06 أبريل 2015 بقلم
فوزية ضيف الله قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:1- اعتبارات مفهوميّة، ما هو الشغف الديمقراطيّ؟
الشغف هو المقابل العربيّ للفظ الفرنسي (Passion)، وللمقابل الألمانيّ (Leidenschaft). ومعلوم أنّ المرادفات العربية لعبارة "الشغف" كثيرة، على غرار "التوق"، و"الشوق"، و"الوجد" و"الولع". تجدر الإشارة هاهنا إلى أنّ عبارة "الشغف" وردت في الآية (30) من سورة يوسف في قوله تعالى: "وقال نُسوة في المدينة امرأة العزيز تُراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين".
فإذا تخيّرنا تعريب العبارة الفرنسيّة (Passion)، بالعبارة العربيّة "الشغف"، فإننا نقدّم بناء على ما تقدّم بعض الاعتبارات المعجمية والمفهوميّة تبريراً لهذا الاختيار وسعياً منا إلى التمكّن من فهم ما يمكن أن يعنيه "الشغف الديمقراطيّ" (La passion démocratique)، من جهة ربطه بين جانب انفعاليّ توجّدي وعاطفي بجانب ثان أقرب للعقل والمنطق منه إلى العاطفة من جهة اقترانه بتدبير الشأن السياسي. فكيف يقترن إذن "تدبير الذات" شغفاً وولعاً "بتدبير المدينة" وفق نموذج سياسي ديمقراطيّ لم يعد نموذجاً نعلّق عليه آمالنا إلاّ من جهة ما قد توحي به العبارة نفسها من إقرار للحريّات، وجعل الإرادة إرادة شعبيّة. ذلك أنّ "الديمقراطيّة" قد أصابها داء التآكل الداخليّ، وأنجبت من رحمها من تنكّر لها وصار لها عدوّاً لئيماً. فقد تحوّل الشغف بالديمقراطيّة إلى قلق دفين، كما لو أنّ هذا الشغَف بها قد صار شغْفاً منها أي قلقاً.
لقد تعلّقنا بالديمقراطيّة شغَفاً، فوصل إلى شِغَاف قلوبنا: وشغاف القلب هو غلافه، إلاّ أنّ هذا الشغَف تمادى خارقاً شِغاف القلب وحجابه. لكنّنا نخشى على أنفسنا من أن يصير هذا الشغَف شغْفاً، أي "قلقاً" وداءً يتمكّن من هذا الشغَف نفسه، ونخشى على الديمقراطيّة من تحوّل الشغَف بها إلى خوف عليها من "الشِغَاف" من جهة ما هو "داء يصيب القلب" في معنى ما قاله قيس بن الخطيم:
إنيّ لأهواك غير ذي كــذب قد شفّ مني الأحشاء والشغْف
2- بنجامان كونستون، الشغف الديمقراطيّ:
وردت عبارة "الشغف الديمقراطيّ" ضمن أحد عناوين مؤلفات الناقد، المؤرّخ، الروائي والفيلسوف البلغاري الأصل تزفيتان تودوروف (Tzvetan Todorov): "Benjamin Constant: La passion démocratique"
[1]، وقد عمد تودوروف ضمن هذه
المحاولة (Essai) الصّادرة سنة 1997، وترجمها (Alice Seberry) إلى الإنجليزية سنة 1999 (Benjamin Constant, A
passion of Democracy)
[2]. حيث يقرّ تودوروف أنّ بنجمان كونستون من الأوائل الذين شخّصوا وضع الديمقراطيّة تشخيصاً قاتماً بقوله إنّ الثورة الفرنسيّة تقرع طبول الحزن لظهور ليس فقط نمط آخر من المجتمعات، بل كذلك طريقة مغايرة في الإحساس وفي الحياة. إذ لم نعد نعرف دربنا إلى الحبّ، أو إلى الإرادة أو حتّى إلى الاعتقاد. فلا بدّ لنا أن نبحث عن علاج لهذا الشرّ الذي صار "غواية للخير"، فالسّماء لا تمطر ذهباً ولا تهدي أملاً، وصارت الكرامة للأرض واللجوء لهذا القلب. ولا بدّ لنا أن نبحث في تقديره عن نظام سياسيّ يضمن كرامة الفرد دون حلّ الروابط الاجتماعيّة وعن دين يكون مجرّداً من الأشكال القمعيّة، فالذي يحرّكنا في كلّ مرّة هو "الشغف الديمقراطيّ"، فكيف نهتدي إلى شغف نستحقّه ويستحقّ أن يكون شغفاً ديمقراطيّاً بحقّ
[3]؟
يهزّنا الشغف الديمقراطيّ أملاً في الانعتاق من "قلق" الأنظمة المستبدّة ونشداناً للحريّة فكراً ووجوداً وأخلاقاً وسياسة. فالشغف الديمقراطيّ يحلّ حيثما غابت هذه الديمقراطيّة على حدّ تعبير تودوروف نفسه
[4]. لكنّ هذا "الشغف الديمقراطي" الذي كان وما يزال علامة مضيئة في فكرنا، صار قيداً، بل قلقاً منها وفيها.
