العمل الحقلي في البحث الأنثروبولوجيم. بوطقوقة العمل الحقلي في البحث الأنثروبولوجي. (رؤية إبستمولوجية لتجربة ميدانية)
درنوني سليمتقديم:
إن أحسن ما ينير الباحث المبتدئ في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويجنبه السقوط في الأحكام التعسفية أو في السذاجة العلمية هو التسلح، ليس فقط بالمنهجية العامة، وإنما بتقنيات البحث الميداني وأدوات التحكم في استعمالها. وتكمن المشكلة الأساسية في مجتمعاتنا في جهلنا لتقنيات البحث الميداني التي تعتبر أساس المنهجية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
بمجرد أن يصل الباحث إلى موقع الدراسة يشعر بالفارق الكبير بين عمله في الكتب والأوراق وبين تعامله المباشر مع الأشخاص والأشياء، بين تصوراته وتوقعاته لما يمكن أن يكون وبين ملاحظاته الواقعية لما هو كائن بالفعل، بين خطة الدراسة كما رسمها وحدد خطواتها وبين مقدرته على تنفيذ ما خطط له في ضوء المتغيرات القائمة. فالعمل الحقلي مرحلة جديدة في حياة الباحث يساعد الإستعداد الجيد لها على نجاحها، ولكن فيما تكمن عوامل النجاح؟ هل في قراءات الباحث واطلاعاته الواسعة وإحاطته إحاطة نظرية بموضوع بحثه أم أن عوامل النجاح تكمن في قيام الباحث بدوره بالصورة المناسبة أثناء العمل الحقلي وتميزه بالروح العلمية التي يستلزمها العمل العلمي كما يقول غاستون باشلار؟
إن العمل العلمي في الحقل من الناحية الأنثروبولوجية يفرض على الباحث لحظة وصوله إليه أن يشارك في حياة المجتمع، وتتدرج هذه المشاركة بمرور الزمن، وتتغير مواقف الأهالي تجاهه، فتسير من الحذر والإرتياب إلى القبول والتعاون، حتى يصبح وجود الباحث أمرا طبيعيا بينهم فيتصرفون أمامه ويتحدثون معه بتلقائية وكأنه واحد منهم، ويشعر هو أيضا بأنه قد ازداد فهما لهم ومعرفة بتفصيلات حياتهم، كما يشعر بأنه أقدر على إدراك ما وراء الكلمات والعبارات ومظاهر السلوك من معان خفية.
هذا التفاعل الناجح بين الباحث وأعضاء المجتمع لا يتحقق مهما كانت القدرة العلمية للباحث ما لم يلتزم بأخلاقيات العمل الحقلي التي تحميه وتعطي الموضوعية لعمله وبحثه، فمواقف العداء قد تجعل من دراسته مجرد محاولات عقيمة لا تصل إلا إلى بيانات تافهة أو كاذبة، كما تحمي أفراد المجتمع من أنانية الباحث ونظرته الضيقة في حدود مصلحته الخاصة.
الانطباعات الأولية:تؤكد مارغريت ميد على وجب البدء في العمل فور الوصول إلى حقل الدراسة، ذلك أن الانطباعات الأولية مفيدة من حيث أنها شيء لا يتكرر أبدا، لذا ينبغي تسجيل هذه الانطباعات الأولية. تقول الدكتورة فتيحة محمد إبراهيم: « ومهما يكن الأمر فإن الشعور بأن كل شيئ في مجتمع البحث جديد ومثير للتساؤل يفيد الباحث كثيرا »[1] لأنه إذا سيطرت عليه فكرة أنه يعرف جيدا ما يراه فسوف يفوته الكثير مما ينبغي أن يلاحظه ويسجله.
إن العمل الرئيسي الذي ينبغي على الباحث القيام به خلال الأيام الأولى للدراسة هو العمل على التعود مع الظروف الجديدة، وإقامة جسور الثقة بينه وبين أهالي المنطقة، ولا يجب التأخر عن حضور المناسبات التي يجتمع خلالها الأفراد كالحفلات وإقامة الشعائر وقضاء أوقات الفراغ وممارسة الأنشطة العامة، وإذا أتيحت للباحث فرصة زيارة الأسر فسوف تكون فرصة طيبة لملاحظة الكثير من عادات وتقليد المقابلة والضيافة، وتقديم أو قبول الهدايا، وأساليب المخاطبة والتحية والوداع، وكيفية تعامل أطراف الأسرة بعضهم مع بعض، إضافة إلى التكوين الداخلي للمنزل، وغير ذلك مما ينبغي أن يلاحظه الباحث بصورة تبدو طبيعية للآخرين.
