فارا ينجو من مصير كائنات
الكاتب: سعد القرش |
|
غيفارا ينجو من مصير كائنات
'مزرعة الحيوانات'
سعد القرش
الثورة لا ينجزها إلا عشاق الحياة لا كارهو البشر. عاش غيفارا 39 عاما تضمن له الخلود، بعد أن نجا من غواية السلطة في كوبا وأخلص لما يؤمن به.
العرب
في أكتوبر 2010 شاهدت فيلم “تشي: رجل جديد” للمخرج الأرجنتيني تريستان باور. الفيلم درس في إخلاص المخرج للفكرة، وثقته بالقدرة على تحدي أيقونة شهيد يحمل بهاء متجددا يسهل أن يهزم العمل الفني، وقد نجا الفيلم (120 دقيقة ثمرة 12 عاما من العمل).
تقصى المخرج بالصور والمستندات حياة غيفارا، تتبع جهاده مواطنا وطبيبا وثائرا، ثم ظافرا يخاطب العالم باللغة التي يخاطب بها أولاده الأربعة. لم يكن غيفارا إلا عاشقا كبيرا وهو يحلم بميلاد “الإنسان الجديد”. اتهم بأنه “مثالي”، وكان متسقا مع نفسه في مناهضة توحش الرأسمالية حين أوصى “كونوا واقعيين، واطلبوا المستحيل”.
ضايقني خروج الفيلم من مهرجان أبوظبي السينمائي دون جائزة، فلم أكتب عنه، وتعللت بأن حرمانه من جائزة سيوجه الكتابة إلى الدفاع عنه، غيفارا أو الفيلم. ما أصارح به نفسي الآن بعد خمس سنوات، أن تجنبي الكتابة هروب من حضرة ثائر يكتسب كل يوم أفرادا جددا في العائلة الإنسانية، وآخرهم ابني “آدم”. شرعت في الكتابة عن الفيلم فطاردني قول كاتب لا أتذكر اسمه، يجعل الاقتراب من أعمال شكسبير مغامرة، ويطالب من يريد إضافة سطر عن شكسبير أن يقرأ مئة كتاب وربما أكثر. لا أحفظ نص المقولة ولا تساعد الذاكرة على استدعائها.
واستباقا لذكرى ميلاد غيفارا (14 يونيو 1928)، وتجنبا للمراوغة المستمرة سأحاول الكتابة، بتشجيع غير مقصود من ابني “آدم” الذي عاد من تمرين الجمباز وهو يضع حول معصمه سوارا تزينه صورة غيفارا الشهيرة بالبيريه الأسود. صورة “البطل الثائر” بنظرته المتحدية التقطها المصور الكوبي ألبرتو كوردا، في جنازة بهافانا عام 1960، وفتحت باب الشهرة لكوردا، وصارت أيقونة عابرة للأجيال واللغات. لم يكن كوردا يعترض على استخدام الصورة كرمز للاحتجاج ولكنه رفض ابتذالها في أعمال تجارية تسيء إليه، وإلى دلالة وجه غيفارا. في عام 2000، قبل وفاته بعام، وافق كوردا على تسوية مع وكالة إعلان بريطانية لاستخدام صورته لغيفارا في حملة دعائية لمشروب الفودكا، مقابل 50 ألف دولار تبرع بها لشراء أدوية للأطفال المرضى “لو كان تشي على قيد الحياة لفعل ذلك”.
يبقى من كل إنسان صورة تخلده، تطغى على غيرها، لسر يظل سرا. غاندي، أم كلثوم، أحمد شوقي، عبدالوهاب المسيري حين دفعه جنود الشرطة، يوم 14 مارس 2007، وصورة غيفارا بالبيريه التي التقطها ألبرتو كوردا في ثوان، وأبواب السماء مفتوحة في ليلة قدر.
هذه الصورة تلخص الملامح النفسية للثائر المسلح، حتى أنني كلما شاهدت الفيلم الأميركي “كتاب إيلاي”، إخراج الأخوين هيوز 2010، لا أمنع نفسي من تخيل غيفارا والسيد المسيح، لو امتلك سلاحا، خلف وجه الممثل دينزل واشنطن.