فكيف يتحوّل الشوق إلى الديمقراطيّة قلقاً فيها؟ ولماذا يصبح التعلّق بالشيء مَفسدة له؟ ألا يبدو أنّ هذا القلق راجع إلى أنّ قرار الشغف بالديمقراطيّة لم يكن قراراً منطقيّاً بل كان قراراً عاطفيّاً؟
3- العنوان المُرْبِك: أعداء الديمقراطية الحميميون:
يضعنا تزفيتان تودوروف
[5] في هذا السياق، بعد كتبه التي كرّسها للنقد الجيوسياسي، بما في ذلك
ذاكرة الشر، إغواء الخير (2000)،
الفوضى العالمية الجديدة (2003)،
روح الأنوار (2007)
، و
الخوف من البرابرة، ما وراء صدام الحضارات (2008)، يضعنا أمام عنوان مُرْبك:
أعداء الديمقراطيّة الحميميون (
Les ennemis intimes de la démocratie,)
الصّادر حديثاً
2012
[6]. حيث يتعرّض لمشكل الديمقراطيّة، ويذكر أنّ الديمقراطيّة الغربية تشهد انحرافات جديدة ومتزايدة داخل المجتمع، باتت تهدّد الديمقراطية، مثل النزعة الوطنية المفرطة، وكراهيّة الأجانب، ونفوذ وسائل الإعلام، والليبراليّة المتوحّشة وهيمنة الجانب الاقتصادي على الجانب السياسيّ. فالأخطار المحدقة بالديمقراطيّة والمهدّدة لوجودها أصلاً، لم تعد متمثلة في الخطر الخارجي المتمثّل في الإرهاب الناتج عن التطرّف الديني أو في وجود أنظمة دكتاتوريّة مثل الفاشيّة والشيوعيّة، خاصّة بعد زوال الأنظمة الكليانيّة نهاية الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين (1989)، بل في جملة من المخاطر الداخليّة التي تتمثّل في الأعداء الذين أفرزتهم، إنّهم يمثّلون أبناءها الذين نشؤوا من رحمها، لكنّهم غير شرعيين
[7]. تضمّن الكتاب سبعة فصول: قلق في الديمقراطيّة: (Malaise dans la démocratie)، مناظرة قديمة (une ancienne controverse)، الميسيانيّة السياسيّة (Le Messianisme politique)، استبداد الأفراد (La tyrannie des individus)، استتباعات الليبراليّة الجديدة (Les effets du néolibéralisme)، الشعبويّة وكره الأجانب (populisme et xénophobie)، ومستقبل الديمقراطيّة (L’avenir de la démocratie).
لقد حلّ تزفيتان تودوروف بباريس عام 1963 طالباً اللجوء السياسيّ تاركاً وراءه بلغاريا ترزح تحت وطأة الاستبداد السوفياتي وخرافة الأنظمة الشيوعيّة. انشغل بقضايا أنثروبولوجيّة، ثقافيّة وسياسية مختلفة ومتداخلة رغم أنّه ابتدأ مؤرّخاً للأدب وناقداً له من جهة اهتمامه بالتيّار البنيوي خاصّة. لقد كان اهتمام تودوروف موجّهاً نحو فهم القضايا الراهنة، فكانت جلّ كتاباته صادرة عن تجاربه المعيشية المتذمّرة من طغيان الأنظمة الكليانيّة، وغياب الحريّات الفكريّة، ومن الحروب التي تشنّها الديمقراطيات الغربية باسم إيديولوجياتها ضدّ بلد آخر (حرب الكوسوفو، حرب العراق). ثمّ شكلت فترة الثمانينات منعطفاً حاسماً في مسار بحثه العلمي والنظري، إذ انتقل تودوروف إلى دراسة الآليات التي يُقصى بموجبها الآخر من لدن الغرب الاستعماري، وانكبّ على دراسة الظاهرة الاستعمارية الاستشراقية وموقع الآخر في التصور الغربي لحظة اكتشاف أميركا أو إنشاء المستعمرات الأوروبية.
