** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
	  معابرنا  Maaberuna  الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

  معابرنا Maaberuna الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
سبينوزا
فريق العمـــــل *****
سبينوزا


عدد الرسائل : 1432

الموقع : العقل ولاشئ غير العقل
تعاليق : لاشئ يفوق ما يلوكه العقل ، اذ بالعقل نرقى عن غرائزنا ونؤسس لانسانيتنا ..

من اقوالي
تاريخ التسجيل : 18/10/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 5

	  معابرنا  Maaberuna  الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية Empty
26102014
مُساهمة معابرنا Maaberuna الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية

[rtl]	  معابرنا  Maaberuna  الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية 0701-Broka[/rtl]
[rtl]فاتحة [/rtl]
[rtl]إن تاريخ الدين – أيِّ دين – هو في النهاية تأريخٌ لوقائعَ قدسيةٍ كانتْ في البدء. هو تاريخٌ يشدنا إلى "البدايات": بداية كلِّ شيء، بدايات العدم والوجود على حدٍّ سواء. هو تاريخ "كلِّي القدرة"، مفتوح على الاحتمالات كافة، لأنه "صحيح". وعليه يتأسَّس المقدس، في مكان وزمان مقدسين. تاريخ الدين/تاريخ الآلهة، حسب ميرتشا إليادِه، [/rtl]
[rtl][...] هو التاريخ "الصادق" الذي "لا غبار عليه" لأنه تاريخ يتحدث عن أصل العالم. أما الفاعلون فيه فهم كائنات إلهية، وكائنات فائقة الطبيعة، وموجودات سماوية أو فلكية. لذا ففي التواريخ "الصادقة" نرى أنفسنا أمام المقدس وفائق الطبيعة. وعلى النقيض من ذلك، نكون في التواريخ "الكاذبة" أمام محتوى دنيوي وأمام مضامين مستمَدة من مجرى الحياة العادية.[1] [/rtl]
[rtl]فالتاريخ الديني "الكلِّي القدرة"، "الصادق" و"الصحيح"، تاريخ يتخذ من الأكوان الميثولوجية جغرافيةً لتسطير امتداداته، ومن الأسطورة مادةً لـ"سوپرمَنَة"[2] وقائعه. بذا يكون الموقفُ "الإيماني" من الشيء هو، في النهاية، محاولة للعيش في لحظاته. وما تقرُّب الإنسان من آلهته إلا محاولة لـ"تحيين" actualize تلك الأزمان المقدسة والتواريخ "الصادقة" التي عاشتْها؛ في عبارة أخرى، هي محاولة لـ"عَصْرَنَة" تاريخ الآلهة كي يؤسِّس عليه تاريخَه هو: [/rtl]
[rtl]إن الإنسان، إذ يحيِّن التاريخَ المقدس ويحاكي المسلكَ الإلهي، يقيم ويبقى بالقرب من الآلهة، أي في الحقيقي وذي المعنى. [...] فالإنسان الديني، مهما كان السياق التاريخي الذي يغرق فيه، يؤمن دائمًا بأن حقيقةً مطلقةً موجودةٌ دائمًا، وأعني بها المقدس الذي يخترق هذا العالم ويتجلَّى فيه في نفس الوقت؛ وهو لهذا السبب يقدِّس العالم ويعترف به حقيقيًّا. فهو يؤمن أن للحياة أصلاً مقدسًا، وأن الوجود البشري يحرِّك جميع قواها الكامنة بمقدار ما هو وجود ديني، أي: المشاركة في "الحقيقة".[3] [/rtl]
[rtl]إن الدين ليس مجرد عقائد وطقوس وحكايات legends وأكوان "خرافية" (بمعناها السلبي)، إنما هو أشمل من ذلك بكثير. لهذا فإن ما يتحقق منه مؤرخُ الأديان، [/rtl]
[rtl][...] حين يضع نفسَه في منظور الإنسان الديني الذي ينتسب إلى المجتمعات القديمة، هو أن العالمَ موجودٌ لأن الآلهة خلقتْه، وأن وجود العالم نفسه "يعني" شيئًا ما. فالعالم ليس أخرس ولا كثيفًا، ليس شيئًا جامدًا، لا هدف له أو معنًى. عند الإنسان الديني، الكونُ "يعيش" و"ينطق".[4] [/rtl]
