مارتن هايدغر - رسالة في النزعة الانسانية
إننا لم نفكر بعد، بشكل حاسم، في ماهية الفعل(1). إننا لا نعرف الفعل إلا كإنتاج لمفعول تقدر حقيقته تبعا لما يقدمه من نفع، غير أن ماهية الفعل هي الإنجاز(2). الإنجاز معناه: بسط شيء ما في تمام ماهيته وبلوغ هذا التمام. لا يمكن أن ينجز بالضبط إلا ما هو موجود مسبقا. والحال أن ما يوجد قبل كل شيء هو الوجود L’Etre. إن الفكر ينجز علاقة الوجود بماهية الإنسان. إنه لا ينشئ ولا ينتج هو نفسه هذه العلاقة. الفكر يعرضنا فقط على الوجود بوصفها ما أعطي له هو نفسه من قبل الوجود. تقوم هذه الأعطية على أن يأتي الوجود، عبر الفكر، إلى اللغة. إن اللغة هي مسكن الوجود الذي يقيم الإنسان في كنفه. والمفكرون والشعراء هو أولئك الذين يسهرون على هذا المأوى، وسهرهم هذا إنجاز لإنكشافية الوجود، من حيث أنهم، من خلال قولهم، يحملون هذا الانكشاف إلى اللغة ويصونونه داخلها. إن الفكر لا يرقى إلى مرتبة الفعل لمجرد أن مفعولا يترتب عنه أو لأنه يطبق على... الفكر يفعل من حيث أنه يفكر. وهذا الفعل هو ربما الفعل الأبسط والأسمى في ذات الوقت لأنه يخص علاقة الوجود بالإنسان. والحال أن كل فاعلية تقوم داخل الوجود وتتوجه من ثمة نحو الموجود، بيد أن الفكر، على العكس من ذلك، يستجيب لنداء الوجود ليقول حقيقة الوجود. إن الفر ينجز ويكمل هذا الترك. فالتفكير هو التزام من الوجود بالوجود. لا أدري ما إذا كان بإمكان اللغة أن توحد بين "من" و"ب" في صيغة واحدة كهذه: التفكير هو التزام الوجود، فصيغة الإضافة هنا، التزام الوجود، ينبغي أن تفيد أن المضاف إليه ذاتي وموضوعي في نفس الوقت غير أن الذات والموضوع، في مقابل ذلك، اصطلاحان ميتافيزيقيان غير ملائمين – هذه الميتافيزيقا التي استحوذت باكرا على تأويل اللغة، عبر أجناس "المنطق" و"النحو" الغربيين. إن ما يتكتم داخل حدث كهذا، يمكننا بالكاد أن نستشعره اليوم. إن تحرير اللغة من قيود النحو، من أجل مفصلة أكثر أصالة بين عناصرها، مهمة موكولة إلى الفكر والشعر. ليس الفكر مجرد انخراط في الفعل من أجل وبواسطة الموجود منظورا إليه بوصفه واقع الحال الراهن. الفكر هو الالتزام والانخراط بواسطة ومن أجل حقيقة الوجود، هذا الوجود الذي لا يكتمل تاريخه أبدا بل يظل دوما في حالة انتظار. إن تاريخ الوجود هو ما يسند ويحدد كل حالة ووضعية إنسانية. إذا كنا نريد فقط أن نتعلم التجربة الخالصة لماهية الفكر هاته التي نتحدث عنها، الأمر الذي يعني إنجازها، فإنه يتوجب علينا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر والذي تمتد أصوله إلى أفلاطون وأرسطو. في هذا العصر سيكتسي الفكر نفسه قيمة التخني، إنها عملية في خدمة العمل والإنتاج. لقد تم إذن تصور الفكر مسبقا من منظور البراكسيس والبويسيس. لهذا فنحن إذا ما نظرنا إلى الفكر في ذاته، فهو لا يكون "عمليا". هذه الكيفية في تمييز الفكر بوصفه "تيوريا" وفي تحديد فعل المعرفة كموقف "نظري"، كانت قد حدثت قبلا داخل تأويل "تقني" للفكر. إنها بمثابة محاولة على شكل رد فعل، استهدفت الاستمرار في الحفاظ على استقلالية الفكر أمام الفعل والعمل. ومنذ ذلك الحين و"الفلسفة" في حاجة مستمرة لتبرير وجودها أمام "العلوم". إنها تعتقد أنه بإمكانها تحقيق ذلك بشكل أكيد، إذا ما ارتقت هي نفسها إلى مرتبة علم. غير أن هذا الجهد يعني التخلي عن ماهية الفكر. يلاحق الفلسفة إذن خوف من ضياع التقدير والصلاحية إن هي لم تصبح علما. نرى هعنا ما يشبه النقص الذي يعزى إلى اللاعلمية. الوجود من حيث هو عنصر الفكر يتم الابتعاد عنه داخل التأويل التقني للفكر، حيث القرار يعود "للمنطق" الذي بدأ ينشر سيادته منذ عصر السفسطائيين وأفلاطون وبات الحكم على الفكر حسب مقياس لا يلائمه. هذه الطريقة في الحكم تماثل عملية تسعى إلى تقدير ماهية الأسماك وإمكاناتها بناء على قدرتها على العيش في اليابسة. الفكر انتقل منذ زمن طويل، طويل جدا، إلى اليابسة. هل يحق لنا الآن أن ننعت "باللاعقلانية" ذلك الجهد الرامي إلى إعادة وضع الفكر داخل عنصره؟.
إن الأسئلة الواردة في رسالتكم، كان بالإمكان توضيحها بيسر أكبر من خلال حوار مباشر. في النص المكتوب يفقد الفكر حركيته بسهولة. بل إنه لا يتمكن بالخصوص من الحفاظ على تعددية الأبعاد الخاصة بمجاله إلا بصعوبة. إن صرامة الفكر لا تكمن، على خلاف العلوم، في الدقة المصطنعة أي التقنية-التنظيرية للمفاهيم. إنها تقوم فيما يلي: أن يظل القول خالصا داخل عنصر الوجود وأن يسمح بهيمنة ما هو بسيط في أبعاده المتنوعة. غير أن النص المكتوب يمنح، من ناحية أخرى، ضغطا يكون صحيا لأجل فهم يقظ بواسطة اللغة. سأكتفي اليوم بعزل واحد من أسئلتكم. إن الفحص الذي سأجريه عليه من شأنه أن يلقي الضوء على باقي الأسئلة.
