كان تولستوي ثعلباً يعرف أشياء كثيرة وكتب رائعته “الحرب والسلام” عندما كان ثعلباً، ولكنه تحول إلى قنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً عندما كتب “آنا كارنينا”، هذا الوصف لتولستوي الذي وصفه به ايزيا برلين لكي يعبر من خلاله عن بغضه للحتمية وولعه باللاحتمية يسلط الضوء قليلاً على ليبراليته.
فالحتمية التي وجهت حكم تولتستوي بأنه لا مفر من النهاية البشعة لآنا كارنينا لارتكابها الفاحشة ليست إلا اختزالاً للتنوع، وقسراً للتاريخ على السير في خط مستقيم يأبى أن يسير فيه.
حتمية تولستوي هذه في حكمه على مصير آنا كارنينا هي ألد أعداء برلين الذي تتمحور ليبراليته على مركزية الحرية، وعلى أنها مقدمة على الديمقراطية، وعلى المساواة، وعلى العدل التي لا يستلزم امتلاك أي منها أو امتلاك جلها أو كلها التخلص من الاضطهاد.
وهي الحتمية التي تصادر على ثقة برلين بالقدرة على الفعل في العالم من قبل الفرد، وعلى التأثير على مجريات أحداثه، والتي تفسر رفضه للرواقية ولدعوتها إلى الانكفاء إلى المعقل الداخلي.
ولم يكن هذا البغض للحتمية إلا بعد حوار طويل مع الموتى بطريقة تخيلية مبدعة تجعل برلين يحضر قارئه إلى مكان حضور الكاتب؛ لاعتقاده أن فكر الموتى يجب أن يستحضر بالطريقة التي تفاعل بها هذا الفكر في عقولهم، وفي سياقاتهم التاريخية المكانية والزمانية. ومن هنا يمكن فهم ولعه بفيكو الذي يعد أحد واضعي الأسس الفلسفية للتعددية، والذي نظر إلى الإنسان من خلال رؤية تاريخية. ومن فيكو - كمرجعية له - تبنى موقفه في أن المجتمعات الإنسانية بحكم تاريخيتها لا يمكن التوفيق بين خلافاتها، فجزء كبير من حياتها معاش في المخيلة ومرتكز على افتراضات غير منطوق بها لا يمكن أن يدركها من هم خارج هذه المجتمعات، ولا يمكن لهم سبر غور إيقاعاتها ونمط العقلانية الخاص بها. كما أخذ عنه برلين فكرة أن المجتمع البشري تاريخي، وأن فهم العقل البشري يتم عن طريق إعادة خلق تخيلية، وأن فهم المفاهيم السياسية والأخلاقية التي يصنع بها الوجود هو فعالية تاريخية، فبالرغم من وجود طبيعة مشتركة يعترف فوكو بوجودها ويتابعه في ذلك برلين، فإن الخصوصيات البشرية نتاج التاريخ الإنساني وهي مختلفة حكماً.
ومن خلال ارتباطه بفيكو، وبفهمه لتاريخية العقل والمفاهيم،وبأن الفانتازيا التي اتفقا على أنها تقوم على أن الفلسفة السياسية ليست إلا انعكاساً للتغيرات، أو بتعبير آخر ليست إلا محاولات من الثقافات البشرية المتنوعة لإدراك التجارب السياسية والأخلاقية التي يمر بها صانعو الثقافة ومزجها بالطريقة التي يختارونها.
من خلال هذا الارتباط استحضر برلين الموتى وعقد معهم تحالفات وهو بصدد صنع ليبراليته التعددية، وخاض معهم حوارات لاستيلاد فضائل ورذائل المجتمعات عن طريق مقارنتها ببعضها باستخدام الثنائيات التي تعود الفكر على استخدامها ( تعددية - أحادية، حرية – تسلطية، لاحتمية – حتمية ..).
ولع برلين بالفانتازيا وبتاريخية الأفكار والمجتمعات جعلت بعض النقاد يعتبرونه مؤرخ أفكار تخلى عن الفلسفة لصالح تاريخ الأفكار. وهو نقد مضلل لأن الحقيقة أنه لم يفعل ذلك، وأن ما تخلى عنه وهاجمه هو ادعاء التحليلات الفلسفية بأن تفسيرها للمفاهيم ذو شرعية أبدية.