فقد "كان القرن العشرون قرن حروب عاتية بين الديموقراطية والتوتاليتارية. بين النازية والشيوعية"، على ما يشير تودوروف في مؤلفه ذاكرة الشر، غواية الخير، الذي تخترقه نزعة لألبير كامو المتشائلة. ساعدته أشغال جيرمان تييون على تفكيك الخطاب الاستعماري، فيما وفرت له دراسات إدوارد سعيد حقلاً سياسياً وأنثروبولوجياً لتعميق المقاربة لمسألة الآخر بصفته صورة مبتكرة تنهل منها بسخاء الإيديولوجيا الاستعمارية-الإكزوتيكية. وليس بالغريب أن يقدّم تودوروف إدوارد سعيد إلى قرّاء الفرنسية وذلك بتصديره لكتاب الاستشراق بالفرنسية. عمد تودروف في كتاب "نحن والآخرون" إلى دراسة الآليّات التي قام عليها التاريخ الحديث. والشاغل الذي ما فتئ يتكرر في شاغله النظري هذا، وهو الذاكرة وآلياتها الشاطبة. في هذا الصدد يشير: "خسرت الحياةُ ضد الموت، لكنّ الذاكرة تفوز دائماً ضد العدم".
4- من هم أعداء الديمقراطيّة؟
يكتب تودوروف في الفصل الأوّل (قلق في الديمقراطيّة، Malaise dans la démocratie) من
أعداء الديمقراطيّة الحميميون: "إنّ الديمقراطية أفرزت بنفسها القوى التي بات تتهدّدها، ومن مستجدّات زمننا أنّ هذه القوى تتفوّق على تلك التي كانت تهاجمها من خارج. وسيكون من الصعب على القوى التي تحاربها والتي تعمل على تطبيعها أن تستدعي الروح الديمقراطية، ومن ثمّة تمتلك مظاهر الشرعيّة"
[8].
لقد باتت الديمقراطيّة في الغرب مريضة، تُحتضر على حدّ تعبير تودوروف بسبب المبالغة التي تحيط بها: مبالغة في الحريّة، مبالغة في التقدّم، مبالغة في إعطاء الحكم للشعب. لذلك لا يخفي تذمّره منها، لكونها صارت مخيّبة للآمال ومتناقضة مع نفسها، رغم استحضاره لتجربة العيش ضمن دول كليانيّة ومعاينته للفرق بين الأنظمة الكليانية والأنظمة الديمقراطيّة. (أمضى تودوروف ثلث حياته الأوّل في دول كليانية، والثلثين في دولة ديمقراطية ليبرالية).
ولعلّ الغريب في الأمر هو أنّ الديمقراطيّة صارت مهدّدة من الداخل، "فعدوّ الديمقراطيّة كامنٌ فينا نحن". ذلك أنّ "أعداء الديمقراطيّة الحميميون" ينشؤون عن الآثار القاسية التي تأتت من حاجة عميقة إلى الديمقراطيّة: الخطر الأوّل متأتٍّ من مطلب التقدّم، فتتحوّل الرّغبة في الدّفاع عن التطوّر والتقدّم إلى روح صليبيّة (le Messianisme)، الخطر الثاني هو الليبراليّة المتطرّفة (L’ultralibéralisme) المتأتّية من المبالغة في الحريّات الفرديّة، فتتحوّل الحريّة إلى طغيان للنظام الرأسماليّ الذي أصبح يهدّد رفاهيّة الجسد الاجتماعيّ. والخطر الثالث متأتٍّ من التحديد المفهومي للديمقراطيّة على أنّها "حكم الشعب" (demo cratos)، فالشعب هو المحدّد لماهيّة الديمقراطيّة، لكن من تنقصه الفطنة في التمييز بين القرارات هو الذي يمثّل خطراً على الديمقراطيّة، فينخرط الشعب انخراطاً مباشراً في القرار تحت تأثير العاطفة وبعيداً عن العقلانيّة، ولعلّ حادثة إعدام سقراط استجابة لرغبة شعب أثينا وتحت تأثيرات البلاغة السفسطائية خير دليل على ذلك، وهذا الخطر يسميّه تودوروف الشعبويّة (Le populisme).
