أصل الأخلاق – مجتمع قرود البونوبو يطرح التباين الغريب بين مجتمع قرود البونوبو و الشمبانزي تساؤلات عديدة على مستوى المجتمع الإنساني.
منذ مليوني عام انفصلت هاتين المجوعتين من القردة، حيث استوطنت قرود البونوبو الضفة الغربية لنهر الكونغو في منطقة صغيرة و متقلصة من الغابات الاستوائية، فيما عاشت قرود الشمبانزي على الضفة الأخرى، في منطقة ممتدة من تنزانيا و أوغندا إلى شرق إفريقيا.
https://www.youtube.com/watch_popup?v=utC...c&vq=small تلعب الممارسة الجنسية دورا أساسيا في مجتمع البونوبو ، فهي تستخدم كوسيلة للمصالحة و حل النزاعات والصراعات. البونوبو هي القردة الوحيدة التي شوهدت تمارس كل النشاطات الجنسية التالية:
التقبيل الفموي، الممارسة الجنسية وجها لوجه، الجنس الفموي، المداعبة في المناطق التناسلية بين الإناث و بين الذكور.
قبل المتابعة أود أن أوضح الاختلاف النوعي بين القرد Ape و السعدان Monkey ، تطورت القردة من سعادين العالم القديم منذ 25 مليون عام، بالمقارنة مع السعادين فإن القرود ليس لها ذنَب، تمتلك مفاصل كتف متنوعة الحركة ، و دماغ أكبر بمرتين.
كان هناك العديد من أنواع القرود معظمها انقرض ، الأنواع الستة المتبقية هي : -القرود الدنيا- ( الجيبون و السيامانغ) و -القردة العليا- (الاورانغ اوتان ، الغوريلا ، الشيمبانزي ، و البونوبو). معظمها تعيش بالقرب من خط الاستواء في كل من أفريقيا و جنوب شرق أسيا.
عاش السلف المشترك للإنسان و الشمبانزي منذ ستة ملايين عام و هو قد لا يختلف كثيرا عن بنية و شكل قردة البونوبو التي يعتقد العلماء أن بنيتها لم تتغير كثيرا عن هذا السلف المشترك الذي عاش منذ ستة ملايين عام.
تتميز قرود البونوبو بقامة أكثر انتصابا من قرود الشمبانزي ، و مجتمع أمومي متساوي تلعب فيه الممارسة الجنسية دورا هاما. تعيش البونوبو في قبيلة تتألف من مئة فرد تنفصل إلى مجموعات صغيرة أثناء النهار للبحث عن الطعام ، و من ثم تجتمع مجددا لتنام. البونوبو هي بشكل أساسي نباتية خلافا للشمبانزي (حيث من المعروف أنه يصطاد السعادين) ، وهي تأكل الحشرات و شوهدت تمسك بعض السناجب الصغيرة، ولكنها تعتمد على الفواكه بشكل أساسي.
أنثى البونوبو هي الجنس المسيطر، و لكنها سيطرة خفيفة حتى أن بعض الباحثين يعتبرون مجتمع البونوبو هو نوع من السيطرة المشتركة أو التساوي بين الجنسين.
تعزز البونوبو الانسجام الاجتماعي بالجنس ، فممارسة الجنس تتم في كل التنويعات الممكنة ، ذكور و إناث ، ذكور و ذكور ، إناث و إناث ، و حتى أطفال و بالغين . الممارسة الجنسية تتضمن، الإيلاج، حك المناطق الجنسية ببعضها، الجنس الفموي (استخدام الفم لإثارة المناطق الجنسية)، الاستمناء المتبادل و حتى الممارسة التي يعتقد البشر أنها تميزهم القبلة الفرنسية French kissing
تستخدم البونوبو الجنس للصلح بعد القتال ، لتخفيف التوتر، للترابط و توثيق التحالفات.
عادة ما ينتظر البشر الانتهاء من وجبة طعام طيبة ليمارسوا بعدها الجنس، لكن البونوبو يمارسونها قبل ذلك، لتخفيف المنافسة و التوتر التي تشاهد عادة بين الحيوانات عندما تجد مصدر غذاء.
يقول البروفسور <فرانس دي فال> صاحب كتاب "بونوبو : القرد المنسي" ((الجنس حاضر على الدوام، قد ينهار مجتمع البونوبو بدونه، لكنه ليس كما يفكر البشر، الجنس ليس مدفوعا بالنشوة أو يسعى للتفريغ كما أنه ليس مدفوعا بهدف الإنجاب، الجنس عند البونوبو عفوي سريع و حالما تتعود على مشاهدته سيبدو مثل أي تواصل اجتماعي)).
صورة لعائلة من قرود البونوبو ، تتميز البونوبو بوجه أسود و شفاه حمراء ، و دون لحية.
الممارسة الجنسية وجها لوجه.
http://s3.hubimg.com/u/2840382_f496.jpg التقبيل الفموي
بعيدا عن الاختلاف الشكلي بين قرود الشمبانزي و البونوبو فإن الاختلافات السلوكية هي ما يميز هذين النوعين، البونوبو أقل عدوانية و عصبية من الشمبانزي ، و ليسوا ميالين للعنف الجسدي، وهم اقل هوسا بالسلطة و المرتبة الاجتماعية.
