12 فبراير 2015 بقلم
الحسين أخدوش قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:ليس يخفى اليوم على أحد حجم العنف الكبير الذي تعيش فيه الشعوب العربية والإسلامية على وجه الخصوص نتيجة العوامل الثقافية والتاريخية المختلفة؛ إنه عنف لا يكاد يتوقف حتى يبدأ من جديد، متخذًا الأبعاد الدينية والقبلية والسياسية نفسها، فهل يا ترى أصبح مصير هذه الشعوب أن تعيش حياة العنف في كل مراحل وجودها التاريخي؟ يمكن تبرير اللجوء إلى العنف للحسم في الخلافات والنزاعات إلى كونه ظاهرة سلوكية ملازمة للطبيعة البشرية بما هي طبيعة تتنازعها دوافع التدمير والأحقاد والانتقام وإرادة الخير والشر معًا، لكن إن كان للغريزة دورها في سلوك العنف هذا، فإن للثقافة والتاريخ أيضًا أدوارًا لا تقل عن الأولى، بل يمكن أن تكون هي العامل الحاسم في ترسيخ هذا السلوك المدمر وتجذيره في حياة الأفراد والشعوب. ولعل ما يؤكد هذا الزعم، ارتباط العنف في ثقافتنا الإسلامية بالأسباب التاريخية والثقافية نفسها، أي : الدين ، والقبيلة ، والطائفة ، والاستبداد. وقديمًا كانت حروب الردة والفتنة الكبرى، ثم تبعتها نزاعات الاستبداد ووحدانية التسلط، كما قال ابن رشد، ثم بعد ذلك جاء الغزو الأجنبي متعدد الجنسيات من حملات المغول والتتار، مرورًا بالحملات الصليبية إلى عنف الاستعمال الحديث وانتهاء بالصراع مع إسرائيل.
إنه تاريخ مثقل بالعنف والحروب والنزاعات حقًا، ولكن من بين كل تلك الأسباب المختلفة، يبقى العامل الديني والطائفي أخطرها على الإطلاق نظرًا لطابعه الرمزي والعاطفي في قلوب الناس، ولعل ما نراه اليوم من عودة للاستقطاب المذهبي والطائفي الديني خاصة بين السنة والشيعة لدليل على ما نقول. إن خطورة مثل هذا العنف الطائفي الديني لا تكمن فقط في الضرر الذي يمكن أن يلحقه بممارسيه، بل لأنه يشرع باسم الدين لقتل الآخرين أساسًا، فيصادر حقهم في الاختلاف وحتى في الحياة المقدسة. وبما أن ممارسة العنف باسم المقدس والمتعالي يزيل أية إمكانية للحوار والتفاهم والتعايش السلمي بين الناس، فإن أهمية الحديث عن ضرورة التسامح اليوم أصبحت أكثر من مجرد حاجة، إنه حتمية وجودية وتاريخية بالنسبة لهذه الشعوب. من هذا المنطلق، يلزم أن نعرف أن القتل باسم الهوية الدينية هو أبشع أنواع العنف، وذلك لأنه مهما كانت أسباب النزاعات والخلافات، فإنه لا يجوز أن يتم
تبريرها بواسطة الدين، فكيفما كانت دواعي الصراع بين الإرادات الإنسانية، سيصبح إقحام العنصر الديني والطائفي فيها ضربًا من ضروب العبث، فالمتعالي أو المقدس الديني، الذي يفترض فيه أن يوحد،لا يمكن أن نجعله وقود الصراع والعنف؛ لأن ذلك فساد ما بعده فساد. فلئن كان صحيحًا أن جوهر الوجود البشري ينبني في أساسه على الشقاق والصراع، فإنه يلزم من ذلك أن يفهم أن وراء كل هذا الصراع تختبئ المصالح الآنية والأنانيات البشرية، وهي مهما بلغ حجمها لا تستحق أن تبرر بالدين والطائفية ما دام أن هذا الأمر من صلب الاختيار الحر للإنسان "لا إكراه في الدين" ثم إنه لم يعد بالممكن في عالم اليوم أن يلجأ الواحد منا إلى تبرير سلوكاته العنيفة باسم معتقداته الدينية، ما دام الأصل في الدين هو الاعتقاد الحر المشروط باحترام معتقدات الآخرين، فعندما نقر بهذا المبدأ في حياتنا، عندئذ سنكون قد استحضرنا مدى استحالة أن تبقى الشروط التاريخية لقيام دين معين هي نفسها شروط اليوم. وعكس هذا المبدأ هو ضرب لسنن الحياة والتاريخ، لأنه قول بجمود حياة الناس وتاريخ الشعوب، لذلك سيصبح على الواحد منا أن يمتلك قدرًا لا بأس به من "الحس التاريخي" القادر على مساعدتنا لتدبير الصراعات والخلافات التي تنشب في كل مرة. والشيء الذي يلزم على المتدين معرفته هو أن الممارسة التاريخية للدين، إن كانت لا تفقد هذا الأخير أصوله العقائدية بالضرورة، فهي بالأحرى تجارب نسبية وتقاليد تحققت بها أفهام الناس لدينهم على ضوء حاجات زمانهم التي قد تختلف من عصر إلى آخر.