وخلال هذه الفترة أيضا يسجل الباحث ملاحظاته عن روتين الحياة اليومية لدى الأهالي، فذلك يفيده في اختيار الموعد المناسب لملاحظة نشاط معين أو مقابلة أحد الإخباريين أو الالتقاء بالمجموعات، وخلال جمع البيانات يتعرف الباحث على طريقة الأهالي في حساب تواريخ الميلاد إما بالصورة العادية أو بربطها بأحداث ووقائع معينة أو بغير ذلك، كذلك نوع استجاباتهم عند السؤال عن الذكور وعن الإناث وعند ذكر أسماء النساء، وأيضا ملامح التنظيم الاجتماعي للأسرة وأنماط الإقامة.
مشكلات الدراسة المبكرة:لابد أن تواجه الباحث بعض المشكلات في الفترة المبكرة من دراسته الحقلية، بعضها يتعلق بقدرته على التكيف مع الظروف الجديدة المادية والإجتماعية، مثال ذلك أننا كنا في مجموعة من الطلبة نتلقى تدريبات ميدانية في الصحراء لدى بعض القبائل البدوية في ولاية الوادي، فلم يستطع الكثير منا التكيف والتلاؤم مع تلك الظروف التي تحيط بالبيئة الصحراوية، أو تلك التي تطبع الحياة الإجتماعية للبدو، وكان من أثار ذلك شعورنا بما تسميه الأستاذة فتيحة محمد ابراهيم بـ « الصدمة الثقافية »[2] Le choke cultural الناتجة عن انتقال الباحث فجأة من محيط ثقافي تعود عليه إلى محيط آخر يختلف عنه اختلافا كبيرا، الأمر الذي قد يؤدي إلى الشعور باليأس في المرحلة الأولى من الدراسة. ومع إقامة الباحث في منطقة البحث واستمرار ملاحظته لما يجري حوله وتعلمه لغة الأهالي فإنه سيتدرج في فهم كل ما يحيط به، وتصبح الظواهر الغامضة ذات معنى، كما يصبح قادرا على فهم المجتمع الجديد بطريقة لم تحدث له حتى في المجتمع الذي نشأ فيه.
لكن ذلك لا يمنع الباحث من الوقوع تحت وطأة مشاعر « التمركز العرقي »[3] Ethnocentrisme فبعض الباحثين خاصة المبتدئين تشغلهم عملية المقارنة بين الثقافة التي ينتمون إليها ويعتقدون أنها بأنماطها السلوكية تمثل ما هو طبيعي بالنسبة للإنسان، وبين الثقافة التي ينتقلون إليها والتي تبدو في نظرهم غير طبيعية وغير معقولة، فعندما كنا بين قبائل بدو الصحراء لوصف بعض مظاهر حياتها وصفا اثنوغرافيا وقع الكثير منا في أوصاف تقويمية تصف المجتمع الذي تجرى فيه التديربات بالتخلف والوحشية والبدائية…وطبيعي أن مثل هذه المواقف لدى الباحث الحقلي تعطل رؤيته الموضوعية والحيادية لكل ما يجري حوله، وتؤثر على أسلوبه في جمع البيانات، كما يعوق ذلك قيام علاقات وثيقة بينه وبين الإخباريين والأهالي الذين يتعامل معهم.
على عكس مشاعر التمركز العرقي التي تمتلك بعض الباحثين يتمادى البعض الآخر في التحيز للمجتمع الجديد، وهو ما تسميه الأستاذة فتيحة محمد ابراهيم بـ « الرؤية الرومانسية لمجتمع البحث »[4] ويكون ذلك نتيجة عوامل متعددة قد ترجع إلى شعور الباحث بالغبطة لإتاحة هذه الفرصة التي لم تتح لغيره، أو لنفوره السابق من أسلوب الحياة في المجتمع الذي كان يعيش في نطاقه، أو الانتقال عند إجراء الدراسة إلى مجتمع أكثر تقدما من المجتمع الذي ينتمي إليه أو التطرف في موقف الاستغراق في الثقافة الأخرى من أجل فهم رؤية الأهالي للعالم المحيط بهم.