[rtl]فمن مهمة دارس الأديان، قبل كلِّ شيء، استنطاق ذاك الكون الذي "يعيش" و"ينطق"، دغدغة تلك الأكوان الميثولوجية وملامستها، علَّه يكشف لنا عن حدود العلاقة بين التاريخ "المؤلَّه" (تاريخ الآلهة) والتاريخ "المُؤنْسَن" (تاريخ الإنسان). [/rtl]
[rtl]في هذا البحث، سوف نتناول الإيزيدية نموذجًا، وذلك بتسليط عدسة البحث على واحدة من أكثر القضايا والأفكار إثارة للجدل والنقاش، في أوساط العامَّة والمثقفين على حدٍّ سواء: فكرة طاووسي ملك، بخلفياتها الميثولوجية والتاريخية والإتيولوجية (الخاصة بعلم دراسة الأسباب والبدايات). وسوف نحاول البحثَ في كُنْه الفكرة وتحليلها في إطار نظرية "الرمز–الأسطورة" والتثاقف الميثي بين الإيزيدية، ككون سوسيوميثولوجي، وبين الأكوان السوسيوميثولوجية الأخرى[5]. [/rtl]
[rtl]آثرتُ التنظيرَ رمزيًّا واتخذتُه منهجًا في هذه الدراسة لأن الرمزَ لا يجعل العالمَ "منفتحًا" وحسب، بل يُعين الإنسانَ الديني أيضًا على بلوغ ما هو كوني: [/rtl]
[rtl]بفضل الرموز يخرج الإنسانُ من وضعه الخاص وينفتح على العمومي والكوني. والرموز توقظ الخبرةَ وتجعل منها فعلاً روحيًّا، بالمفهوم الميتافيزيقي للعالم.[6] [/rtl]
[rtl]إن هدف هذه الدراسة، في المقام الأول، هو تأصيل الفكرة "الطاووس ملكية"، وذلك باتخاذ المرحلة ما قبل العدوية–الشيخادية جغرافيةً لتحرُّكها، لأنها المرحلة الأكثر أصالةً وتجسيدًا لروح الإيزيدية[7]. [/rtl]
[rtl]"طاووسي ملك": الوجه الآخر للألوهة الكونية الشمولية [/rtl]
[rtl]إن الدراسات والبحوث التي تناولتْ شخصية طاووسي ملك اللاهوتية في الميثولوجيا الإيزيدية، من منطلق ساميٍّ، باعتباره ملاكًا للشرِّ المتمرِّد على أمر الله ومشيئته، إنما هي دراسات تتنافى وحقيقةَ هذه الديانة ورؤيتها الفلسفية واللاهوتية لثنائية الخير والشر الكونيين. فطاووسي ملك، حسب الميثولوجيا الإيزيدية، مخلوقٌ من نور الله وسرِّه العزيز؛ هو الوجه الآخر للألوهة، بل هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى: [/rtl]
[rtl]ربِّ، ملك الملك الكريم. [/rtl]
[rtl]ملك العرش العظيم. [/rtl]
[rtl]ربِّ قديمٌ منذ الأزل. [/rtl]
[rtl]ربِّ، قدس الأقداس، [/rtl]
[rtl]لكَ المديح والثناء. [/rtl]
[rtl]ربِّ، كلُّ الجهات [/rtl]
[rtl]تؤدي إليك، [/rtl]
[rtl]يا ربَّ العالمين.[8] [/rtl]
[rtl]إن هذه السبقات تؤكد في جلاء تداخُل سيماء شخصية خوه دي (الإله) مع سيماء شخصية طاووسي ملك إلى درجة الحلول والتماهي. ففي الوقت ذاته الذي يُنظَر إلى طاووسي ملك لاهوتيًّا على أنه ذاته في مستوى، يُنظر إليه على أنه الآخر/الله (خوه دي) أيضًا في مستوى ثانٍ. وعلى الرغم من أن السبقات المار ذكرها هي مقاطع من "قه ولي طاوسي مه له ك" ("دعاء طاووس ملك")، إذ يبدو فيه هذا الإله على أنه ذاته في مستواه الأول، فإن الملامحَ التي يستقرئها القارئ من بين ثنايا النص ودهاليزه هي ملامحُ الإله الراجح في مستواه الثاني، أي ملامح طاووسي ملك في كونه الله ذاته (خوه دي). لهذا يصعب على الإيزيدي الفصلُ بين حدود إيمانه بالله وحدود إيمانه بطاووسي ملك: فالتعالق الميثي بين شخصية الله وشخصية طاووسي ملك في وعي الإيزيدي له مرجعيته اللاهوتية والإتيولوجية الضاربة في أعماق التاريخ والأسطورة على حدٍّ سواء. [/rtl]
[rtl]إن الأديان الساميَّة، وقبلها الزرادشتية، تنظر إلى الإله باعتباره مصدرًا للخير المطلق فقط؛ أما الشر "النسبي" فيأتيه من الخارج–العدو. لذا فالإله السامي والزرادشتي إله محض إيجابي: إيجابي في خيره، وإيجابي في صراعه مع الآخر/الشر/العدو، لأن النصرَ سيكون حليفَه في النهاية، مما يستوجب عبادةً إيجابيةً من "الداخل" المؤمن، وبالتالي، التقرب منه، باعتباره إلهًا للخير فقط، ضد قوى الشر الخارجة عن إرادته. [/rtl]
