله مع رجال الإصلاح، لمّا عاشه بين الأربعينات والستّينات من تاريخنا، ولمّا تبنّى صنّاع القرار فيها دولة الأمّة العلمانيّة حلاًّ للواقع، وردّ عليه بمنطق الدولة نفسها، وهو يجري اليوم عندنا، فنتبنّى الدولة ونحن نردّ عليها الردّ نفسه. تمكّنت الدولة في كلا الطورين من أن تبتلع كلّ شيء في حياتنا، فعطّلت الثقافة، وغلّبت الإيديولوجيا، واليوم كما بالأمس، تحكم الدولة كلّ ردودنا، وبدل أن تكون الثقافة هي الحاضنة للقيم والمضامين لشعوب متطلّعة نحو المستقبل، ظلّت الدولة كما هي حالها منذ ابن خلدون تمثّل حاضنة تمسك بخيوط التأويل والتوجيه لذاكرة ناجزة يختلط فيها الماضي والحاضر، والذاتي والآخر. وكما وجّهتنا في حاضرنا القريب نحو خيارها الغربيّ اللّيبراليّ أو الاشتراكيّ، ونحو ردّنا عليها الإسلامويّ، هي ما تزال تحكم توجيهنا نحو هذه الخيارات الغربيّة نفسها، تحت تصوّراتها الجديدة في الغرب الأمريكيّ خاصّة، ونحو الردود الإسلامويّة نفسها تحت مسمّيات جديدة أيضًا.
يقول الحدّاد إنّه لا يمكن لنا الإفلات من هذا الوضع التاريخيّ المكرّر ما لم ننتقل من عصر الإيديولوجيا إلى عصر الثقافة، وما لم نفهم أنّ الديمقراطيّة تطلب فتح المجال لتوسيع دائرة الممكن عبر تحقيق المزيد منه باستمرار
[4]، وأنّ سبيل ذلك عبّر عنه قطب لمّا كان مدافعًا عن مطلب التغيير، أن تصبح قصص نجيب محفوظ في يد كلّ فتاة وفتى. ونضيف وراءه لا سبيل إلى وعينا بالحداثة وما بعد الحداثة، وانتمائنا إليها ما لم ندرك أنّها استعداد لمفارقة المنجز والتام، وانفتاح قارّ على الإنجاز. قد يقينا ذلك أن ندين العولمة ونقع في حبائلها في الوقت نفسه، تمامًا كما أدان أسلافنا النهضويّون الآخر ووقعوا في حبائله لمّا غفلوا عن مخاطر النمطيّة المجمّدة القارّة في الدولة وفي السياسي عامّة.