هذه المواقف تمثل بعض مشكلات العلاقة الاجتماعية بين الباحث ومجتمع البحث، وهي تنبع أساسا من عوامل تتصل بالباحث نفسه، وهناك أيضا بعض المشكلات في هذه العلاقة تنبع من جانب الأهالي تجاه الباحث.
كما هو واقعنا هو أن العمل الصحفي والرسمي والسلطوي رسخ تقاليد بروتوكولية خاصة، إذ كلما استعملت وسائل التسجيل والتصوير إلا وظن المبحوث أن وراء ذلك سلطة، أو أمر آخر قد يضره أكثر مما ينفعه، أو أن هؤلاء يعطونهم القيمة وقت الحاجة فقط… وبذلك يبدي سلوكا خاصا يحتاط فيه من كل سؤال يوجه إليه، أو يُسْتَجْوَبُ من خلاله. وأكثر من ذلك ترسخت لدى الناس قناعة يعبر عنها المثل الشعبي: « أحفظ الميم تحفظك »[5]، فهذا يعبر عن الرفض التام للباحث وللتعاون معه لاعتقاد الأهالي بأنه جاسوس للسلطات، أو أنه يريد بهم شرا أو لوجود تجربة سابقة لهم مع أحد أو بعض الباحثين تكون قد سببت لهم متاعب، أو لوجود أنشطة غير قانونية تجري في مجتمع الدراسة، أو لصفات معينة تخص الباحث يزدريها المجتمع.
وقد يتخذ الأهالي موقف الحذر في التعامل مع الباحث، ويكون هذا الموقف موقفا عاديا في بداية العمل الحقلي، لكنه يمك أن يستمر عندما يفشل الباحث في إزالة حاجز عدم الثقة بالتدريج بينه وبين الأهالي، وبالتالي يتحول إلى عائق يعيق العمل العلمي، وينقص من فاعلية الدراسة، فإذا شاهد الناس الباحث في صحبة الضابط المسئول عن الأمن في المنطقة بدء حضوره فإن ذلك قد يثير لديهم بعض الحذر من ناحيته والذي يمكن أن يختفي إذا اندمج معهم في حياتهم العادية، لكن إذا استمرت مشاهدتهم له في صحبة هذا الضابط طوال فترة الدراسة فإن موقف الحذر والارتياب يستمر رغم التظاهر بالتعاون. يتحدث ايفنز بريتشارد عن علاقة الباحث بالأهالي فيقول: « من الواضح أنه لن يستطيع أن يوطد أواصر الصداقة معهم إلا إذا أفلح في الاندماج في المجتمع بحيث يصبح – ولو إلى حد معين – فيه»[6]
فترة العمل الميداني المتواصل:إذا كانت فترة البحث المبكرة تستهدف التعرف على مجتمع البحث بكل مكوناته البشرية والمادية، وإقامة الجسور والروابط بين الباحث والأهالي أو أعضاء مجتمع البحث والدراسة، والتمهيد لدراسة الموضوع الأساسي، فإن الفترة التالية هي فترة العمل المتواصل التي يشعر الباحث خلالها بأن كل يوم فيها محسوب عليه أو كأنه آخر يوم في عملية جمع البيانات والمعلومات. هذا ما يدفعه إلى الشعور بالقلق والاضطراب وتعجيل الكثير مما يمكن تأجيله، أو تأجيل الكثير مما يمكن تعجيله، فتتحول رزنامة الشهر رزنامة أسبوع، و رزنامة الأسبوع إلى رزنامة الشهر…وهكذا غلى درجة التعرض للإنهاك المبكر وربما التعرض للمرض، أو التعرض لأسباب أخرى مثبطة تبعده عن ميدان البحث نهائيا.
إن تحقيق النموذج المثالي في الدراسة الميدانية مجرد وهم لا يعرفه إلا الضالعون في العمل الميداني وتكونت لديهم خبرة طويلة الأمد، إذ يِؤدي ذلك إلى البدء بالحماس والجري وراء كل شيء يظن الباحث أن له علاقة بموضوع بحثه، فيبدأ بلم كمية كبيرة من الكتب والمقالات أو المعطيات الرقمية أملا في أن يجد فيها عند انعطاف فقرة أو منحنى، الضوء الذي سيتيح له بشكل صحيح وبطريقة مرضية هدف العمل الذي يتمنى القيام به وموضوعه، فمثل هذا العمل يفضي لا محالة إلى الإحباط لأن وفرة المعلومات المتنافرة تؤدي في النهاية إلى تشوش الأفكار.