من هذا المنطلق، يجب إضفاء طابع النسبية على الفهم التاريخي للأديان السماوية، بل إن مهمة كهذه لا يمكن إلا أن تستهدف تحرير سؤال معنى الدين من ربقة رجال الدين الذين نعدهم بشرًا تملكهم نوازع شتى، كما أنه لا يمكن لهم أن يدركوا كلية الأديان في مسارها التاريخي التي ستمتد إلى القيامة. إن التقليد اللاهوتي والفكر الديني بشكل عام لا يخرج عن دائرة الفهم التاريخي المحدود والنسبي لرسالة الوحي. ولهذا، فالمعرفة الدينية ما هي في حقيقتها إلا تأسيس أنثروبولوجي تاريخي للمعنى الديني، كما أن ممارسة الشعائر والطقوس الدينية هو أيضًا مسألة تتحقق بها هذه المعرفة على مستوى العمل والسلوك الخاضعين للنسبية الزمنية أيضًا.
إن حتمية الصراع بين الخير والشر لا يمكن لأية إرادة بشرية مهما بلغت من قوة أن تحله، وعليه فما يبقى لهذه الإرادة هو فقط تدبير هذا الصراع تدبيرًا تاريخيًا نسبيًا، لكن هل يمكن الاعتماد على الدين لحسم مثل هذا الصراع؟ إن الجواب بالإيجاب على هذا السؤال يفترض مسبقًا أن كل البشر على قلب رجل واحد وعلى دين واحد، وعلى مقدار الإيمان بهذا الدين ذاته. لكن الواقع يشي بالعكس، فما دلالة ذلك ؟ هذا يعني أن هناك حكمة ربانية من هذا كله، فأن يكافح الإنسان ويكابد من أجل تدبير إراداته المختلفة والمتناقضة لهو قدره المحتوم في الحياة، وهذا ما يعني ضرورة حسم الصراعات والخلافات بين هذه الإرادات خارج إطار المعتقدات الخاصة نظرًا لكونها مجالاً للاختلاف بالأساس. ويبقى الجانب المؤسساتي والسياسي هو الحقل الأنسب لتدبير هذه الخلافات؛ أي العقل. على ضوء هذه المعادلة الصعبة، يصبح التسامح الديني حتميًا. فقدر المؤمن اليوم بالدين أن يتحلى بقدر كبير من التسامح في تعامله مع المختلف عليه عقديًا ومذهبيًا وطائفيًا، وإلا فالصراع على أساس المعتقد والدين سيزيد من تعميق وتأجيج النزاعات الأخرى السياسية والقبلية والمصلحية إلى أن يفني بعضهم بعضًا، وهذا هو عين الفساد، لكن ليس الدين هو المشكلة، كما يقول المفكر عبد المجيد بعكريم في إحدى محاضراته عن رسالة التسامح للفيلسوف جون لوك : "بل المشكلة عندنا هي أن الذين يبثون القلاقل في الأصقاع والبلبلة في الأذهان باسم الدين لم يفهموا الإسلام على حقيقته؛ فمشكلتنا كامنة في استشراء الفكر الخرافي والأسطوري والإحيائي في مقاربتنا للعالم وللدين معًا. فديكارت وصحبه مثلاً، فهموا هذا الأمر في القرن السابع عشر، حينما غيروا من طرقهم في التفكير اقتناعًا منهم بأن محاولة تغيير العالم هي محاولة يائسة تتجاوز القدرات البشرية. لذلك ارتدوا إلى الذات لإصلاحها وانتبهوا إلى العقل لتصويب اعوجاجاته عبر تقويم المنهج حتى أضحى العقل ظاهرة فلسفية ما فتئت أن تحولت إلى ظاهرة سوسيولوجية ". إن تغييب العقل عما يجري اليوم في الساحة العربية لسبب كاف في استشراء العنف نتيجة حتمية لسيادة الخرافة بكل مظاهرها، ومن ثم غياب التسامح وقيمه الجميلة، ولهذا لا نرى هنالك من مخرج آخر سوى استعادة العقل لدوره التاريخي من أجل تكريس التسامح بيننا من جديد، فالتسامح الديني حتمية تاريخية لا رجعة فيها.