تسألون: كيف نعطي من جديد معنى "للنزعة الإنسانية"؟. يكشف هذا السؤال نية الإبقاء على الكلمة. أتساءل إذا ما كان ذلك ضروريا. ألم ينجل بما فيه الكفاية، الضرر الذي ينجم عن هذا النوع من التسميات؟ صحيح أننا بدأنا نحتاط منذ أمد طويل من (ياء النسبة وتاء التأنيث) ismes ... غير أن سوق الرأي العام يطالب باستمرار بالمزيد منها. وهناك دوما استعداد لتلبية هذا الطلب. إن مصطلحات ك"منطق"، "أخلاق"، "فيزياء" لم تظهر هي نفسها إلا حين أصبح الفكر الأصيل على مشارف الأفول. لقد فكر الإغريق خلال عصرهم الذهبي من دون هذه التسميات حتى أنهم لم يسموا الفكر "فلسفة". يكون الفكر في طريقه إلى الأفول حين يبتعد عن عنصره. العنصر هو ما يكون بإمكان الفكر أن يكون فكرا انطلاقا منه، العنصر هو بالضبط ما -له- قدرة: القدرة. إنه يتكفل بالفكر ويقوده بذلك إلى ماهيته. في كلمة واحدة، الفكر هو فكر الوجود. للإضافة هنا معنى مزدوج: فالفكر يكون من الوجود ومن حيث أنه يحصل بالوجود فهو ينتمي إليه والفكر يكون في ذات الوقت تفكيرا في الوجود إذ يصغي إلى الوجود من حيث أنه ينتمي إليه. يكون الفكر ما هو عليه تبعا لمصدر حصوله الأساسي، فمن حيث أنه ينتمي إلى الوجود، فهو يصغي إلى الوجود. الفكر يكون وهذا معناه: أن الوجود قد تكفل، في كل مرة وتبعا لقدريته، بماهيته. أن نتكفل ب"شيء" ما أو "شخص" ما في ماهيته، يعني أن نحبه، أن نرغب فيه. تدل هذه الرغبة، إذا ما فكرنا فيها بكيفية أصيلة، على: صفة للماهية، رغبة كهذه هي الماهية الخاصة للقدرة، التي لا يكون بإمكانها فقط تحقيق هذا أو ذاك ولكن أيضا جعل شيء ما يتجلى في حصوله الأصيل أي أنها مصدر حصول الكينونة. قدرة الرغبة هي هذا الذي - ب"فصله" يكون بالضبط لشيء ما القدرة على أن يكون. هذه القدرة هي بالضبط "الممكن" الذي تقوم ماهيته في الرغبة. بإيعاز من هذه الرغبة يحيط الوجود الفكر بقدرته، يجعله ممكنا. إن الوجود، من حيث هو رغبة تتحقق كقدرة، هو الممكن الأصيل. إنه يكون، من حيث أنه العنصر، تلك "القدرة الهادئة" للقدرة المحبة، أي للممكن. تحت هيمنة "المنطق" و"الميتافيزيقا" لم يتم بالفعل التفكير في كلمتي "ممكن" و"إمكان" إلا في تقابل مع "الواقع"، أي انطلاقا من تأويل محدد -ميتافيزيقي- للوجود مدركا كفعل actus وكقوة potentia، وهو تقابل نطابقه بذلك الذي يقوم بين الوجود existentia والماهية essentia. عندما أتحدث عن "القوة الهادئة للممكن" فأنا لا أقصد إمكان إمكانية تكون متمثلة فقط، ولا القوة الكامنة كماهية لفعل الوجود (الجوهر-العرض)، بل الوجود l’Etre نفسه الذي، وهو يرغب، تكون له القدرة على الفكر ومن ثم على ماهية الإنسان أي على علاقة الإنسان بالوجود. تعني القدرة على شيء ما هنا: الحفاظ عليه في ماهيته، والإبقاء عليه داخل عنصره.
حين يكون الفكر في طريقه إلى الأفول وهو يبتعد عن عنصره، فإنه يعوض تلك الخسارة بأن يضمن لنفسه قيمة ذات طابع تقني كأداة للتكوين، ليصبح بعد ذلك تمرينا مدرسيا وينتهي على شكل مشروع ثقافي. تتحول الفلسفة شيئا فشيئا إلى تقنية في التفسير من خلال العلل الأولى. لم نعد نفكر بل ننشغل بالـ"الفلسفة". داخل لعبة التنافس، تقدم مثل هذه الانشغالات نفسها إلى الميدان العمومي على شكل نزعات مذهبية ismes ... وتنحو إلى المزايدة. إن تفوق مثل هذه التسميات لا يعود إلى الصدفة. إنه يرتكز، وخاصة في العصور الحديثة، على الديكتاتورية الخاصة لما هو عمومي. فما ندعوه "وجود خصوصي" ليس بعد، مع ذلك، هو الأساسي، أي الوجود الحر للإنسان. إنه ليس إلا تصلبا في نفي ما هو عمومي. "الوجود الخصوصي" يظل هو المطمور الذي يتوقف على ما هو عمومي ولا يتغذى إلا من خلال تراجعه أمامه، فيشهد بذلك، رغما عنه، على تبعيته لما هو عمومي. والحال أن ما هو عمومي هو ذلك الجهد المشروط ميتافيزيقيا لأن جذوره ترجع إلى هيمنة الذاتية وذلك من أجل توجيه انفتاح الموجود نحو الموضعة اللامشروطة لكل شيء وجعله يقيم داخلها. وهذا هو ما يجعل اللغة تسقط في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل التبادل التي تتمكن الموضعة بفضلها -بوصفها ما يجعل كل شيء في متناول الكل على نحو متجانس- من الانتشار رغما عن كل الحدود. هكذا تسقط اللغة تحت ديكتاتورية العمومية التي تحدد مسبقا ما