03 أبريل 2015 بقلم
مجموعة باحثين قسم:
حجم الخط
-18
+ للنشر:مفاهيم ملتبسة في الفكر العربيّ المعاصر:
السيادة والحاكميّة
الملخص:
حين صاغ الفرنسي جون بودان لأوّل مرّة في تاريخ الفكر السياسي مفهوم السيادة، في كتابه "الكتب الستّة حول الجمهوريّة" (1576م)، كان في الواقع يعبّر عن قطيعة ثقافيّة عامّة عن براديغم ثقافي تاريخي كامل، والدخول في آخر جديد سُمّي مصطلح النهضة. وحين كان هوبس ثمّ روسو يمدّان هذا التنظير بقواعده النظريّة في الفلسفة العقديّة، كانا في الواقع يؤسّسان في التاريخ تصوّراً جديداً للسياسة، قوامه التمثّل العقلي للسلطة، وخروجها النهائيّ من فلك القوامة الدينيّة أو الفرديّة التي كانت تتعرّف بها.
لم يبق مفهوم السيادة بعد ذلك التأسيس على حالته الأصليّة، فقد تكفّل التاريخ بتحميله، كما هو شأنه مع سائر المفاهيم، بحمولة تكوينيّة جديدة، كفّ فيها بالتدرّج عن التقيّد بخصائصه البدئيّة التي تعرّف بها مع بودان. فالسيادة وقد كانت مطلقة، ودائمة، ولا تنقسم، ولا تفوّض، تخلّت في عصر العولمة الراهن عن كبريائها منذ الحرب العالميّة الثانية بفعل المعطيات الجديدة للقانون الدولي، وعلاقات الاندماج المتبادل المصاحبة للعولمة، وما تولّد منها من تذويب الحدود الماديّة لسيادة الدول، بل لما انتاب الدولة نفسها من تشكيك متزايد في استمرارها شخصيّة معنويّة، وفي أهليّتها لإدارة السياسيّ، خصوصاً بعد أن وقعت تعرية خفايا التوتاليتاريّة الملازمة لها.
وبالمقابل، يبدو مفهوم السيادة في الفكر الإسلاميّ الحديث حين صاغ تعريفه النظري لأوّل مرّة في تاريخ هذا الفكر أبو الأعلى المودودي في كتابه المعروف تدوين الدستور الإسلاميّ (ط2، 1975)، تحت مسمّى "الحاكميّة"، وحين أسّس قواعده النظريّة على شرح معيّن لعقيدة التوحيد، مؤزّلاً لتمثّل ديني للسياسة، يربطها باستمرار بالكسمولوجيا الإسلاميّة المطبوعة بقصّة الخلق القرآنيّة، وما يتبعها من شروط العقد الإنساني الإلهي، كما يعبّر عنها مفهوما الاستخلاف وتطبيق الشريعة. وحين استعيد هذا المفهوم من قبل من تلا المودودي من مفكّري الإسلام المحدثين والمعاصرين، لم يكفّ عن ارتباطه بعمليّة تأسيسه الأولى، فقد سار به هذا الفكر نحو مدّه بأسس مشروعيّة أمتن تدعم قواعده النظريّة، وجدها في شرح مستفيض لأدلّته في القرآن والسُنّة، وما تشكّل حولهما من عناصر المنظومة الإسلاميّة.
بين السيادة والحاكميّة قصّة تاريخين ثقافيّين، ونهضتين، سمّيت الثانية بتسمية الأولى على الرغم من كونها بقيت مجرّد مشروع، ووادعتها فسمّت نفسها إصلاحاً، ثمّ انسلخت عنها وعارضتها لتسمّي نفسها صحوة. وهي أيضاً قصّة عقدين مؤسّسين للحياة وسياستها.
ولكن على الرغم من هذا الاختلاف لا ينفكّ الوعي الإسلاميّ الرّاهن يخلط بينهما خلطاً شنيعاً في مقارعة موضوع الدولة خاصّة. ويبدو أنّ أطر تنظيريّة المودودي لمفهوم الحاكميّة ما تزال تعمل عملها بقوّة، متغذّية على تأويلها العربي القطبي، معارضة لمفهوم السيادة الغربّي، أساساً لنظريّة الدولة عند دعاة الإسلام السياسيّ، بل عند غيرهم أيضاً.
وإزاء هذا الخلط المعيق للنظر السياسي والديني العربي المعاصر، والمعطّل لمساره العمليّ بعد الثورات العربيّة الرّاهنة، يبدو مفهوما السيادة والحاكميّة من المفاهيم الملتبسة التي يتعيّن توضيحها في الفكر العربي المعاصر.
فأمّا المحاور الكبرى لهذا التوضيح فهي حسب الثنائيّة موضوع الخلط، اثنان:
- محور لمفهوم السيادة تعريفاً وخلفيّات وتبعات ومراجعات. من ظهوره مع جون بودان إلى نقده مع موريس هوريو.
- محور لمفهوم الحاكميّة مدروساً حسب التقسيم السابق. من أبي الأعلى المودودي إلى يوسف القرضاوي.
سيجد القارئ لهذا الملفّ تفكيكاً لهذين المفهومين من زاوية نظر نقديّة - فالفكر إمّا أن يكون نقداً أو لا يكون- تتغيّا كشف تاريخيّتهما، وارتباط مدلوليهما المتطوّرين بكلّ العناصر الثاوية في الذاكرة المنتجة لهما، وبكلّ الرغبات المكبوتة أو المعلنة لفصيل هام من الحركة الإسلاميّة المعاصرة...