فكيف تنجب الديمقراطيّة أعداءها الحميميين؟ ذلك هو وجه المفارقة، ولماذا تصبح الحريّة من جهة كونها قيمة من القيم الأساسيّة للديمقراطيّة عدوّاً خطيراً للديمقراطيّة نفسها؟ لماذا يفسد علينا هذا الشغف الديمقراطيّ أموراً كنّا عيّناها مطالب كونية مثل "الحريّة" و"الإرادة" و"التقدّم"؟
إنّ "الشعب"، و"الحريّة"، و"التقدّم" هي العناصر الأساسيّة المكوّنة للديمقراطيّة. لكن إذا أفْلَتَ عنصر من هذه العناصر وانشقّ عن البقيّة ليصبح مبدأ منعزلاً ومتفرّداً، فإنّه يتحوّل إلى خطر يداهم الديمقراطيّة من الدّاخل، فإنّنا نتحدّث حينها عن "الأعداء الحميميين للديمقراطيّة". يبدو أنّ مخاطر الديمقراطيّة متأتية من فرضيّة عزل أو تمييز أحد مكوّناتها، فما يجمع بين هذه المخاطر الملتصقة بها على اختلافها هو حضور صورة من صور "الإفراط" و"التطرّف" و"المغالاة" (Hubris, démesure)
[9]. ومعلوم أنّ (hubris) من اليونانية القديمة (ὕβριϚ / húbris) وتعني نمطاً من الشعور العنيف المستوحى من الإحساس بالعظمة والكبرياء، وقد كان يُعتبر نوعاً من "الجريمة" لكونه يتضمّن معنى من معاني تجاوز الحدود التي وضعتها الديانة، ومقابله عند الإغريق هو الاعتدال والوسطيّة
[10]. ويذكر تودوروف أنّ هيرودوت (Hérodote)، من جهة كونه أوّل من تحدّث عن (ὕβριϚ) في المجلّد السابع من كتابه
البحث (L’Enquête)، يذكر
أنّ
حالة
من حالات "الكبرياء" أدّت إلى نتائج وخيمة. فعندما أراد ملك الفرس (Xerxès) شنّ حرب ضدّ الأثينيين لتوسيع حدود مملكته وفرض سلطانه، استشار أحد مساعديه الذي يدعى (Artabane) فردعه ونصحه بعدم الدخول في الحرب قائلاً: "تستخفّ السماء دائماً بمن يتجاوز القياس، فالسماء الغيورة برعدها وذعرها، يمكن أن تُهلك الجيش الكبير هلاكاً مُخزياً، وهكذا يمكن لجيش كبير أن يستسلم أمام عدد قليل من الرجال أحياناً". إلاّ أنّ الملك لم يمتثل لذلك فكانت العاقبة وخيمة
[11].
عند الإغريق القدامى تعاقب الآلهة البشر لكبريائهم، فهي لا ترغب في من أراد أن يحتلّ مكانتها. أمّا في الديانة المسيحيّة فتسلّط على الكائن البشريّ قبل ولادته ما يُسمّى بالخطيئة الأصليّة (péché original) التي تحدّ من مأمولاته. وعُوقب إبليس لكونه لم يسجد لربّه وجعله من المغضوب عليهم إلى يوم الدين. لكن كيف يمكن الحدّ من "كبرياء" أولئك الذين لا يعتقدون لا في الآلهة ولا في "الخطيئة الأولى" ولا في "ربّ قدير"؟ ما الذي سيحدّ من تصرّفات ومن طموحات سكّان الدول الديمقراطيّة الحديثة؟ لقد صار الوعي بضرورة عدم تجاوز "القياس" كبرياء ومغالاة، مرتبطاً بقدرة الأنظمة الديمقراطيّة على شدّ تماسك النسيج الاجتماعي، وعدم اختزال الجمع في الفرد، فالفردانيّة هي التي تسمح بظهور "المغالاة" (ὕβριϚ)، التي تفتح المجال أمام انشقاق المكوّنات الأساسيّة للديمقراطيّة عن بعضها بعضاً
[12].