في فيلم “تشي: رجل جديد” لقطتان لا تقلان بريقا: غيفارا حليق الذقن والشعر متخفيا يودع أولاده، وغيفارا شهيدا. ولكن باب السماء لم يكن مفتوحا حين تمكن عملاء الولايات المتحدة من قتله يوم 9 أكتوبر 1967 في غابات بوليفيا. هناك فرق بين لقطة فاز بها مصور محب، وأخرى يريد بها عملاء المخابرات الأميركية إغلاق ملف ثائر مثير للإزعاج، يتمرد على الأطر الثورية، فيربك الحسابات الأميركية. في اللقطة يحيط مسلحون بالجسد الممدد على طاولة خشبية، وضعت فوق حوض للمياه، وفي أحد أضلاعه نبتت حنفية جف ماؤها من هول الجريمة.
القتلة الذين نسيهم التاريخ، بمن فيهم رئيس أميركا آنذاك، لم يصدقوا أنهم نالوا من المسيح الشهيد، ففحص أحدهم رأس غيفارا المبتسم في سخرية. غيفارا استثناء يؤكد القاعدة، فلو حمل نبي مرسل سلاحا ما تعاطف مع دعوته أحد. حتى بعد فتح مكة كان العفو عن القتلة التائبين “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. ولم يكن غيفارا في وضع القوة ليعفو، كان أقوى فأوصى أولاده “احرصوا على الإحساس عميقا بأي ظلم يرتكب بحق كل إنسان، أينما وجد في العالم. فتلك هي أجمل ميزات الثائر”، ويقول لرفاقه “كفاحنا سيتيح لنا التمتع بالسلام البناء”.
لم تنجح محاولات التهرب من الكتابة، سأحتمي برواية “في عشق غيفارا” للروائية الكوبية آنا ميناندس، وقد ترجمها الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم. في الرواية وجه غيفارا العاشق، فالثورة لا ينجزها إلا عشاق الحياة لا كارهو البشر. عاش غيفارا 39 عاما تضمن له الخلود، بعد أن نجا من غواية السلطة في كوبا وأخلص لما يؤمن به. في الرواية تقول كربالو أستاذة التاريخ الكوبي بجامعة ميامي إن غيفارا “أشهر كوبي في العالم بعد فيدل… أشهر كوبي لدينا مولع بذاته، أما ثاني أشهرهم فهو أجنبي. أليس من الغريب أن تفتدينا المنافي”؟
في نهاية الرواية يطل المصور جاكنتو كازار، محارب سابق مع غيفارا وكاسترو، قاتل بالمدن مع الطلبة الثوريين، ثم انتقل إلى الجبال للقتال مع فرقة من المتمردين. يروي أنه كان مع كاسترو على الطريق من مدينة إلى أخرى بعد أول أيام النصر، واصطفت الحشود “كنت أركب خلف فيدل على دبابة ونلوح للحشود… من أول الطريق إلى آخره يصرخ الناس على فيدل. فيدل يا منقذنا. فيدل هذا وطنك. شكرا يا فيدل. فيدل، يا مخلصنا. ووقت وصلنا بيامو لاحظت على فيدل تغيرا. وأظنه مذ ذاك اليوم بدأ يصدق نفسه هكذا. قبل، كنت أظنه مخلصا للشعب والديمقراطية. وبعد، رأيته يتلذذ بالترحيب الملائم للملك الإله، وغيّر ذلك منه في العمق”.
“تشي” استعصى على صندوق سحري دخله كاسترو ثائرا شابا، وخرج منه عجوزا تنقصه المهابة. آثر غيفارا أن يظل “الثائر” خارج دولاب الحكم الذي ينزع ريش الصقر فيصير أليفا يراعي التوازنات والمكاسب والخسائر، ولا يحتمل المكاره، ويدبر المكائد كما جرت وقائع “مزرعة الحيوانات”.