سيتوجب إذن كما يقول ريمون كيفي: « العودة إلى الوراء لنتعلم من جديد مبادرة التفكير لا مباشرة الإلتهام، وأن نقرأ في العمق قليلا من النصوص المختارة بعناية، وان نفسر بفطنة بعض المعطيات الإحصائية المعبرة بوجه خاص »[7] فالهروب إلى الأمام ليس عديم النفع فقط بل هو مضر وكثير هم الباحثون أو الطلاب الذين يتخلون عن مشروعات عملهم عند انتهاء المرحلة الدراسية، أو عن إكمال أطروحتهم لأنهم بدأوا فيها على هذا النحو.
ثم إن تحقيق النموذج المثالي يدفع الباحث أو الطالب إلى تكثيف عمليه خلال المراحل الأولى من البحث، فيعمل في اليوم الواحد أكثر من المقياس المعمول به على الرغم من أن كل الشواهد والقرائن تدل على استحالة ذلك، لقد تعرض أحد الباحثين لهذا الموقف في بدأ دراسته وكتب عنه يقول: « خلال الأسبوع الأول من البحث قضيت ما يقرب من التسع أو العشر ساعات يوميا في الحقل بالإضافة إلى ما يقرب من هذا الوقت في تسجيل البيانات التي حصلت عليها، وهذه الخطوة الجنونية كانت دون شك بتأثير مشاعر القلق التي سيطرت علي في بدء الدراسة، ولكن خطواتي بدأت بعد ذلك في التباطؤ تدريجيا، ومع هذا ظللت طوال ثمانية أشهر أشعر بالرغبة في تحقيق النموذج الذي قالوا لي عنه وهو العمل لمدة ستة عشر ساعة يوميا، وظل هذا الوهم مسيطرا علي على الرغم من كل الشواهد التي كانت تشير إلى تعذر ذلك، وأخيرا تحققت من أن هذا النموذج يمثل أحد الأوهام المصاحبة لممارسة العمل الحقلي »[8] فسرعان ما يأخذا هذا الحماس في الاختفاء شيئا فشيئا، والخطوات تتباطأ تدريجيا حتى يغدو البحث عبئا على الباحث أو عاملا من عوامل إثارة القلق لديه متى تذكره أو شعر بضرورة إتمامه في غياب المحفزات التي بدأ بها.
وضع الملاحظة بالمشاركة على المحك الإبستمولوجي:تعتبر الملاحظة بالمشاركة أفضل وسيلة منهجية مفضلة في العلوم الإنسانية والإجتماعية خاصة علمي الأنثروبولوجيا و الإجتماع، يقول بواس: « إنه لفهم ثقافة المجتمع لا بد من العيش في المجتمع، ومعرفة لغة الأهالي »[9]، ومن تعريفها المنطقي تظهر على أنها تجربة مزدوجة: تجربة الآخرين وتجربة الذات. إنها خلق اصطناعي لوضع اجتماعي مؤقت لأول وهلة، حتى ولو وجب أن يكون طويل الأمد، حيث نتردد فيه على أناس ليس بيننا وبينهم أي علاقة مسبقة، وحتى ولو لم يطلبوا منا أن نأتي إليهم ونهتم بهم، ناهيك عن الإقامة بينهم بشكل ثابت. يجب على الإثنولوجي الميداني أن يخلق لنفسه دورا محليا أو خارجيا يجعل من سيئة التطفل حسنة واتصالا مرفوضا يهدف إلى الإندماج في علاقة عادية مع الجماعة.
