مارس البعثيون في سوريا تعريبا واسع النطاق طال أسماء قرى وبلدات، سكان بعضها كرد وتركمان، لكن سكان كثير منها عرب. عرّبوا أيضا التعليم على نطاق أوسع من ذي قبل، وأطلقوا أكثر من حملة لتعريب أسماء محلات تجارية في المدن السورية، كانت تحمل أسماء أجنبية. لكن أكثر ما عربه البعثيون هو العرب أنفسهم. فقد جعلوا من عقيدتهم القومية العربية التعبير الحصري والصحيح والوحيد للرابطة العربية، بحيث لا يكون الواحد عربيا حقا إن لم يكن مواليا لتلك العقيدة ولحزب البعث. كانت عملية تعريب العرب على هذا النحو سلم صعود لنخبة جديدة، عسكرية، ريفية المنابت غالبا، أحالت النخبة السياسية السابقة عليها، العربية أيضا، إلى حطام سياسي.
استجاب التعريب لمنطق التوحيد والتنميط الذي تمارسه دولة مركزية، تعمل على صهر سكانها وتجانسهم وفرض قالب موحد عليهم، وتتوسل الايديولوجية القومية أداة للتعبئة والتحشيد. كان البعثيون دوما أدنى كفاءة وأفسد وجدانا من أن يعملوا بصورة نسقية على التنميط والتوحيد والمجانسة والصهر، بصرف النظرعن القول في هذه السياسة أصلا. حملات تعريب أسماء المحلات كانت تنطفئ بعد شهور، وأسماء القرى البلدات لم يكد يستقر منها اسم بين الناس. قرية الجحشة المجاورة لقريتنا في ريف تل أبيض ظل اسمها الجحشة عند الجميع، وليس الروضة؛ والكلبة ظل اسمها في تداول السكان الكلبة، وليس الثورة؛ لكن كوركاهية، وهي قرية عربية أخرى باسم تركي أقدم، صارت تسمى كفيفة، واسمها الأخير لا يقل شيوعا عن اسمها القديم، وقد يكون الفضل فيه لوجود مخفر شرطة قديم، اسمه مخفر كفيفة طبعا، كان المخفر الوحيد في منطقتنا. وكان محتما أن تبقى عفرين الكردية غرب حلب عفرين، وليس عروبة، ليس لأن سكانها كرد فقط، وإنما كذلك بسبب التعمّل والكيدية المفرطة في الاسم. وظل اسم قريتي منجيك وبغديك الكرديتين كذلك على ألسنة العرب والكرد معا، وليس الاسمين البعثيين الجميلية وقمحة. وأطلق النظام الأسدي على بلدة الطبقة العربية غرب الرقة اسم الثورة، ودرج الاسم فعلا بفعل ارتباط البلدة الجديدة بسد الفرات، لكن فقط بين السكان الجدد، الذين قدموا للعمل في السد، بينما توارت البلدة القديمة إلى الوراء. وسميت ديريك السريانية في أقصى الشمال الشرقي المالكية، وأكثر سكانها اليوم كرد. والأمثلة كثيرة. مثل هذا الطراز من التعريب الفوقي، المرتبط بمنطق الدولة القومية التنميطي التوحيدي التجانسي، شوهد على نطاق واسع في تركيا، وفي إيران الشاه، وفي العراق البعثي، وأكثر من الجميع في فلسطين بعد إقامة إسرائيل على حساب سكانها. ومؤداه في النهاية هو تتريك سكان تركيا، الأتراك وغير الأتراك، وتفريس الإيرانيين، وتعريب العراقيين، وتهويد وأسرلة عالم الفلسطينيين (لكن هنا مع استئصال السكان ومحو أثرهم). وهذا نهج ممكن ومرجح على أية أرضية قومية، ويقترن بتطلعات توسعية وإلحاقية، بما في ذلك التوسع على حساب الماضي وإعادة تشكيله بصورة تجعل منه ملحمة صعود الذات القومية في مواجهة الأعداء والعقبات والمحن).
وفي كل الأحوال، الايديولوجية القومية التحديثية تقوم مفهوميا على التمييز ضد الأقوام الأصغر، وهذا بصرف النظر عن اتساق أو عدم اتساق التطبيق، وعن صفته الكيدية الإخضاعية المحتملة، أو بالعكس الالتفاف عليه والتغاضي عن تطبيقه. يمكن لعدم اتساق التطبيق، وللالتفاف، أن يكونا، بالأحرى، حلولا لما يولده هذا النهج من مشكلات، سواء كان منبعهما (اضطراب التطبيق والالتفاف عليه) حدود قدرة نخبة الحكم أم مقاومة المجتمعات المحلية.أما الجماعات الأكبر، العرب في سوريا والعراق، والترك في تركيا، والفرس في إيران، فإما تتماهى إيجابيا بصورتها القومية الجديدة، أو في أقل حال لا تقاومها. من يتعلقون بصورة العيش المشترك القديم ما قبل القومي لجماعات متنوعة يجدون أنفسهم مهمشين، لا تأثير لهم.