هو قابل للفهم وما ليس كذلك وينبغي إقصاؤه. إن ما قيل في "الوجود والزمان" (1927)، (الفقرة 27 و35)، حول الـ"هُم" (on)، لم يكن الهدف منه إطلاقا أن يضع فقط خلال الطريق مساهمة في السوسيولوجيا. كما أن الـ"هم" لا تعني فقط المطالبة، على المستوى الأخلاقي-الوجودي، بالوجود الذاتي للشخص. إن ما قيل عن الـ"هم" يتضمن، بالأحرى، بناء على الانتماء الأصيل للكلمة إلى الوجود، إشارة مفكرا فيها انطلاقا من السؤال المتعلق بحقيقة الوجود. هذه الصلة تظل محتجبة بفعل هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كشيء عمومي. لكن حين تعود حقيقة الوجود إلى الفكر وتصبح بالنسبة له ما هو جدير بأن يفكر فيه، يتوجب على التفكير آنذاك في ماهية اللغة أن يحتل مرتبة أخرى، إذ لن يظل بإمكانه أن يكون مجرد فلسفة للغة. وذلك هو السبب الوحيد الذي لأجله يتضمن "الوجود والزمان" (الفقرة 34) إشارة إلى البعد الأساسي للغة ويلامس السؤال البسيط: ضمن أي نمط من أنماط الكينونة توجد اللغة فعليا كلغة؟ إن إفراغ الكلام من ثرائه، هذا الإفراغ الذي ينتشر بسرعة في كل الأنحاء، لا يتوقف فقط على مسؤولية، ذات طابع جمالي وأخلاقي، نتحملها عند كل استعمال من استعمالاتنا للكلام. إنه ينجم عن مخاطرة بماهية الإنسان. والعناية الفائقة التي قد نبديها عند استعملنا للكلام لا تدل بعد على أننا أفلتنا من هذا الخطر الجوهري. فهي قد تكون اليوم علامة أيضا على أننا لا نرى إطلاقا هذا الخطر ولا نستطيع رؤيته، لأننا لم نتعرض أبدا بعد لجسامته. إن انحطاط اللغة، هذا الانحطاط الذي بتنا نتحدث عنه كثيرا منذ عهد قريب، وبكيفية جد متباطئة، ليس هو السبب مع ذلك، بل هو قبلا نتيجة لتلك العملية التي تخرج بموجبها اللغة عن عنصرها، شبه مرغمة، بفعل هيمنة الميتافيزيقا الحديثة للذاتية. لا تزال اللغة تكتم عنا ماهيتها، أي كونها مسكن حقيقة الوجود. اللغة تعطي نفسها بالأحرى إرادتنا ولنشاطنا كأداة للسيطرة على الكائن، الذي يظهر هو نفسه بوصفه الواقع داخل نسيج العلل والآثار. فنحن نداهم الكائن سالكين طريقا غير مباشر هو طريق الحساب والفعل، بل طريق علم وفلسفة ينهجان التفسير والتعليل ولا شك أننا نؤيد تخليهما عن جانب يستعصي على التفسير. ونعتقد، مع أحكام من هذا القبيل، أننا في حضرة السر الخفي. هذا كما لو كان من الممكن لحقيقة الوجود أن تقبل التحديد على مستوى العلل والأسباب أو، وهكذا يعني نفس الشيء، من خلال عدم قابلية الإدراك الخاصة بها.
لكن إذا ما كان على الإنسان أن يصل في يوم إلى جوار الوجود، فإن عليه أن يتعلم أولا كيف يوجد في ما لا اسم له. عليه كذلك امتلاك مهارة التعرف على إغواء ما هو عمومي كما على وهن الوجود الخصوصي. على الإنسان، قبل أن يأتي بكلمة، أن يستجيب أولا من جديد لنداء الوجود وتبليغه له، من خلال هذا النداء، بأن ليس لديه ما يقوله، كرد، إلا قليلا أو نادرا. حينئذ فقط يعاد للكلام ثراؤه الذي لا يقدر ويعاد للإنسان مسكنه ليقيم في قلب حقيقة الوجود.
لكن أليس في هذه المناداة على الإنسان من قبل الوجود، كما في محاولة إعداد الإنسان لهذه المناداة، جهدا يخص الإنسان؟ أية وجهة لل"هم" souci إن لم تكن إعادة تأسيس الإنسان في ماهيته؟ هل يعني هذا شيئا آخر غير جعل الإنسان إنسانيا؟ فالإنسانية تظل في صميم فكر من هذا القبيل، ذلك أن النزعة الإنسانية تقوم على ما يلي: أن نفكر وأن نحرص على أن يكون الإنسان إنسانيا وليس لا إنسانيا، "بربريا"، بمعنى خارج ماهيته. والحال، فيم تكمن إنسانية الإنسان؟ إنها تقوم في ماهيته.
لكن، كيف وانطلاقا من ماذا تتحدد ماهية الإنسان؟ يطالب ماركس بمعرفة الإنسان الإنساني وبالاعتراف به. وهو يعثر على هذا الإنسان في "المجتمع". الإنسان "الاجتماعي" بالنسبة له هو الإنسان "الطبيعي". فداخل "المجتمع" يتم تأمين "طبيعة" الإنسان، أي مجموع "حاجياته الطبيعية" (المأكل، الملبس، التناسل، الحاجيات الاقتصادية). المسيحي يرى إنسانية الإنسان في تحديدها انطلاقا من علاقتها بما هو إلهي. فعلى مستوى تاريخ الخلاص يكون الإنسان إنسانا بوصفه "ابن الله"، الذي يدرك نداء الأب في المسيح ويستجيب له. والإنسان ليس من هذا العالم، من حيث أن "العالم" مفكرا فيه على نحو أفلاطوني-تجريدي، لا يكون سوى ممرا عابرا نحو الماوراء.