التساؤل الشرعي الأول يرتكز على طبيعة الملاحظة بالمشاركة، وعلى حقيقة إقامة الإثنولوجي التجريبية واليومية والتقنية. إن الأنثروبولوجي «غريب وصديق» في الوقت نفسه، ربما يتعلق الأمر« بغريب محترف»، يقول جان كوبان: « من البداية لا يستطيع الإثنولوجي الميداني، رغم كل كفاءاته، أن يمحو عيبه الأساسي: هو أنه أجنبي وسيبقى أجنبيا »[10]
إذن من الطبيعي جدا أن يبدأ الباحث الحقلي بموقف الغريب عن المجتمع موضع البحث وأن يعامله الأهالي بهذه الصفة، ويتوقف عليه بعد ذلك التغلب على العوامل التي تمثل حاجزا بينه وبينهم. ولكن ماهي أنجع السبل التي تحقق له ذلك؟ نعم، إننا نجد كتب منهجية البحث الأنثروبولجي تطلعنا نظريا على مختلف الطرق التي تحقق للباحث خاصة المبتدئ الإندماج مع مجتمع الدراسة، كما يجد في تجارب كبار الأنثروبولوجيين سندا مهما يستطيع أن يحاكيه لأجل التكيف والمواءمة مع حقل الدراسة. ولكن، رغم اقتداء الباحث بخبرات كبار الأنثروبولوجيين التي يحتفظ بها الأدب الأنثروبولوجي، ورغم إلمامه بلغة ذلك المجتمع، واكتسابه لأسلوبه في الحياة اليومية…إلا أن أعضاء المجتمع وأفراده لا زالوا يعتبرونه غريبا ولا يعتبرونه شريكا في حياتهم، ولا صديقا لهم ! ؟
يصور مالينوفسكي موقف الإغتراب الذي يشعر به الباحث في بدء دراسته تصويرا جيدا في دراسته عن التروبرياند فيقول: « تخيل نفسك وقد وجدت أنك محاط فجأة بأمتعتك على الساحل بالقرب من إحدى قرى المناطق الحارة بينما يبتعد القارب الذي أقلك بعيدا عن أنظارك، وتخيل أكثر من ذلك أنك باحث مبتدئ ليس لديك خبرة سابقة، ومجرد من أي دليل يرشدك أو شخص يعينك، هذا بالضبط ما واجهته في محاولتي الأولى في العمل الحقلي على الساحل الجنوبي لغينيا الجديدة، ولا زلت أذكر جيدا الزيارات الطويلة التي كنت أقوم بها للقرى خلال الأسابيع الأولى، ومشاعر الإحباط واليأس من العديد من المحاولات العنيدة، والتي فشلت مع ذلك في أن تقربني من الأهالي أو تدفعهم لإمدادي بأي شيء »[11]
فالمشكلة الرئيسية التي تواجه الباحث الحقلي في بدء دراسته هي كيفية الدخول إلى مجتمع البحث، خاصة وأن الباحث سيكشف عن دوره كباحث بالنسبة لأفراد المجتمع، ربما يساعده هذا، لكن هل يثق الأهل فيما يصرح به خاصة وأن المجتمع مر بظروف وعوامل جعلته ينغلق على ذاته أكثر فأكثر؟ إننا نجد في المجتمع الجزائري مثالا لذلك، لقد جعلت منه الأحداث التي مر بها مجتمعا يتجه نحو الانغلاق والتشدد وعدم التسامح في أمور كثيرة خاصة تلك التي تتعلق بأمنه، فيرى في كل استجواب أو تحقيق تحديدا لحياته، فمهما كانت براعة الباحث في ابتكار الوسائل فإن المجتمع قد اتخذ قرارا مطلقا بأن لا يعطي ثقته لأحد، لقد اقتنع بالفكرة الديكارتية التي تقول: « من خدعك مرة يخدعك مرات ومرات ».
