إنسان ما قبل الكوجيتو
محمد بنعزيز
الخميس 04 دجنبر 2014 - 00:29
إذا ألقينا نظرة شاملة وفي لقطة واحدة على المنطقة بين المحيط والخليج ماذا نرى؟ إذا اعتبرنا أن التاريخ محطات فما اسم المحطة التي تعطلت حافلتنا فيها الآن؟ كيف نصف المرحلة التي نعيشها؟
الظاهرة الأبرز هي داعش ومشتقاتها. وتوهمنا الغيوم فوق الشام والعراق أن الظاهرة تجري هناك فقط. لكن الحقيقة أن الغيوم توجد في كل المنطقة. في المغرب وهو الأقصى عن بؤرة الصراع تتم يوميا تعبئة الشبان للجهاد. الدولة المغربية تعتقل وتُنزل الجيش للشارع لأول مرة حذرا من مخاطر جدية محتملة.
كيف ولدت داعش في المنطقة التي جاء منها "البعث" أقوى حزب علماني عربي؟ كيف ولدت في الشام والعراق الذي يغرق مثقفوه في معجم ديمقراطي حداثي لا صلة له بالأرض العشائرية التي يقفون عليها؟
ما هي داعش؟
يسود جوابان:
إنها فوضى خلاقة ستخلقُ التغيير وتنقل المنطقة نحو المحطة التاريخية الموالية.
إنها تحقيق حلم الخلافة الذي نادت به الحركة الإسلامية منذ نشأتها. الخلافة التي ستطبق شرع الله وتوحد الأمة وتعيد للإسلام مجده الذي أهدرته الدويلات العلمانية المارقة والممالئة للغرب الكافر...
من لا يريد العزة للإسلام؟ كيف يتم إقناع آلاف المغاربة بالذهاب للقتال في سوريا؟
باسم عزة الإسلام.
من كثرة الحالمين بهذا تحصلُ داعش على الرجال والأموال والنساء المجاهدات... كل المحاربين يقاتلون من اجل الدين ولا واحد يحارب من اجل الارض والغنائم والنساء وشدة الوحشية دليل على الإيمان بالجهاد.
كل الذين حاورتهم يوافقون على ذلك الحلم ولا يرون نتائجه. لذا أستنتج أن مآت ملايين المسلمين لديهم هذا الحلم. في المقهى حيث أكتب وأتلصص أسمع حديثا مستمرا عن داعش. أستلهم توجيهات أب السيوسيولوجيا أغوست كونت لملاحظة الظواهر وتفسيرها. قال كونت بأن المجتمع الغربي مرّ من المرحلة اللاهوتية والميتافيزيقية ثم المرحلة الوضعية التي يهيمن فيها استخدام الأساليب العلمية لدراسة الظواهر بما فيها المجتمع. أعتبر نفسي بلغت المرحلة العلمية وأقارب الظاهرة الدينية من خارجها.
استخدم التلصص كوسيلة لضبط الأسئلة. كل الذين حاورتهم لديهم ذلك الحلم وبعضهم يضيفون "لكن" ليبينوا أنهم يجادلون في التفاصيل فقط... بمعنى أن الحل الديني هو الوحيد الذي سينقذنا. ومن هنا أستنتج أن مجتمعنا يعيش المرحلة اللاهوتية.
ما هو الدليل على صحة هذه الفرضية؟ ما هي تجليات هيمنة الدين على الحياة اليومية؟
في هذا الخريف تأخر المطر. ما أحوجنا للمطر. لكن متى؟ ما السبب؟ تمنعُ المعاصي الجنسية المطر. إذن فالله يعاقبنا بالجفاف بسبب العصاة. (لا داعي للتذكير بأنه في ألمانيا يتزوج المثليون ولا يتوقف المطر).
لنبق هنا: يأتي بائع المظلات فيظن زبناء المقهى أنه سيطرد المطر.
في المدرسة وهي معقل الحداثة المفترض يطلب الأستاذ من التلميذ إحضار الدفتر، يجيب "سأكتب الدروس إن شاء الله" ويفهم الأستاذ أن التلميذ لن يكتب لأنه لا يملك الإرادة والاستقلالية. سلبت منه العادات الاجتماعية إرادته. وهذه العادات هي: التواكل، تأجيل عمل اليوم إلى ما بعد الغد. انتظار مشيئة الله لتدفعه وتحفزه لكتابة الدرس... هذه سلسلة وعي ذاتي مترابطة وقد صارت إنشاء الله تعني "لن يفعل الشخص ما قال".