إن تقدير الإنسانية والسعي إليها بشكل واضح تحت هذا الاسم، كان قد حدث لأول مرة في عهد الدولة الرومانية، حيث يقابل الإنسان الإنساني الإنسان البربري. ويكون الروماني آنذاك هو الإنسان الإنساني الذي يعلي ويغظم من شأن المهارة الرومانية "باستدماج" ما كان الإغريق قد باشروه تحت اسم الـ"بيديا". والإغريق هنا هم إغريق الهلينية المتأخرة التي تلقن ثقافتها في ندارس فلسفية. ثقافة تقوم على البحث في مجال الفنون الجميلة. تترجم الـ"بيديا" مفهومة على هذا النحو ب"الإنسانية". وفي مثل هذه الإنسانية تقوم رومانية الإنسان الروماني وفي روما نصادف أول نزعة إنسانية. لذلك تظل النزعة الإنسانية في ماهيتها تجليا رومانيا على وجه الخصوص، نجم عن التقاء ما هو روماني محض بالثقافة الهلينية المتأخرة. إن ما ندعوه نهضة القرنين الرابع عشر والخامس عشر بإيطاليا هو إحياء للنزعة الرومانية ومادام الأمر يتعلق بالنزعة الرومانية، فهو يتعلق بالإنسانية وبالتالي ب الـ"بيديا" الإغريقية. عير أن الهلينية هنا تؤخذ دوما في شكلها المتأخر، الروماني على وجه التحديد. والإنسان الروماني لعصر النهضة يتعارض بدوره مع الإنسان البربري. إلا أن ما يقصد هنا ب لا إنساني هو تلك البربرية المزعومة للسكولائية القوطية في العصر الوسيط. لهذا نجد أن النزعة الإنسانية، في تجلياتها التاريخية، تقتضي دوما بحثا إنسانويا يقصد إحياء الارتباط بالعهد القديم، وتقدم نفسها في كل مرة على هذا النحو كانبعاث للهلنستية. هذا ما تكشف عنه النزعة الإنسانية للقرن الثامن عشر كما جسدها Winkelmabb Schiller, Goethe, أما Hِlderlin، فعلى العكس من ذلك، لا ينتمي للنزعة الإنسانية، لسبب وجيه وهو كونه يفكر في قدرة ماهية الإنسان بكيفية أصيلة أكثر مما يمكن لهذه النزعة الإنسانية القيام به.
لكن إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بوجه عام الجهد الرامي إلى جعل الإنسان حرا من أجل إنسانيته وإلى تمكينه من اكتشاف كرامته، فإن النزاعات الإنسانية ستختلف حسب التصور الذي يكون لدينا عن "الحرية" وعن "طبيعة" الإنسان، وستتباين بنفس الكيفية وسائل تحقيقها. فالنزعة الإنسانية لدى ماركس لا تتطلب أية عودة إلى القديم، تماما كما هو الشأن بالنسبة للنزعة الإنسانية التي يتصورها سارتر تحت اسم الوجودية. وبالمعنى العام المشار إليه سالفا، تكون المسيحية أيضا نزعة إنسانية، من حيث أن كل شيء، في مذهبها، يرتبط بخلاص النفس وأن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص. غير أنه مهما اختلف أشكال النزعة الإنسانية من حيث الهدف والأساس، الصيغة ووسائل التحقيق وبناء تتفق رغم ذلك حول هذه النقطة وهي كون إنسانية الإنسان الإنساني تكون محددة انطلاقا من تأويل وضع قبلا للطبيعة، للتاريخ، للعالم، لأساس العالم أي للموجود في كليته.
تتأسس كل نزعة إنسانية على ميتافيزيقا ما أو تجعل هي نفسها منها أساسا لها. وكل تحديد لماهية الإنسان يفترض مسبقا، سواء عن وعي أو عن غير وعي، تأويلا للموجود من دون طرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود، يكون ميتافيزيقيا. لهذا، فنحن إذا ما نظرنا إلى الكيفية التي تتحدد من خلالها ماهية الإنسان، فإن خاصية كل ميتافيزيقا ستتجلى في كونها "إنسانية". وبنفس الكيفية تظل كل نزعة إنسانية ميتافيزيقية. إن النزعة الإنسانية، في تحديدها لماهية الإنسان لا تكتفي فقط بعدم طرح سؤال علاقة الوجود بماهية الإنسان ولكنها أكثر من ذلك، تحول دون طرحه، لجهلها به ولعدم فهمها له والسبب في ذلك أن أصلها يوجد داخل الميتافيزيقا. وخلافا لذلك فإن ضرورة السؤال المتعلق بالوجود وصيغته الخاصة، السؤال المنسي داخل الميتافيزيقا وبسببها، لا يمكنها أن ترى النور، إلا إذا طرحنا، داخل قبضة الميتافيزيقا بالضبط، السؤال: "ما الميتافيزيقا؟". أكثر من ذلك، يتوجب عند البداية، على كل سؤال حول أل "الوجود" بما في ذلك السؤال حول حقيقة الوجود، أن يقدم نفسه كسؤال ميتافيزيقي.
إن النزعة الإنسانية الأولى، أقصد تلك الخاصة بروما، وكل أشكال النزعات الإنسانية التي توالت إلى اليوم، تفترض جميعها بداهة ووضوح ال "ماهية" الأكثر شمولية للإنسان. ينظر إلى الإنسان باعتباره ذلك الحيوان العاقل. وهذا التحديد ليس مجرد ترجمة لاتينية لكلمات إغريقية، بل تأويلا ميتافيزيقيا. إن مثل هذا التحديد الجوهري للإنسان لا يكون خاطئا بل مشروطا ميتافيزيقيا. وبالمقابل، فما اعتبره "الوجود والزمان" جديرا بالمساءلة هو حصوله الأساسي وليس فقط حدوده. وما يكون جديرا بأن يوضع كسؤال، لا يسلم للفعل الهدام لنزعة شكية فارغة بل يوكل إلى الفكر بوصفه ما يتعين عليه هو نفسه أن يفكر فيه.