إن جل الكتب التي تناولت منهجية البحث الأنثروبولوجي تتحدث على أن الثقة المتبادلة بين الباحث ومجتمع الدراسة، تتوقف على عدة جوانب بعضها يتصل بقدرات الباحث نفسه، وبعضها يتصل بطبيعة مجتمع الدراسة، وبعضها يتصل بطبيعة الموضوع؛ فإذا كان لزاما على الباحث المتدرب أو المبتدئ صقل قدراته وبذل الجهد من أجل التكوين واكتساب الخبرة، فإن طبيعة مجتمع الدراسة كالمجتمع الجزائري قد لا تؤثر على سير عملية البحث فقط، بل قد يتعدى تأثير المجتمع حتى إلى اختيار الموضوع ذاته، إذ نجد الكثير من الموضوعات التي وضعت أمامها خطوط حمراء، لا يمكن حتى التفكير فيها، فكيف بتطبيق الملاحظة بالمشاركة أثناء دراستها؟ أم عن موضوع الدراسة أو البحث، فإن قدرة الباحث تتمثل في مدى استيعابه لأبعاده وأسلوب معالجته من خلال الوسائل المناسبة، وهنا يطرح السؤال التالي: ماهي الوسائل والأساليب المنهجية الملائمة لإجراء الدراسة وتحليل البيانات التي تم تجميعها من الميدان؟
ونظرا لأن الباحث الحقلي لا يمكن أن يكون موجودا في كل مكان وفي كل وقت، فإننا نتساءل: كيف ستكون ملاحظته والحالة هذه؟ بطبيعة الحال الجواب لايتعدى أن تكون الملاحظة إنتقائية إلى حد كبير، وهنا يتولد سؤال آخر: ماذا ينتقي وماذا يترك؟ إن بعض المواقف والأحداث تفرض نفسها عليه، وإذا فاتته ملاحظتها في وقتها فسوف تضيع منه فرصة يصعب أو يستحيل تعويضها، ربما يركز الباحث على الجوانب التي تهم موضوعه أو لها صلة مباشرة بمجال الدراسة التي يجريها، ولكن ألا يشعر الباحث وهو بصدد الإختيار والإنتقاء بالقلق والتوتر حول ما إذا كان يقوم بالملاحظة المناسبة في الوقت المناسب؟ ألا يشعر بالندم عندما يكتشف بعد فوات الأوان بأن ما لم يقع عليه اختياره من العناصر هو على قدر كبير من الأهمية؟ فما هو الحل أما هذه الدوامة من التساؤلات التي تضع عملية الملاحظة بالمشاركة على محك النقد الإبستمولوجي؟
الإخباريون:
بطبيعة الحال أن نجاح الدراسة الحقلية يتوقف إلى حد بعيد على حسن اختيار الإخباريين والتعاون معهم، فهم يمثلون حلقة الاتصال بين الباحث والمجتمع طوال فترة الدراسة، ويعرف جريك بايلي الإخباريين بالقول: « إن الأشخاص الذين يسمحون له بالقيام بملاحظة سلوكياتهم، يسمون الخبراء أو الإخباريين»[12]، أجل قد يقدم أحد الإخباريين عونا كبيرا للباحث، ولكن هل يكون لكل إخبار يقع الإختيار عليه نفس الإهتمام بموضوع الذي يقوم الباحث الحقلي بدراسته؟ ألم تعرف النساء عن بعض الموضوعات أكثر مما يعرفه الرجال؟ والعكس صحيح بالطبع، ألم يكن كبار السن أكثر معرفة وإحاطة بالأساطير، والخرافات، والتاريخ، والمشايخ، والكهنة وغيرهم؟ لماذا يكون رجال الدين أكثر علافان وخبرة من غيرهم في مجال المعتقدات والأديان؟ لماذا يكون غير مسموح للآخرين في بعض الأحيان معرفة الكثير من المعلومات ذات الصلة بهذه المجالات؟
إذن من بين الأساسيات في البحث الأنثروبولوجي حسب كبار الأنثروبولوجيين يتمثل في استخدام إخباريين رئيسيين من هذا النوع كمصادر للمعلومات على ثقافتهم، فالناس يتمايزون فيما بينهم بالنسبة إلى معرفتهم، وتفسيراتهم لنظمهم الإجتماعية والثقافية، كما يختلف الناس في اهتماماتهم وقدراتهم على التعبير اللغوي، وبالتالي لا يجد الأنثروبولوجي إلا عددا قليلا من الأفراد يصلحون كإخباريين ملائمين، إن البعض من قدرات الإخباري يكتشفها الباحث ذاته، أثناء تدريبه على تصوير المعلومات الثقافية في الإطار المرجعي الذي يستخدمه الأنثروبولوجي.