لقد كان أعداء الديمقراطية من الخارج، ممّن يرفضون مبدأ الديمقراطيّة نفسه، ويدعون إلى استبدالها بشيء آخر يزعمون أنّه "أسمى"، ففي الدول التي تحكمها دكتاتوريات فاشية (إيطاليا، كرواتيا، إسبانيا، البرتغال) كان هؤلاء يزعمون أنّ الديمقراطية أصابها الإعياء والوهن، وأنّ هذا النظام لم يعد يستجيب للتطلّعات الشعبيّة. إلاّ أنّه حتى الدول التي لم تكن تعرف هذا المخطّط الفاشيّ (السياسي-الإيديولوجي)، كان هناك نوع آخر من التوليتارية يتمثل في أحزاب مهمّة من اليمين المتطرّف، كما هو الحال في فرنسا وبلجيكا. وبعد الحرب العالمية الثانية نمت دكتاتورية أخرى مختلفة تمثلت في التهديد الذي كان قادماً من أوروبا الشرقيّة، من أنظمة شيوعيّة تجسّدها الكتلة الشيوعيّة. ومنذ سقوط الإمبراطورية السوفياتية، تولّد في أوروبا الشرقيّة فكر يرى فيما حدث انتصاراً هادئاً للديمقراطية، في حين أنّها لم يعد لها أعداء خارجيون معلنون صراحة، بل أعداء حميميون.
العدوّ الحميميّ الأوّل: وهو ما اصطلح على تسميته بـ"مطلب التقدُّم"، الذي يخصّص له تودوروف كامل الفصل الثالث من كتابه
أعداء الديمقراطيّة الحميميون. يبدو هذا المطلب ملازماً للمشروع الديمقراطي نفسه، لأنّ الديمقراطية ليست حالة ترتّبت، مبدئيّاً، عن وضعية موجودة سلفاً، فهي لا تخضع لفلسفةٍ محافظةٍ، ولا لفكرٍ إرغاميّ، ولا تسعى للحفاظ على ما هو موجود سابقاً أو لاحترام التقاليد دون قيد أو شرط. كما لا تستند على كتاب قديم مقدّس كنوع من القانون الذي يجب دائماً تطبيقه بكيفيّة خاصة. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا العامل من المتطلّبات محمودٌ في ذاته، إلّا أنّ ما تمَّ في مراحل معيّنة من الديمقراطية هو أنّها كانت تنشط من اعتقاد أكثر رسوخاً يتصوّرها حاملة لأفضل المنافع ويعتبرها إذّاك من المشروعيّة أن تُفرض على الآخرين بالقوّة، بما فيها الجيوش. ويستحضر تودوروف ما حدث مثلاً في ليبيا، وقبل ذلك بسنوات في العراق أو في أفغانستان. إذ يبدو أنّ التطلّع للتقدّم -وهو أحد المبادئ المميِّزة للديمقراطية- يصير مصدر دمار للدول التي لا تتقاسم مع الدول المتقدّمة "تقدّمها الديمقراطيّ" ذلك هو وجه المفارقةً. فيتراءى لها الشرّ هُنا خيراً، ويكون
الشرّ غواية للخير، كما جاء
في عنوان أحد كتب تودوروف السابقة،
ذاكرة الشرّ، غواية الخير الصادر سنة 2000 (Mémoire du mal, tentation du bien).