صحيح أن الميتافيزيقا تتمثل الموجود في وجوده، فتفكر بذلك في وجود الموجود l’être de l’étant. بيد أنها لا تفكر في الفرق الاختلافي بين الوجود l’Etre والموجود l’étant (في ماهية السبب 1929 ص8، كنط ومشكلة الميتافيزيقا 1929 ص225 و"الوجود والزمان" ص230). إن الميتافيزيقا لا تطرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود نفسه. لهذا فهي كذلك لا تتساءل أبدا بأية كيفية تنتمي ماهية الإنسان إلى حقيقة الوجود. هذا السؤال ليس فقط ما لم تطرحه الميتافيزيقا بعد إلى يومنا هذا: إن الميتافيزيقا من حيث هي ميتافيزيقا لا تبلغه. ويظل الوجود يترقب استذكار الإنسان بوصفه ما هو جدير بأن يفكر فيه. وبالنظر إلى هذا التحديد الماهوي للإنسان، سواء عرفنا عقل الحيوان وعقل الكائن الحي بأنه "ملكة المبادئ" أو كـ"ملكة المقولات" أو بأية طريقة أخرى، فإن ماهية العقل تقوم أينما كان ودوما فيما يلي: بالنسبة لكل فهم للموجود في وجوده، يكون الوجود نفسه قد انفسح قبلا وحصل في حقيقته. بنفس الكيفية، يفترض لفظ "حيوان" تأويل مسبقا لل"حياة"، يستند بالضرورة إلى تأويل للموجود كجسم وكفيزيس يتجلى داخلهما الكائن الحي. لكن، يبقى، إضافة إلى ذلك، أن نتساءل قبل أي شيء آخر، من وجهة نظر أصيلة تقرر سلفا بالنسبة لكل شيء عما إذا كانت ماهية الإنسان تقوم في بعد الحيوانية، وبصفة عامة، هل تكون في الطريق الصحيح المؤدي لاكتشاف ماهية الإنسان، حين نعرف الإنسان، وطالما بقينا نعرفه، ككائن حي ضمن كائنات حية أخرى مقابلين إياه بالنبات، بالحيوان، بالإله؟ نستطيع بالفعل أن نسلك على هذا النحو فيكون بإمكاننا أن نعرف الإنسان ككائن ضمن كائنات أخرى، وأن تصدر بصدده تبعا لذلك أحكاما صائبة. إلا أنه يتوجب علينا أن ندرك جيدا أن الإنسان سيجد نفسه، وقد تم الدفع به قطعا إلى المجال الماهوي للحيوانية، حتى وإن كنا نبعده عن التماهي بالحيوان بمنحه اختلافا نوعيا. فمبدئيا، سنظل نفكر في الإنسان الحيواني، حتى وإن افترضنا النفس كمبدأ للحياة والتفكير وبعدها الذات، والشخص أو الروح. إن موقفا من هذا القبيل يدخل في نهج الميتافيزيقا. غير أن تقدير ماهية الإنسان على هذا النحو، تقدير يتسم بفقر شديد، إذ لا يفكر فيها مطلقا في حصولها، ذلك الحصول الأساسي الذي يظل دوما المستقبل الأساسي بالنسبة للإنسانية التاريخية. الميتافيزيقا تفكر إذن في الإنسان انطلاقا من الحيوانية، ولا تفكر في اتجاه إنسانيته.
إن الميتافيزيقا لا تلتفت إلى المعطى الأساسي البسيط وهو أن الإنسان لا يتجلى في ماهيته إلا من حيث كونه مدعوا من قبل الوجود. فانطلاقا فقط من هذا النداء يقف حيث تقيم ماهيته. وانطلاقا فقط من هذه الإقامة تكون له اللغة كمأوى يحفظ لماهيته خاصيتها الانجذابية. الإقامة في فسحة الوجود(3) Lichtung، ذلك ما أدعوه الوجود-المنفتح(4) للإنسان Ek-sistence، وحده الإنسان يختص بهذه الكيفية في الكينونة. والوجود-المنفتح، وقد فهم على هذا النحو، لا يكون فقط هو أساس إمكانية العقل، إنه ذاك بالضبط الذي تحفظ فيه ماهية الإنسان الحصول الأصيل لتحديدها.
لا يصدق الوجود-المنفتح إلى على ماهية الإنسان، أي على تلك الكيفية الإنسانية في ال"كينونة"، ذلك أن الإنسان لوحده يكون، وعلى قدر خبرتنا بذلك، انخراطا في قدر الوجود-المنفتح. لهذا أيضا لا يمكن أبدا أن يفكر في الوجود-المنفتح كنمط خاص ضمن أنماط أخرى تخص الكائنات الحية، وهذا إذا ما افترضنا أن قدر الإنسان هو أن يفكر في ماهية كينونته، وليس فقط أن يضع تقارير وصفية حول بنيته ونشاطه، ومن وجهة نظر العلوم الطبيعية أو التاريخ. هكذا، فما أسندناه إلى الإنسان، انطلاقا من مقارنته بال"حيوان" كحيوانية، يتأسس هو نفسه في ماهية الوجود-المنفتح. فجسم الإنسان هو أساسا شيء آخر أكثر من مجرد كائن عضوي حيواني. وخطأ النزعة البيولوجية لا يتم تجاوزه بإضافة النفس إلى الواقع الجسماني للإنسان، وبإضافة التفكير إلى النفس، وبإضافة الخاصية الوجودية إلى التفكير، وبالتأكيد أقوى من أي وقت مضى على القيمة العليا للعقل... لكي نعيد في النهاية إسقاط كل شيء داخل التجربة الحياتية، معلنين بكل ثقة أن الفكر يحطم مجرى الحياة، من خلال مفاهيمه المتصلبة وأن فكر الوجود يشوه الواقع. أن يكون بإمكان الفيزيزلوجيا دراسة الإنسان كعضوية من وجهة نظر العلوم الطبيعية، فذلك لا يثبت أبدا أن ماهية الإنسان تقوم في "الخاصية العضوية" أي في الجسم المفسر علميا. فشبيه بهذا إدعاء حصر ماهية الطبيعة في الطاقة الذرية. إذ من الممكن جدا أن تكون الطبيعة قد أخفت بالضبط ماهيتها في ذلك الجانب الذي تقدمه للهيمنة التقنية من طرف الإنسان. فكما أن ماهية الإنسان لا تقوم في أن يكون عضوية حيوانية، كذلك القصور الذي يطبع هذا التحديد الماهوي للإنسان، لا يقصى ولا يختزل، حين نخص الإنسان بنفس خالدة وبملكة عقلية، أو بالخاصية التي تجعل منه شخصا. ففي كل مرة، كانت الماهية تفلت منا، وذلك بسبب نفس المشروع الميتافيزيقي.