يتعلم الإخباري بالتدرج قواعد السلوك في مواجهة الأنثروبولوجي، يقول عبد الله عبد الغني غانم: « لو طال التعامل بينهما فربما يستخدم المفاهيم النظرية الخاصة بالأنثروبولوجي في تحليل ثقافته الخاصة»[13]، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: إلى أي مدى يبقى الإخباري متفاعلا مع الأنثروبولوجي الذي لعب دورا كبيرا في تدريبه وتعليمه للقيام بدور الشارح لثقافته؟ ما هي طبيعة الموضوعات التي يتجاوب ويتفاعل مها الإخباري أكثر من غيرها؟
لقد قاما “فرانك وروث يونغ” بتحليل فاعلية الإخباري أثناء دراسة أجرياها في المكسيك، ووجدا أن الإخباريين كانوا على مستوى من الثقة والفاعلية في إعطاء معلومات عن موضوعات محددة مثل: هل يوجد مسجد بهذه البلدة؟ هل لديكم طبيب هنا؟ متى وصلت الكهرباء إلى تلك المدينة؟
إن الإخباري يتفاعل مع الموضوعات الخاصة بالجغرافيا الطبيعية والمباني العامة، النظم والأمور النظامية، ثم تواريخ الأحداث الهامة في المجتمع، لكنه يظهر اتفاقا أقل إذا تعلق الأمر بالأسئلة التقييمية مثل: هل ثمة أي تغير في التمسك بالدين في هذا المجتمع في العشر سنوات الأخيرة؟ أو ما نسبة الناس الذين يؤدون صلاة الصبح؟ عموما إن الثقة في الإخباريين مسألة احتمالية، ومعظم التأكيدات حول فعالية الإخباري انصبت على البحوث المسحية على المستوى الكبير، وليس في حالة المواقف التي تستخدم فيها المقابلة المركزة على مدى زمني كبير في مجتمعات صغيرة نسبيا.
ومن الطبيعي أن يميل الباحث إلى هذا الإخباري أو ذاك، ولكن عليه ألا يظهر ذلك وخاصة أمام الإخباريين الرئيسيين، لأن من شأن ذلك هدم كل الثقة التي تعب الباحث في بنائها بينه وبينهم، كما أن علبه أن يعالج بحكمة وصبر المشكلات الناجمة من بعض الإخباريين، فقد يسيء أحدهم معاملة الأهالي أمام الباحث، أو يجب أن يظهر دائما أمام الآخرين أنه ذو صلة وثيقة بالباحث، أو يهتم بإنقاص قدر الإخباريين الآخرين وما يدلون به من بيانات، وقد يجد الباحث نفسه في بعض الأحيان مضطرا إلى إنهاء علاقته بإخباري معين يكون من شأن استمرار العلاقة معه الإساءة إلى عدد آخر من الإخباريين، وفي بعض الأحيان قد يتطوع الإخباري بالحديث باسم الباحث مع الأهالي وهذا خطأ على الباحث أ يلاحظ ذلك وأن يسارع إلى تنبيهه لعدم التكرار.[14]
دور الباحث في مجتمع الدراسة: يميل الأهالي في أي مجتمع محلي إلى تحديد دور معين لأي شخص غريب عليهم، فيعتبرونه مندوبا عن السلطة الرسمية أو عن الضرائب أو الشرطة أو الإستخبارات أو غير ذلك، وقد ينسجون حوله بعض القصص الخيالية عندما يبدو دوره غامضا بالنسبة إليهم، وهذا الميل يمثل عائقا أمام الباحث الحقلي إذ يمكن أن يؤدي إلى حذر الأهالي من التعامل معه، ولهذا ينبغي أن يبادر خلال الفترة الأولى من الدراسة إلى إقامة جسور الثقة بينه وبينهم. ولكن كيف تبنى جسور الثقة هذه؟ لا يتم ذلك حسب الخبرة الأنثروبولوجية التي تحدث عنها الكثير من الأنثروبولوجيين الذين قاموا ببحوث ميدانية إلا إذا كون الأهالي تصورا يقتنعون به عن سبب وجود الباحث بينهم، ووجدوا إجابة للعديد من الأسئلة التي يطرحونها حولها حياته الخاصة، والمقابلات التي يجرها مع البعض منهم، لهذا ينبغي أن يتحاشى الباحث قدر الإمكان إظهار ارتباطه بالموظفين الرسميين، وإقامته الطويلة بينهم لابد أن تقوم على أساس من الوضوح والثقة المتبادلة، والأفيد من ذلك كما تورد د. فتيحة محمد ابراهيم: « أن يواصل الباحث عمله بأعصاب هادئة وعقلية متفتحة وأفق واسع لأن الزمن هو الذي سيكشف للأهالي حقيقة الدور الذي يقوم به والأدوار الأخرى التي أشيعت عنه »[15].