[13] العدوّ الحميميّ الثاني: وهو
الليبراليّة المتطرّفة (L’ultralibéralisme)، ويذكر تودوروف أنّ هذا الخطر يأتي، وبشكلٍ مُفارقٍ أيضاً، من أحد أروع مظاهر الديمقراطية ومكاسبها الأساسية، وبالأخصّ الديمقراطية الليبرالية، وهو: الدفاع عن الحرية الفردية؛ وذلك لأنّ الديمقراطية لا تكتفي بالدفاع عن سيادة الشعب، وإنّما تحمي كذلك حرية الفرد، حتى من التدخُّل المفرط من هذا الشعب نفسه. لذلك، فإنّ الديمقراطية الليبرالية مختلفة عما كُنّا نسميه أحياناً، تحت أنظمة ستالينية، بـ"الديمقراطيات الشعبية" التي كانت تُجرّد الفرد من كلّ استقلالية. تُسمّى الديمقراطيّات الحديثة ليبراليّة عندما تضيف لمبدئها الأساسيّ مبدأ ثانويّاً، هو حريّة الأفراد. فيظلّ الشعب صاحب السيادة، لكنّه لا يحترم حدود الفرد الذي يكون سيّداً في مملكته. ذلك أنّه لا يمكن تنظيم الحياة في المجتمع وفق مبدأ وحيد: فسعادة الجماعة لا تتوافق مع سعادة الفرد. نتحدّث حينئذ عن ضربين من الاستقلالية: استقلاليّة الجماعة أو الشعب واستقلاليّة الفرد. فلا ينبغي على الفرد فرض إرادته على الجماعة (communauté)، كما لا يتدخّل الشعب ككلّ في الشؤون الخاصّة بالمواطنين حتىّ تنشغل الديمقراطيّة بفكرة تحسين دائم للنظام الاجتماعيّ، وإن كانت الشوائب (les imperfections) معطى مميّزاً لكلّ واقع اجتماعيّ
[14].
لكن المشكل داخل ديمقراطياتنا الليبرالية يكمن في أنّ الاقتصاد الذي هو ثمرة المقاولة الحرّة لدى الأفراد، قد حلّ بهذا الاعتبار محلَّ السياسة وصارت تحكمه سلطة الربح، وهو ما مثّل أحد الآثار المنحرفة للمبادرة الفردية غير المراقبة، وقاد بشكل حتمي إلى أن يستولي الأكثر غنىً على الأكثر فقراً. وبإيجاز، فقد أصبح هذا النمط من الليبرالية، ترتيباً على ذلك كلّه، شكلاً آخر من السلطة المستبدّة: فقد ألحق طغيان الرأسمالية الضرر بحماية الشعب عبر الدولة. إنّ هذا الجاذب للكسب الفردي بات يُهدّد رفاهية الجسد الاجتماعي بأكمله.
العدوّ الحميميّ الثالث: هو
الشعبويّة (Le populisme)، وهي بمثابة قفا الديمقراطية المقلوب، ذلك أنّ الديمقراطيّة في معناها هي "حكم الشعب" وتتعلّق باستشارة الشعب، فمن البدهي أنّ الديمقراطية بدون الشعب ليست ديمقراطية؛ غير أنّ "الشعبوية" تمثّل عَقَبة كَأْدَاء في بحث انخراط الجماهير الشعبية انخراطاً مباشراً وكُلّياً، إذ في الغالب تتّفق على ما يصلح، وفق التحريك الوسائطي الأكثر مبالغةً وسهولة، وتهدف إلى أن يتخذ جزءٌ من هذه الجماهير نفسها القرار تحت تأثير العاطفة وخارج كلّ عقلانية. وهكذا فمن تنقصه فطنة التمييز بين القرارات الهامّة قد ينشئ خطراً حقيقيّاً. للعمل الجيد لكلّ ديمقراطية تليق باسمها، من خلال الفصل العادل والمناسب بين السلط (التشريعية، التنفيذية، القضائية)
[15]. لقد صار المثال الديمقراطي مثالاً خائناً وفاسداً، وإن كان ذلك عن حسن نيّة. إنّ ديمقراطيّة اليوم مريضة، وعلّة مرضها هو دلالها لأبنائها الثلاثة: الحريّة،
والتقدّم،
وسلطة الشعب: هي مريضة بعناصر القوّة التي قامت عليها.
إنّها مفارقة عجيبة: كيف يكون العدوّ هو الحميم أي الصّديق المرافق لنا دوماً؟ كيف يكون هذا الحميم حمّى لا تزول، يرافقنا كظلّنا،
فلا نستطيع التخلّص منه ففي اندثاره تقتل الديمقراطية نفسها بنفسها؟ نتذكّر ها
هنا قولاً فريداً لأرسطو في الصّداقة والصّديق: "آه يا أصدقائي، ليس ثمّة أصدقاء"
، (أخلاق نيخوماخوس). كيف تتحرّر الدّيمقراطيّة ممّا هو حميمي فيها دون أن تسيء إلى نفسها؟
ضرورة المرور إلى المفهوم المعتدل للديمقراطيّة: ينبغي تعديل الديمقراطيّة وردّها إلى فهم معتدل:
- تقوم الديمقراطيّة على سلطة الشعب، الذي ينبغي أن يكون سيّد نفسه فلا ينساق وراء تأثيرات كل أشكال الوصايا الدينية والعرقية أو الايديولوجيّة.