إن ما هو الإنسان، أي "ماهيته" باللغة التقليدية للميتافيزيقا، تقوم في وجوده-المنفتح. غير أن الوجود-مفكرا فيه على هذا النحو لا يكون مطابقا للمفهوم التقليدي للوجود existentia والذي يشير إلى الواقع في تقابله مع الماهية Essentia مدركة كإمكانية. فنحن نجد في "الوجود والزمان" (ص42)، هذه العبارة مكتوبة بأحرف بارزة "ماهية الدازاين تكمن في وجوده" إلا أن الأمر لا يتعلق هنا بتقابل بين الوجود والماهية (existentia et essentia)، ذلك أن هذين التحديدين الميتافيزيقيين للوجود l’Etre بوجه عام، وأهم من ذلك العلاقة بينهما، لم يوضعا بعد كسؤال. ولا تتضمن العبارة كذلك منطوقا عاما حول الدازاين، إذا ما كان ينبغي لهذه التسمية التي ظهرت في القرن الثامن عشر للدلالة على "الموضوع"، أن تعبر عن المفهوم الميتافيزيقي لواقعية الواقع. إنها تعني، بالأحرى، أن الإنسان ينشر ماهيته بحيث يكون هو هذه ال"هنا" le là أي فسحة الوجود l’éclaircie de l’Etre. كينونة ال"هنا" هذه، وحده، تشمل الخاصية الأساسية للوجود-المنفتح، أي للإقامة المنفتحة داخل حقيقة الوجود. تقوم الماهية المنفتحة للإنسان في الوجود-المنفتح الذي يظل متميزا عن الوجود مفكرا فيه ميتافيزيقيا. ذلك الوجود الذي تتصوره فلسفة العصر الوسيط كفعلية actualitas ويعرضه كانط بوصفه الواقع الذي يأخذ معنى موضوعية التجربة. في حين يحدده هيجل باعتباره فكرة الذاتية المطلقة وهي تعي نفسها ويتصوره نتشه كعود أبدي لذات الشيء. أما فيما يتعلق بمعرفة ما إذا ما كان هذا المفهوم (الميتافيزيقي) للوجود، من خلال تأويلاته كواقع -وهي تأويلات لا تبدو مختلفة إلا للوهلة الأولى- يكفي للتفكير ولو في كينونة الحجر، أو حتى في الحياة وفي كينونة النبات أو الحيوان، فإننا نترك السؤال معلقا. يبقى أن الكائنات الحية تكون ماهي عليه، من دون أن تقيم، انطلاقا من كينونتها بما هي، في حقيقة الوجود، أو تحفظ داخل هذا الوضع ما يجعل كينونتها تنشر ماهيتها. يبدو أن الكائن الحي يكون، ضمن كل ما هو كائن، الأصعب بالنسبة لنا عندما نطرحه للتفكير، ذلك أنه إذا كانت تربطنا به، بشكل ما، قرابة وثيقة، فهو في ذات الوقت ينفصل من خلال هوة عن ماهيتنا، من حيث هي وجود-منفتح. في مقابل هذا، قد يبدو أن ماهية الألوهي تكون أقرب إلينا من هذا الواقع الممتنع للكائنات الحية، أقصد وفقا لمسافة أصلية، تكون مع ذلك من حيث هي مسافة أقرب إلى ماهيتنا كوجود-منفتح من القرابة الجسدية مع الحيوان التي تظل من طبيعة يتعذر سبر أغوارها، ويمكن بالكاد تخيلها. إن أفكارا كهذه تسلط ضوءا غريبا على الطريقة المتداولة، ومن تم المتسرعة دوما، في تحديد الإنسان كحيوان عاقل. فإذا كانت النباتات والحيوانات تفتقر إلى اللغة، فلأنها تظل سجينة داخل محيطها المكتنف من دون أن تتعين بشكل حر في فسحة الوجود. والحال أن هذه الفسحة هي وحدها ما يكون "العالم" غير أنها إذا كانت تظل معلقة من دون عالم داخل محيطها المكتنف، فليس مرد ذلك إلى امتناع اللغة عنها. ففي كلمة "محيط مكتنف" يتركز، بالأحرى، كل لغز الكائن الحي. ليست اللغة وسيلة تتخارج من خلالها العضوية، كما أنها ليست تعبيرا لكائن حي. لهذا السبب، فنحن لن نعرف أبدا كيف نفكر فيها بكيفية تتوافق وماهيتها، إذا ما انطلقنا من قيمتها كعلامات ولربما أيضا من قيمتها الدلالية. اللغة هي مجيء الوجود ذاته، المجيء المفصح والكاتم في ذات الوقت.
إن الوجود-المنفتح، مفكر فيه كانجذاب، لا يلتقي مع الوجود (بالفعل) existentia لا شكلا ولا مضمونا. يدل الوجود-المنفتح في مضمونه على انبثاق وخروج [عن الذات] ex-stase في سبيل حقيقة الوجود. على عكس ذلك يدل الوجود (بالفعل) على الواقع في مقابل الإمكانية الخالصة مدركة كفكرة. يشير الوجود-المنفتح إلى التحديد المتعلق بما يكونه الإنسان في قدر الحقيقة. في حين يظل الوجود (بالفعل) الاسم الذي نعطيه للتحقق الخاص لما يكون عليه شيء ما، عندما يتجلى في فكرته. إن القضية: "الإنسان يتواجد تواجدا منفتحا" ليست جوابا عن السؤال المتعلق بمعرفة ما إذا كان الإنسان واقعيا أم لا، إنها جواب عن السؤال المتعلق ب"ماهية" الإنسان، وهو السؤال الذي يساء طرحه، سواء حين نسأل: ما هو الإنسان؟ أو من هو الإنسان؟ ذلك أننا سواء مع من؟ أو ما؟ ننظر إليه مسبقا من خلال الشخص أو الموضوع. والحال أن، مقولة الشخص، تماما كما هو الشأن بالنسبة لمقولة الموضوع، تدع ما يجعل الوجود-المنفتح التاريخي -الأنطولوجي ينشر ماهيته، يفلت منها كما تحجبه في ذات الوقت. لذلك كان وضع كلمة "ماهية" بين مزدوجتين داخل العبارة المشار إليها في "الوجود والزمان" (ص42). وقصدنا من ذلك أن الماهية لم تعد تتحدد أبدا ومن الآن، لا انطلاقا من القوة ولا انطلاقا من الفعل ولكن انطلاقا من سمة انفتاح الكينونة- هنا (الدازاين). فمن حيث هو وجود-منفتح، فإن الإنسان يتحمل كينونة -ال- هنا كـ"هم" souci حين يستقبل ال -هنا بوصفها فسحة الوجود. بل إن كينونة ال- هنا هذه تبسط هي نفسها ماهيتها بوصفها ما "القي به"، إنها تبسطها فيما يعرضه الوجود، هذا الوجود الذي يكون الحصول قدره.