وفي الحالات التي ينتمي فيها الباحث إلى ثقافة غير تلك التي يدرسها يكون هناك دائما مجال للمقارنة لدى الأهالي بينهم وبينه، ومن ثم تكثر الأسئلة الموجهة إليه عما يحدث في هذا الموقف أو ذاك في مجتمعه ويكون عليه أن يجيب عليها بصورة لا تحمل معنى التمركز العرقي لأن من الممكن أن يكون هذا التمركز هو الشعور المسيطر لدى الأهالي تجاه غيرهم، ولكن ماذا يكون دور الباحث في مثل هذه المواقف خاصة عندما يشاهد بعض الممارسات الصحية مثلا التي لا تتفق مع القواعد التي يعرفها؟ هنا تظهر مشكلة الحدود التي ينبغي أن يقف عندها خلال فترة إقامته في مجتمع البحث، هل يكونه من حقه التدخل في مجرى الحياة العادية أو يصبح وجوده عاملا من عوامل التغير الإجتماعي أو التعجيل بحدوث هذا التغير؟
من الواضح أن المهمة العلمية للباحث تفرض عليه عدم التدخل في الحياة العادية لمجتمع البحث، وعدم الخلط بين دوره كملاحظ ودارس للثقافة وبين دور المصلح الإجتماعي، غير أن وجوده في الأحوال العادية ومتابعة الآخرين له طوال فترة الدراسة من شأنه إحداث بعض مظاهر التغير، فهذا شيء يخرج عن نطاق إرادته، فمثلا تورد لنا د. فتيحة محمد ابراهيم بعض الحالات التي يقلد فيها الأهالي سلوكات الباحث فتقول: « صنع توماس وليامز خزانا من أعواد البامبو المشطورة إلى نصفين ووضعه فوق سطح منزله في منطقة البحث في إحدى الجزر الأندونيسية لاستقبال مياه الأمطار ثم صبها في أوعية بدلا من ملء هذه الأوعية من الآبار. وقد لاحظ أن عددا من الأهالي قلده في ذلك، وعند عودته إلى القرية بعد عامين لمواصلة الدراسة لاحظ انتشار هذه الخزانات بصورة أكبر، وكذلك انتشار نصيحته الطبية للأمهات بإعطاء الأطفال المصابين بالإسهال كميات أكبر من الماء المذاب في بعض الملح على فترات لمن حدوث الجفاف »[16].
انتهاء فترة الدراسة:إن الباحث الناجح هو الذي يجعل الأهالي يشعرون بالأسى والحزن حين تحين ساعة الفراق، لا شك أنه كان يعكس تجربة حقيقية لمسها بنفسه، فطول فترة إقامة الباحث تجعل وجوده بين الناس جزءا من حياتهم المعتادة وخاصة أنهم يجدونه دائما معهم في أكثر المناسبات الاجتماعية التي تمر بهم سواء كانت سعيدة أو حزينة أو لإنهاء المنازعات أو قضاء أوقات الفراغ أو ممارسة الأنشطة العادية، لهذا فإن الإعلان عن انتهاء الدراسة ينبغي أن يسبقه تمهيد كاف لصالح الفترة الباقية من البحث من ناحية، وكواجب يلتزم به الباحث تجاه الآخرين من ناحية ثانية، وعلى ذلك فإن بإمكانه أن يشير إلى عزمه على العودة لمتابعة الدراسة مرة أخرى إذا كان ينوي بالفعل ذلك، وإذا لم يكن عازما على ذلك ينبغي أن يؤدي واجبات الوداع بحسب ما يعرفه عن عادات المجتمع وتقاليده في مثل هذه المناسبة، ومن الأمور الشائعة في هذا الصدد زيارة الإخباريين وكل الذين تعاونوا معه خلال الدراسة وتقديم الهدايا لهم أو تبادلها معهم أو إقامة حفل يضم الجميع بهذه المناسبة.
إذن الصورة التي بدأت بها الدراسة الحقلية ينبغي أن تنتهي بها، فكما كان الباحث يبحث الطرق التي يقيم بها جسور الصداقة وزيارة الأهالي والموظفين والقادة الشعبيين الموجودين في المنطقة أو في المكان الذي تتبعه هذه المنطقة، ينبغ أن تختتم الدراسة أيضا بزيارة هؤلاء لتقديم الشكر لهم على تعاونهم، ومن الضروري أن تستمر المراسلات بين الباحث وبين بعض الأفراد في مجتمع البحث، فهو من ناحية سيكون حريصا على معرفة أي شيء عن تلك الحياة التي كان يتابع وقعها وأحداثها كل يوم، وهم من ناحيتهم سيشعرون بالرضا لاستمرار علاقاتهم بالشخص الذي عاش بينهم كواحد منهم طوال فترة الدراسة.