- فإذا كانت الديمقراطيّة في جوهرها استجابة لإرادة الشعب، فلا ينبغي توجيه هذه الإرادة توجيهاً سيئاً رضوخاً لانفعالات فرديّة أو تحقيقاً لمصالح ذاتيّة.
- يقوم مفهوم الديمقراطيّة في جوهره على مبدأ التعدّديّة والقبول بالاختلاف والمساواة بين كلّ المواطنين.
ـ إنّ العدوّ الأساسي للديمقراطيّة هو المغالاة والإيديولوجيات المتطرّفة.
- لا ينبغي أن يتحوّل التقدّم إلى إيديولوجيا استعماريّة.
- ترفض الديمقراطيّة المواقف المستسلمة للقدر وتفرض على إرادة ذلك الشّعب الخنوع والاستسلام.
- إنّ الديمقراطيّة تحتّم علينا أن نستمدّ التشريعات وفق مبادئ العقل والعدالة. فكلّ قوانين عادلة بوسعها أن تجعل شعباً ما شعباً سعيداً.
- كما يرفض تودوروف وصف الآخر بالمتوحّش أو البربريّ فهذا الأمر هو اعتداء على فكر الأنوار.
- يدين تودوروف تطرّف الإسلاميين ويشبّههم بالجماعات المسلّحة التي ظهرت في يوم ما مثل "جماعة الجيش الأحمر" في ألمانيا، أو"الألوية الحمراء" في إيطاليا، لكن الأمر بالنسبة إليه بأعمال إرهابيّة منتظمة. لذلك لا مجال للمقارنة بين التطرّف الإسلامي والدكتاتوريات الأخرى كالفاشيّة مثلاً. كما يرفض تودوروف عداء الغرب الشديد تجاه الديانة الإسلاميّة.
لا يمكن اعتبار هذه الحلول التي يقدّمها تودوروف وصفة صالحة لكلّ أنماط الديمقراطيّات، لأنّ التشخيص خاصّ بالديمقراطيات الليبرالية الغربية. بل إنّ ما تشكو منه ديمقراطيات الشعوب العربية هو بعيد عمّا هي عليه الديمقراطية الغربية. ذلك أنّ المبادئ التي قامت عليها الديمقراطية الغربية (حرية الفرد، التقدّم، سلطة الشعب) هي مبادئ مورست وطبقت إلى درجة المغالاة والتطرّف فصارت مرضاً من فرط التجاوز في الممارسة واستقلالية المبادئ عن بعضها بعضاً. في حين أنّ ديمقراطية الشعوب العربيّة مازالت لم تشرع في الاعتراف بهذه المبادئ اعترافاً حقيقياً يجعلنا نلمس وجوداً حيّاً لها في الواقع. فنحن لا نخاف على أنفسنا من خطر الشعبوية، لأنّ الشعوب العربية مازالت حتى بعد قيام الثورات غير مالكة لزمام أمورها، وغير واعية بمصيرها، تقودها وتحركها قوى ارتدادية ورجعية. فكيف نخاف عليها من خطر التقدميّة؟ إننا نخاف من وقوعها في نكسة رجعيّة. ولا نخاف من سيطرة حرية الفرد لأنّ هذه الحريّة مازالت لم تبلغ كمالها بعد.
فكيف نشخّص وضع الديمقراطيّة عندنا؟ من هم أعداؤها؟ ألن يكونوا أكثر حميميّة من أعداء الديمقراطيّة الغربيّة طالما أنّ ما يعيق تحقيق المبادئ الديمقراطية، هي جملة ما ورثناه من ماضينا، وأننا "ملّة" وأمّة منغلقة على ثوابتها، إلى الحدّ الذي قد تصير فيه هذه الثوابت أمراضاً حميمة تتعايش معنا تعايشاً يوميّاً، لا نغادرها ولا تغادرنا؟