سيكون أكبر سوء فهم هو محاولة تفسير هذه القضية حول ماهية الإنسان كوجود-منفتح، كما لو كانت تحويلا دنيويا لفكرة اللاهوت المسيحي (الله هو موجد الوجود) وقد تم تطبيقا على الإنسان، ذلك أن الوجود-المنفتح ليس تحقيقا لماهية مثلما أنه لا ينتج ولا يضع هو نفسه مقولة الماهية. فأن نفهم "المشروع" في "الوجود والزمان" كفعل يضع(5) في إطار التمثل، يعني ذلك أن ننظر إليه كتحقيق للذاتية وألا نفكر أبدا في أن "فهم الوجود" وحده يمكن أن يفكر فيه في نطاق "تحليل الوجود الأصيل" ل"الكينونة-في-العالم" أي بوصفه تلك العلاقة الانجذابية بفسحة الوجود. إن كون الفصل الثالث من الجزء الأول من "الوجود والزمان": "الزمان والوجود" لم ينشر حين ظهور "الوجود والزمان" (أنظر "الوجود والزمان" ص:39)، قد جعل، بكل تأكيد، الإتمام والإنجاز الكافي لهذا الفكر المخالف، الذي يغادر الذاتية، أمرا صعبا. ففي هذه النقطة بالذات ينقلب كل شيء. وعدم نشر هذا الفصل يعود لكون الفكر لم يتمكن من التعبير عن هذا القلب بشكل كاف وهو لم يتمكن من ذلك بالاستناد إلى لغة الميتافيزيقا. والمحاضرة التي تحمل كعنوان "حول ماهية الحقيقة"، والتي تم التفكير فيها وإلقاؤها سنة 1930 ولم تنشر إلا سنة 1943، تجعلنا نتبين شيئا ما فكرة قلب "الوجود والزمان" إلى "الزمان والوجود". هذا القلب لا يمثل إنزياحا عن الوجهة التي ينظر من خلالها "الوجود والزمان" ولكن من خلاله بلغ الفكر الذي يبحث عن نفسه منطقة ذلك البعد الذي يخبر "الوجود والزمان" انطلاقا منه، يخبر انطلاقا من التجربة الأساسية لنسيان الوجود.
يصوغ سارتر، على العكس من ذلك، مبدأ الوجودية على النحو التالي: الوجود يسبق الماهية. وهو هنا يأخذ الوجود والماهية بالمعنى الذي تعطيه إياهما الميتافيزيقا التي ترى منذ أفلاطون أن الماهية تسبق الوجود. إن سارتر يقلب هذه القضية. غير أن قلب قضية ميتافيزيقية يظل قضية ميتافيزيقية. فتكون هذه القضية من حيث هي كذلك، ومعها الميتافيزيقا، استغراقا في نسيان حقيقة الوجود. إن الفلسفة سواء حددت بالفعل علاقة الماهية بالوجود، كما في جدالات العصر الوسيط، أو بالمعنى الذي يعطيه لها ليبنتز أو بأية طريقة أخرى، فإن علينا، أولا وقبل أي شيء، أن نتساءل انطلاقا من أي قدر للوجود حدث أمام الفكر هذا التمييز في الوجود بين وجود ماهوي ووجود فعلي. وأن نفكر في لماذا لم يطرح أبدا السؤال حول قدر الوجود ولماذا لم يكن بالإمكان التفكير فيه. بل، ألا يتضمن مصير هذا التمييز بين الماهية والوجود، علامة على نسيان الوجود؟ يحق لنا أن نفترض أن هذا القدر لا يعود إلى مجرد قصور للفكر الإنساني، ولا إلى ضعف في قدرة الفكر الغربي عند بداياته. إن التمييز بين الماهية (الماهوية) والوجود (الواقع)، هذا التمييز المتكتم في حصوله الأصيل، يهيمن على قدر التاريخ الغربي كل التاريخ كما حددته أوروبا(6).
إن المبدأ الأول لدى سارتر، ذلك المبدأ القائل بأسبقية الوجود على الماهية، يبرر بالفعل إعطاء هذه الفلسفة اسم "الوجودية". إلا أن المبدأ الأول لل"وجودية" ليست له ولو نقطة التقاء مع العبارة الواردة في "الوجود والزمان". أضف إلى ذلك، أن قضية حول علاقة الماهية بالوجود لا يمكن التعبير عنها مطلقا في "الوجود والزمان" مادام الأمر، في هذا الكتاب، لا يتعلق سوى بإعداد أرضية ذات أولوية أصيلة. وحسب ما تمت الإشارة إليه، لم يتم تحقيق ذلك سوى بكيفية يطبعها عدم الاكتمال إلى حد كبير. ما يتبقى أيضا قوله اليوم، ولأول مرة، لربما يكون بإمكانه خلق الاندفاعة التي ستقود ماهية الإنسان، من خلال الفكر، إلى الالتفات إلى بعد حقيقة الوجود الذي يهيمن عليها كليا. إن حدثا كهذا، إضافة إلى ذلك، لا يمكن أن يحصل في كل مرة إلا من أجل كرامة الوجود ولصالح كينونة ال-هنا التي يتحملها الإنسان في الوجود-المنفتح وليس لحساب الإنسان لكي تشع الحضارة والثقافة من خلال نشاطه.