كما يقول العالم <فرانس دي فال>: (( تحل الشمبانزي القضايا الجنسية بالسُلطة ، فيما تحل البونوبو قضايا السُلطة بالجنس))
قتل الأطفال هو سلوك شائع جدا عند الحيوانات ففي المجتمعات الذكورية تترك الأشبال الصغيرة المجموعة خوفا من أن تُقتل على يد الذكر القائد، في حين أن الإناث في مجتمع البونوبو تتحالف سوية و تدعم بعضها البعض و يكون لها الأولية في الطعام في مواجهة ذكر يحاول أن يتصرف بعدوانية ، و ربما هذا التحالف الأنثوي ظهر لمواجهة قتل الأطفال الذي يمارسه الذكور، فقتل الأطفال لم يشاهد عند البونوبو.
الحروب المستعرة تنشب باستمرار بين مجموعات قرود الشمبانزي حيث ترمي بعضها بالحجارة و العصي و تقتل بعضها، كما شوهدت تأكل لحم بعضها (المكافئ لأكل لحوم البشر الذي مارسه الإنسان في حقبة من تاريخه) في حين مجتمع البونوبو أكثر مسالمة من هذه الناحية.
لست من هواة إسقاط علم سلوك الحيوان إسقاطا مباشرا على المجتمع الإنساني ، و لعل كتاب عالِم الحيوان <ديزموند موريس> "القرد العاري" يمثل هذا الاتجاه الاسقاطي.
بالنسبة لي المجتمع الإنساني هو نقلة نوعية في عالم الطبيعة، فالمجتمع الإنساني يعتمد على تراكم المعرفة و الثقافة و على نقلها بواسطة اللغة إلى الأجيال اللاحقة، و إن كان هذا ليس مقتصرا على الإنسان فلقد تبين أن نقل المعرفة و الثقافة شائع أيضا عند القرود.
الإنسان لا يصبح إنسانا إلا حين ينشأ في مجتمع إنساني بعكس الكثير من الحيوانات التي تمارس ماهيتها بمجرد فقسها من البيضة، حيث تلعب التربية و الفترة الطويلة نسبيا للطفولة البشرية دورا مهما في تشكيل الإنسان في جانبه الاجتماعي. ولكني مع ذلك و في نفس الوقت لا أرى أن هناك قطيعة مطلقة بين مجتمع الإنسان و الحيوان، قرود الشمبانزي تتعرف على نفسها في المرآة و تتعلم أكثر من 400 كلمة وتستطيع الضحك، الأفيال تهرب مفزوعة عندما تشاهد بقايا عظام أحد أبناء جنسها مما يدل على مستوى عاطفي نفسي لا يمكن إنكاره عند الحيوانات...
أحيانا لا أستطيع أن أمنع نفسي من المقارنة بين نمر أو أسد يتبول على حدود منطقته لإعلام النمور الأخرى بملكيته و سيطرته على الأرض، و بين الحدود التي يضعها البشر و اقتتالهم على ملكية الأراضي واحتلالها.
و لكني في نفس الوقت أرى بأن المجتمع الإنساني ليس خاضعا بالمطلق للحتميات البيولوجية التي تخضع لها الحيوانات ، فلا شك أن تطور المجتمع الإنساني من رابطة الدم و القبيلة والعرق إلى مفهوم العقد الاجتماعي و المواطنة و إدراك وحدة مصير البشرية على كوكب الأرض ستدفع بمجتمع أكثر عقلانية و إنسانية أي أن المجتمع الإنساني ليس مغلقا كما هو حال مجتمع النحل أو النمل و إنما هو مفتوح على أفق واسعة.
وهنا أطرح بعض التأملات و الآراء الشخصية . . .
ما هو العامل الذي أدى إلى هذا التباين الكبير بين مجتمعي الشمبانزي و البونوبو، بين مجتمع ذكوري (ذكر يسيطر على مجموعة نساء و يقصي الذكور الأخرى من الاقتراب من حريمه)، و بين مجتمع أمومي تلعب فيه الجدة والأم و بناتها العامود الفقري للحمة القبيلة. أهو مثلا وفرة الغذاء و البيئة المختلفة للضفة الغربية لنهر الكونغو التي استوطن فيها البونوبو.
أدعو هنا للتأمل، كيف أمكن لانفصال جغرافي طبيعي (نهر الكونغو) أن يحول مجموعة من القرود إلى نوعين مختلفين بيولوجيا و اجتماعيا.
أدعو هنا للتأمل، كيف أمكن لفترة مليوني عام أن تشكل لنا فارقا سلوكيا بين النوعين (الجنس للإنجاب، المقيد عند الشمبانزي ، الجنس للإنجاب و التواصل الاجتماعي و الحاضر دوما عند البونوبو).
لا شك أن العوامل الطبيعية ووفرة الغذاء و أسلوب إنتاج الثروة ساهمت في رسم معالم المجتمعات البشرية في حقبها التاريخية المتعددة، فشكل العائلة الحالي و المجتمع ذو الطابع الذكوري هو شكل مستحدث مارسته البشرية، في حين تدل الآثار التاريخية والانثروبولوجية أن البشرية مرت بمراحل متعددة من مجتمع مشاعي مختلط ، إلى أمومي متعدد ثم إلى ذكوري، ترافق هذا مع التغيرات الاقتصادية، التي كان سببها تغير أسلوب إنتاج القوت من مجتمع الجني و القطاف إلى الرعي إلى الزراعة.
قصة قرود البونوبو و الشمبانزي تظهر أنه هناك مرونة و تنوع على مستوى السلوك وبنية المجتمع فرضها عامل البيئة و الزمن، وهذا يدعونا إلى التأمل في العوامل المادية و الموضوعية التي تشكل مجموع الأخلاق و الذي يبين التاريخ أنها ليست مؤبدة في شكلها بل هي مفتوحة على أفق أرحب و أكثر تنوعا.