وفي سياق هذا الشغف باستدعاء الموتى نلحظ علاقة وطيدة مع ميكيافيلي الذي اعتبر برلين أعماله أصيلة رغم أن ميكيافيلي نفسه لم يدّع ذلك، ورغم أنه أقر أن ما فعله كان تذكيراً بحكام وقوانين الدول المسيحية فحسب.
ولكن أصالة ميكيافيلي تكمن - حسب برلين - في الدهشة التي تصيب من يتعرف عليه ويدخل معه في حوار كالحوار الذي أجراه معه برلين، فكتابه “الأمير” كان كتاباً صادماً في زمانه حرّم على الروم الكاثوليك قراءته، وفرض على القساوسة الذين يريدون تفنيده أن يأخذوا إذناً لقراءته .
والأهم في أصالة ميكيافيلي التي ينسبها له برلين هي العداوة التي ناصبها ميكيافيلي لأمل الفلسفة الأوربية الكبير، والمتمثّل في العثور خلف تدفق الفوضى الظاهرة في العالم على عالم من النظام والانسجام، عالم تحلّ فيه الصراعات، وتتزاوج الأضداد وتتلاقح. وهو ما اعتبره ميكيافيلي وهماً؛ لأن العوالم الأخلاقية مختلفة بصورة تحول دون إمكانية اجتراح صيغ توفيقية بينها، وهو ما يسمه بسمة التعددية الشبيهة إلى حد ما بتعددية فيكو - مرجعية برلين المهمة -.
وحتى الأحكام الأخلاقية التي قضى بها ميكيافلي على بعض أبطال رواياته أثارت إعجاب برلين واستشهد بما فعله شيرازي بورجيا ( وهو قائد إيطالي عرف بقسوته وبدهائه، واتخذه ميكيافلي نموذجاً في كتاب الأمير)عندما عين رامرو دي أوركو حاكماً عاماً على رومانا لإخضاع شعبها فاستبد بهم ونجح بقسوته في المهمة الموكلة إليه. ولكن شيرازي بورجيا أمر بشطره نصفين في الميدان الرئيسي للمدينة وبجانبه قطعة من الخشب وخنجر ملطخ بالدم؛ لكي يسترضي الشعب الذي كره قسوته ولكي يوحي أن هذه القسوة ليست من صنعه، وإنما من طبيعة مرؤوسيه. ومن هذا المثال الوارد في كتاب الأمير يستخرج برلين الرؤية القائلة إن القسوة لا توصف بأنها جيدة من حيث الماهية، ولا توصف بأنها شريرة من حيث الماهية كذلك، وإنما يختلف التقويم لها بحسب الظرف التاريخي، ولا ضير في اتباع وسائل شريرة لتحقيق غايات خيرة في الميدان السياسي.
واستدعاء برلين لميت آخر هو جون ستيوارت مل كان لاستثمار تعدديته التي عبر عنها في أطروحة مركزية له تقوم على أن غايات الحياة متنوعة، وقد تكون متناقضة. واستدعاؤه لمونتسكيو؛ لأنه اعتقد أن نظرية فصل السلطات خاصته تعتمد على التعددية الاجتماعية التي تقوم على حتمية التنوع الثقافي، وعلى ضرورة اكتشاف الأساس العقلي للظاهرة بدون أحكام مسبقة وتحيز، وهو ما جعله يحاول تقديم تفسيرات عقلانية للعبودية ولتعدد الزوجات ليس في إطار تبريرهما، وإنما في إطار فهم الأسباب التي يقدمها أصحاب مثل هذه الممارسات. وتشديد مونتسكيو على وجوب مناقشة المبادئ الأخلاقية في ضوء النتائج الاجتماعية التي تتمخض عنها، وليس ضمن أطرها الفلسفية هو أيضاً دافع آخر حفّز برلين على استدعائه ومحاورته.
وانخرط برلين كذلك في حوار طويل مع هردر الذي يبدو أنه كان مقلقاً تصنيفه في ما إذا كان نسبوياً أم تعددياً، ولكنّ ما لفت نظر برلين لديه، وجعله يهتم به هو اعتباره الطبيعة البشرية عريكة فخارية لدنة تشكلها الثقافات المتنوعة، وتصبها في قوالب مختلفة، وأن نقطة البداية لأية فلسفة أخلاقية وسياسية تكمن في المجتمع الثقافي ذاته، لا في فكرة الفرد المجرد ذاته، ولا في مفهوم الطبيعة البشرية.