في سوريا، جرى بعد ستينيات القرن العشرين تعريب أسماء بلدات وقرى كردية، ومنع الناس من التكلم بلغتهم في المدارس، أو من تسمية أطفالهم بأسماء كردية، وهذا في سياق سياسة تصادر على الصفة العربية للسوريين جميعا. كان الالتفاف على هذه الموانع متعذرا في أحيان كثيرة، لكنه مهين في كل حال.
وأسوأ صفحات التعريب تمثلت في»الحزام العربي»، وهو مشروع إحلال قومي يقلل من شأنه جمال باروت في كتابه المهم عن الجزيرة السورية، جاعلا من ركاكة التنفيذ البعثية المعتادة فضيلة ( أنجز في مطلع سبعينيات القرن العشرين وشمل إسكان فلاحين عرب، غمرت قراهم بحيرة سد الفرات، في قرى كردية على الحدود الشمالية الشرقية في محافظة الحسكة). المشروع محدود النطاق فعلا، لكن محدوديته لا تغير من طابعه العدواني الأصلي.
في مواجهة هذا التعريب المركزي الفوقي، كان هناك تعريب آخر، أقدم، مرتبط بانتشار العرب ولغتهم وثقافتهم، منه مثلا أسماء المدن الكبرى في سوريا، دمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية. لاحظ إلياس مرقص أن العرب لم يبنوا مدنا في سوريا الحالية، وعموم بلاد الشام، التي كانت منطقة مسكونة من قبل، ومعظم سكانها اليوم عرب ومسلمون بعد أن كانت الأكثرية مسيحية، والسكان مختلطون. لكن التعريب لم يكن فرضا فوقيا، بقوة السلطة، لأسماء تحكمية، بل تحويرا للأسماء القديمة نفسها وتعبيرا عن تقدم السكان في امتلاك المكان. قد يجري اختراع لاحق لأصول عربية قديمة لأسماء المدن، مثل دمشق، لكن الأصح أن اسم المدينة تَطوّر وتَحوّر عن أصل غير عربي أقدم. سكان دمشق وعموم السوريين يسمونها أيضا الشام، ويبدو هذا اسما عائليا للمدينة، فيما دمشق اسمها الرسمي كعاصمة إميسا صارت حمص، ولادوديسيا اللاذقية، وحماة هي تحوير لأماتيا الآرامية.
وبموازاة تصوري التعريب هذين هناك صورتان للتكريد. صورة تعبر عن امتلاك المكان وطبعه بطابع السكان، ومنها مثلا تسمية عين العرب بكوباني. ليست هناك سلطة كردية قررت ذلك، لكن أكثر أو كل سكان البلدة اليوم وفي العقد الأخيرة من الكرد، وهم روجوا لاسم كوباني الذي هو تحوير لكلمة كومباني، الاسم الذي أطلق على شركة ألمانية كانت تعمل هناك في أربعينيات القرن العشرين. من المحتمل أن كومباني/كوبانيكانت تطلق على قسم من البلدة، ثم عمّتها مثلما يتواتر أن يدل جزء على الكل.
لم يكن اسم عين العرب تعريبا بعثيا فوقيا لاسم البلدة. يبدو أن هذا الاسم الأقدم كان، بالأحرى، ترجمة حرفية لاسم تركي أقدم، يحتمل أنه أطلق على نبع كان يروده عرب رُحّل في القرن التاسع عشر.
ويبدو إطلاق اسم سريكانيه على راس العين منتشرا منذ نحو عقد بين كرد الجزيرة، وهو ترجمة حرفية لاسم البلدة العربي القديم. ويجري العمل على اختراع أصول قديمة لهذه المستحدثات، وفقا لمنهج «اختراع التقاليد» الذي تكلم عليه إريك هوبسباوم.
لكن إطلاق اسم كري سبي على تل أبيض، وللمثال نظائر، هو من صنف التعريب الفوقي البعثي، من حيث أنه محاولة لفرض اسم بقوة السلطة على بلدة أكثر سكانها ومحيطها من العرب، ومن حيث ارتباطه بحركة قومية مسلحة، عملت على حسم صراعها مع مخالفيها الكرد قبل العرب وغيرهم.
لا شيء في التكريد القومي الفوقي مختلف أو يمكن أن يكون مختلفا عن التعريب أو التتريك أو غيرهما. من جهة لا ينفصل تكريد أسماء مناطق عربية عن مسعى القوة الكردية الصاعدة، حزب الاتحاد الديمقراطي، لتكريد الكرد أنفسهم في سياق بناء سلطة مركزية على قطاعات من الجغرافيا السورية. وهو مشروع لا يواجَه، من جهة أخرى، بمقاومات ظاهرة من طرف الجمهور الكردي العام: إما يجري التماهي به بحماسة، أو لا يعترض عليه بصوت مسموع. وكتوسع داخلي في البيئة الكردية نفسها، ليس تكريد الكرد منزها من نزعات توسعية خارجية، وسمت الحركات القومية كلها: التوسع في الأرض، والتوسع في الماضي عبر النظر إلى التاريخ كملحمة قومية.
ياسين الحاج صالح