إذا ما أردنا مع ذلك، نحن أناس اليوم، بلوغ بعد حقيقة الوجود هذه، لكي نتمكن من التفكير فيها، فيتعين علينا أولا أن نبين بكل وضوح كيف يداهم الوجود الإنسان وكيف يدعوه ويناديه. إن تجربة أساسية كهاته تعطانا حين نشرع في فهم أن الإنسان يكون بقدر ما يتواجد تواجدا منفتحا. وإن شئنا التعبير أولا داخل اللغة التقليدية، قلنا: جوهر الإنسان وجوده-المنفتح. لهذا تتكرر مرات عديدة في "الوجود والزمان"، العبارة التالية: ""جوهر "الإنسان وجوده" (ص117-222-314)، غير أن كلمة "جوهر"، مفكرا فيها على مستوى تاريخ الوجود، هي أولا تلك الترجمة المحرفة لكلمة "أوسيا"، التي تشير إلى حضور ما هو حاضر كما تدل أيضا، في معظم الأحيان، من خلال ازدواجية ملغزة، على داك الذي يحضر بالذات. ونحن إذا ما فكرنا في الحد الميتافيزيقي "جوهر" في إطار هذا المعنى الذي يعلن عن نفسه في "الوجود والزمان" طبقا لـ"التقويض الفينومينولوجي" المنجز داخل هذا الكتاب، فإن القضية ""جوهر "الإنسان وجوده" لا تعني شيئا آخر سوى ما يلي: إن الكيفية، التي من خلالها يكون الإنسان، تبعا لماهيته الخاصة، حاضرا بالنسبة للوجود هي الإقامة المنفتحة في حقيقة الوجود. والتأويلات الإنسانوية للإنسان كحيوان عاقل، كـ"شخص"، ككائن مفكر-وهب-نفسا-و-جسدا، لا تعتبر خاطئة بالنسبة لهذا التحديد الماهوي للإنسان ولا تقصي من قبله. بل إن قصده الوحيد هو الكشف، بالأحرى، على أن أعلى التحديات الإنسانوية لماهية الإنسان لم تخبر بعد الكرامة الخاصة بالإنسان. بهذا المعنى يكون الفكر الذي يعلن عن نفسه في "الوجود والزمان" فكرا ضد النزعة الإنسانية. غير أن هذه المعارضة لا تعني أن فكرا كهذا ينحو منحى يتعارض مع ما هو إنساني، يقف إلى جانب اللاإنساني، يدافع عن التوحش ويحط من كرامة الإنسان. بل إننا إذا كنا نفكر ضد النزعة الإنسانية، فذلك لأنها لا تضع إنسانية الإنسان في مقام أرفع. والرفعة الماهوية للإنسان لا تقوم بكل تأكيد في أن يكون جوهر الموجود كـ"ذات" لهذا الأخير، لتذوب موجودية الوجود في تلك الموضوعية الرائجة، لوصفها مستودعا لقوة الوجود.
إن الإنسان هو، بالأحرى، ذاك الذي "ألقي به" من قِبل الوجود ذاته، في قلب حقيقة الوجود، لكي يرعى، كتواجد منفتح، حقيقة الوجود ولكي يتجلى الموجود كما هو في نور الوجود. أما فيما يتعلق بمعرفة ما إذا كان الموجود يتجلى وكيف يتجلى، ما إذا كان الإله والآلهة، التاريخ والطبيعة يلجون فسحة الوجود وكيف يلجون، ما إذا كانوا حاضرين أو غائبين وبأية طريقة، فإن الإنسان لا يقرر في ذلك. إن قدوم الموجود يقوم في قدر الوجود. أما بالنسبة للإنسان فتظل مطروحة مسألة معرفة ما إذا كان يجد ذلك الائتلاف الخاص بماهيته والمنسجم مع هذا القدر، ذلك أنه، تبعا لهذا القدر، يكون عليه، ومن حيث أنه يتواجد منفتحا، أن يرعى حقيقة الوجود. الإنسان هو راعي الوجود. وهذا بالضبط ما يضعه "الوجود والزمان" كمشروع للتفكير، حين يخبر الوجود-المنفتح كـ"همّ" (الفقرة 44 ص226).
إن الوجود - ما هو الوجود؟ الوجود هو ما هو. هذا ما يتوجب على الفكر المستقبلي أن يتعلم معايشته وقوله: ال"وجود" "Etre"l’ - ليس الإله وليس أساسا للعالم، الوجود هو الأبعد من أي موجود ورغم ذلك الأقرب إلى الإنسان من كل موجود، سواء أكان صخرة أو حيوانا أو عملا فنيا أو آلة، سواء أكان ملاكا أو الإله. الوجود هو الأقرب إلى الإنسان. بيد أن هذا القرب ما فتئ يفلت منه ويتوارى عنه وذلك لأن الإنسان يتعلق دوما، وبدءا، بالموجود فقط. والفكر حين يتمثل الموجود كموجود، يستند من دون شك إلى الوجود. غير أنه في الحقيقة، لا يفكر دوما سوى في الموجود بما هو، وليس أبدا في الوجود بما هو. لذلك يظل "سؤال الوجود" هو السؤال الذي يتعلق بالموجود إنه ليس بعد، وإطلاقا، ما تدعي تلك التسمية الخادعة الإشارة إليه: السؤال الذي يتعلق بالوجود. إن الفلسفة وإن تكن "نقدية" كما عند ديكارت وكانط، تظل تنهج باستمرار خط التمثل الميتافيزيقي. فهي تفكر انطلاقا من الموجود، وفي اتجاه الموجود، مرورا بوساطة نظرة حول الوجود. ذلك أنه في نور الوجود تتحدد قبلا كل مغادرة للموجود وكل عودة إليه.
إن الميتافيزيقا لا تعرف الفسحة سوى باعتبارها الوجه (أو المشهد) الذي يطالعنا لما هو حاضر في "التجلي" أي كـ"إيديا" (ما من خلاله يعرض الشيء نفسه، يحضر في ثباته ويستقبل من خلال "نوين") أو، من وجهة نظر نقدية، باعتبارها ما تبلغه الذاتية عند نهاية مرماها في إطار التمثل المقولاتي. يعني هذا أن حقيقة الوجود، من حيث هي الفسحة نفسها، تظل متوارية عن الميتافيزيقا. بيد أن هذا التواري والتخفي لا يعود إلى قصور في الميتافيزيقا، بل إنه على العكس من ذلك مصدر ثرائها الخاص الذي وهو يمثُل يفلت منها. والحال أن هذه الفسحة ذاتها هي الوجود. إنها ما يمنح أولا، على امتداد قدر الوجود داخل الميتافيزيقا، فضاء للرؤية في قلبه يصيب ما هو حاضر الإنسان الذي يكون بدوره حاضرا بالنسبة له، بحيث أنه في فعل الإدراك ("نوين") فقط يتمكن الإنسان ذاته من الاقتراب من الوجود (أرسطو، الميتا، ج، 10). وحده هذا الفضاء للرؤية يشد إليه وجهة الإدراك. وهو يستسلم لها، حين يصبح الإدراك تمثلا-منتجا للشيء المدرك والمفكر فيه، كيقين تمثل ذات مفكرة لموضوعاتها.
ترجمة: مينة جلال
عن مجلة مدارات المغربية العدد الساد