ومع مخالفة الوعد فإن الغارق في المرحلة اللاهوتية يخشى اللعنة التي قد تمسخه خنزيرا. يسلم الفرد بقوة خارجية أكبر منه تقوده. وليس صدفة أن طلب رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد العرب بتخفيف نفوذ الفقه. فنفوذ الفقيه مطلق. السبب؟
المجتمع مؤسس على الدين، يحدد التواضعات الاجتماعية، وللدين أهمية كبيرة في الاستقرار النفسي للناس. يمنح حياتهم معنى. تُملي الآيات والسنة سلوك الأفراد. بل يعتبر الدين نواة السلوك الاجتماعي. على صعيد الأسرة يحدد الدين كل السلوكات. مفهوم الأسرة ديني، فالرجل يحـــــــــــوز السلطة البدنية بفضل الطبيعية والسلطة الأخلاقية بفضل الله. فالأب، الباتريارك، هو القائد، هو العرّاب godfather. حتى أن الأسرة هي الرجل. لذا فطفلان وامرأة ليسوا أسرة. الرجولة هي حافرة المجرى الذي تتبعه الأسرة. الرجل قوام على المرأة وهو يملك المال ويريد البنين. وحين يُحقق هذا تتوفر فيه الرجولة وهي هدفه الأسمى. المرأة يملك جسدها وإرادتها. وحين لا تسلمه إرادتها يقمعها لتطيع. ويرسخ التوجه السياسي للدولة هذه الذهنية وهذا السلوك... لذلك يحتفظ الحكام بصلة قوية بالله، يبنون المساجد بكثافة كوسيلة للدعاية لأنظمتهم المتدينة المؤمنة...
النتيجة هي الاعتماد المطلق على الغيب، القبول بسلوكات بدون تفكير فردي فيها، اتباع التعاليم حرفيا. حين تكون لدى الفرد مشكلة في جسمه يلجأ للعلم، للطب، للاختراعات العلمية وفي نفس الوقت يطلب ربه ليقوم له بعمله. وإن لم يقم به فهو ليس مذنبا. والسبب أن ذلك العمل لم يكتب في جبينه يوم ولادته. "المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين".
في الوعي الجمعي المهيمن لا يصوغ الشخص سلوكه. من هذه الزاوية ليس فردا. إنه عضو في جماعة. يخشى الوحدة، يخشى التفكير الفردي. ينظر للنقاش المفتوح كتهديد. لذا يقمع الاختلاف. ينظر للاختلاف ليس كغنى بل كمصدر نزاع وتهديد لسلامة الجماعة. يتصرف برد الفعل، يتصرف بعداء تجاه المخالف. يعاني الفرد الذي يعيش في مجتمع ديني من ثقل الذاكرة الجمعية المبنية على نسق ديني. ذاكرة تلقن منذ الصغر، في المنزل والمسجد... منذ السنوات الأولى للطفل يتشرب عصارة هذه الذاكرة كحقيقة مطلقة. الذاكرة الجمعية دينية، فهي خزان السلوكات الصحيحة التي على الفرد إتباعها بشكل دائم. ذاكرة مبنية على الإحساس وليس على العقل.
بسبب هذه الذاكرة وهذا الإحساس يصر الشخص على الرجوع للاصول لحل مشاكل العصر. جميل. لكن هذا النكوص التاريخي نحو الاصول النقية يجري بادوات لا تلائم السياق التاريخي. فمشاهد الذبح تثير الرعب. إنه الارتماء الأعمى في الماضي من طرف مجاهدين يسيطر عليهم الحنين للدين النقي اللاتاريخي، لذلك يقاتلون لتحقيق حلم الطهرانيين.
الغريب تتزايد هيمنة اللاهوت بالتزامن مع استفحال الأزمات. تهدمت الأنساق التقليدية مثل الاسرة والقبيلة وبقي الدين قويا. عناصر الاستمرارية فيه كثيفة. لا سبيل لمحو الطاولة. يوجد حل. يعتبر الناس ان الإسلام الحقيقي هو الحل الوحيد لكل مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية التي خربت الأخلاق وأفسدت النساء. النساء خاصة. الجواب على الأزمة هو طموح مثالي ديني. هو السقوط في احضان اللاهوت بشكل اعمى. اللاهوت ملاذ وملجأ.المرحلة اللاهوتية تتمدد لتبتلع ما بعدها...
لذا نعيش في مرحلة ما قبل "العلم"، مجتمع ما قبل الكوجيتو. هذا المجتمع الذي نشأ بعد حرب المائة عام الدينية في أوروبا بين 1337-1453م. تفرض الحروب الدينية على الإديان أن تتحطم أو تصلح نفسها بإدخال النزعة الإنسانية فيها. لذا عرفت أوروبا حركة الإصلاح الديني 1517م ثم ولد الكوجيتو في 1641م "أنا أفكر إذن أنا موجود". أي لن أسمح لغيري أنا أن يفكر لي. دون أعوذ بالله من قول أنا.
يبدو أن هذا هو هدف إطلاق الفوضى الخلاقة المتعمّدة في 2005.
وما هي أرباح الفوضى الخلاقة؟
لقد سرعت الفوضى الخلاقة التاريخ في المنطقة لتساعدنا على تجاوز حروبنا الدينية. على فرض تشابه المراحل التاريخية بين الغرب والشرق الذي ولد فيه الدين دون نقد الدين. هذا تصور خطي للزمن التاريخي.
تعترضون على الخطية؟ الاعتراض سهل فماذا تقترحون؟ طيب تقترحون أن يكون الزمن التاريخي دائريا أم حلزونيا أم خطيا؟
في جميع الحالات هو محطات تسرّعها الحروب. نحو غد أفضل لأن الناس يكونون في الحروب مرغمين على التعلم لتجنب تكرار الأخطاء.