حجر أساسي آخر ربما يكون أكثر أهمية من كل ما سبق ذكره هو فكر هرزن ( المفكر الروسي الذي عرف بأبي الاشتراكية الروسية ) ففي سياق التشبث بالسياق التاريخي، وبكراهية المطلقات اتفق في حواره مع هرزن على كراهية الأخير للأهداف البعيدة التي يمكن أن تصنع لتسوغ التضحية بسعادة حاضرة. واتفق معه في شكه بالمطلقات، والتي لا تستثني الحرية والعدالة والديمقراطية. وخلص الاثنان في حوارهما على أهمية لحظات السعادة الحاضرة وعلى أنواعها الصغيرة الملموسة.
استدعاء الأموات الذين تصبغهم صبغة التعددية بتجلياتها المختلفة، والذين يرفضون الكليات والأحكام العابرة للتاريخ والجغرافيا شكّل ليبرالية برلين التي تتسم أولاً بعداء مستحكم لليويتوبيا وبشجب للاتحاد الخاطئ بين عقلانية التنوير ومشروعه الإصلاحي، وبين قوى معادية للتنوير -والرومانتيكية في مقدمتها - التي أفرزت – بحسب برلين- حركات توليتارية أعاقت التقدم الإنساني، والليبرالية التعددية أكثر من قرن .
السمة الأخرى التي يمكن استخراجها من حواراته مع هردر وفيكو التي عرضنا لها آنفاً والتي يمكن القول إنها كانت جزءاً من استراتيجية التشكيك باعتقادات محورية في فكر التنوير والحفاظ على بعضها الآخر هي عدم ربط الليبرالية بالحقوق إلا بشكل ذرائعي كطريقة لتعزيز الحرية كقيمة مركزية من قيم الخير.
ومن حواره مع هرزن تستخرج السمة الأخرى في ليبرالية برلين هي الشغف بالحرية الفردية والذي لا يفند المثل الليبرالية، والذي يجعل الليبرالي ممزقاً بين دافعين:
الأول تشجيع الشباب على تدمير النظام القائم لأنه مفعم بالظلم والقسوة، وهي صفات تناقض تمجيد الفردية التي يعتقد بها هرزن، والتي تقضي بضرورة إنقاذ الأفراد من أي شكل من أشكال الاضطهاد بما فيها اضطهاد الواجب والاختلاط الاجتماعي والتضامن.
والثاني: التعاطي مع النظام الموجود تعاطياً سلمياً تدريجياً بقصد التخفيف من ظلمه؛ لأنه يحتوي على الكثير من القيم الحضارية.
ومن سمات ليبراليته أيضاً أنها ليست ليبرالية التنوير؛ لرفضه لمقولات التنوير المتضمنة وجود أخلاق خالدة يمكن اشتقاقها بالعقل، واعتقاده بأن الإنسان ليس مقولة مجردة، وإنما كينونات بشرية لا نهاية لتنوعها، ورفضه لمقولة التنوير المتضمنة وجود حل شامل ولا نهائي لكل أمراض الإنسانية.
السمة الأخيرة لليبرالية برلين هي تحالفها مع التعددية، وهو تحالف مشروط بالاستناد إلى أسس نفسية وثقافية، وليس إلى أسس فلسفية ولا يقوم من جهة أخرى إلا إذا كان الأفراد قادرين على التكيف مع النماذج السائدة ببساطة لكي يحافظوا على السلام، وإلا فإن هذا التحالف بينهما يستحيل خصوصاً إذا كانت طموحات الفرد غير ممكنة التحقيق وغير متماسكة.
وبغض النظر عن التحفظات على سمات ليبرالية برلين فإن طريقته التخيلية المثمرة في الحوار مع الأموات تلهم بضرورة أن لا يقتصر الحوار المتبادل على الأحياء، وبأن الارتحال إلى زمان المحاور ومكانه من أجل مقاربة فكره بطريقة أكثر تبصراً هو ركن أساسي من أركان الفهم العميق الذي يمثل الغاية لكل باحث جاد