[rtl]وإن فكرتَي الخير والشر الكونيتين لدى اليهود، باعتبارهم آباءً للفكر الديني السامي، لم تتبلورا، في رأيي، كقوتين متمثلتين في إلهين منفصلين ومتصارعين – إله للخير وإله للشر – إلا بعد فترة السبي البابلي (587 ق م) وتأثُّر الفكر اليهودي بالأفكار الزرادشتية المتأسِّسة على ذاك الصراع، التي سرعان ما استُسيغت في بابل وسائر الإمبراطورية الفارسية آنذاك، فأصبح الرب وإبليس عند اليهود نظيرين لـأهورامزدا وأهريمان (إنكرامانيو)، ليتحولَ الربُّ التوراتي لاحقًا من إله خاص باليهود إلى إله عام للبشر كافة. [/rtl]
[rtl]في البدء، لم يحل الله في إنسان أو يتجسد فيه، بل كان موجودًا في الشيء الذي تقدِّسه العقيدةُ، وليس في كلِّ شيء. وهذا يعني أن "الله" لم يكن قد تبلور عند بني إسرائيل كمفهوم واقعي باعتباره موجودًا في كلِّ شيء، وإنما يتحقق فعلُه في اللحظة الإبداعية: يفرح فيثيب، يغضب فيبطش؛ هو الحامي والمدافع والمناصر لبني إسرائيل. وقد اعتُبِر "الله" بمرور الزمن مصدرًا لكلِّ شيء: فهو مصدر الخير والشر، إله الظلام وإله النور، إله الحب والفرح وإله الدمار والخراب[9]. [/rtl]
[rtl]إن ظهورَ الشرِّ وتبلوره في الفكر الديني كقوة أو كإله سلبي مستقل، قائم بذاته، أمام جبروت خير الإله الإيجابي هو من مفرزات الصراع التاريخي المرير بين الآلهة القمرية–الأنثوية وبين الآلهة الشمسية–الذكرية؛ وبالتالي، فإن بدايات الحضارة الرجولية–الذكورية تبدأ حين تسلَّم الرجل–الذكَرُ، كإله شمسي، زمامَ الأمور. يقول فراس السواح: [/rtl]
[rtl]عندما انهارتِ الدياناتُ العشتارية [القمرية] وارتفع على أنقاضها آلهةُ الشمس الذكور، فاحتكروا وجهَ الألوهة الأبيض ورموا بوجهها الأسود إلى الأبالسة والشياطين، تحللتْ صورةُ عشتار السوداء الجليلة وتفتتتْ إلى صور مبعثرة مبتذلة يلوكها الخيالُ الشعبي ويعجنها على طريقة الحكايات الفولكلورية: ففي الغرب هي الساحرة العجوز الشمطاء التي تركب عصا المقشَّة طائرةً في الهواء؛ وفي بلادنا هي "النهَّالة" مصَّاصة الدماء، وهي السمَّاوية خاطفة الأطفال، وهي... "الغولة" آكلة البشر التي احتفظتْ بلقب "الأم"، حيث يشير إليها الناسُ دومًا على أنها... "أمنا الغولة"![10] [/rtl]
[rtl]أما الإله الإيزيدي الجدير بالعبادة فهو إله كلِّيُّ القدرة في خيره وشره. وبمثل ما هو خيِّرٌ، هو شرير أيضًا. هو مصدر كلِّ شيء، ولا شيء خارج إرادته: إرادته على فعل الخير هي تمامًا كإرادته على فعل الشر. لذا فإن تقرُّبَ الإيزيدي إلى إلهه، وبالتالي، توسُّله إليه، يحمل في طياته إيمانيةً بثنائية الخير والشر المتجسِّدة في ذات الله (خوه دي) الواحدة. وقد عبَّر الشيخ عُدَي بن مسافر عن هذه الثنوية بصريح العبارة في قوله: [/rtl]
[rtl]لو كان الشرُّ بغير إرادة الله لكان عاجزًا. ولا يكون العاجزُ إلهًا، لأنه لا يجوز أن يكون في داره ما لا يريده، كما لا يجوز أن يكونَ فيها ما لا يعلم به.[11] [/rtl]
[rtl]كما أننا نستطيع قراءة ملامح وسيماء هذا الإله الثنوي في الأدب الشفاهي الإيزيدي: "إلهي، ارزقنا بالخير، ونجِّنا من الشر"، أو "الخير والشر كلاهما ينبعان من باب الله". والاستحلاف بين الإيزيديين يكون بإلهٍ للَّيل–الظلام في الوقت ذاته الذي هو إله للنهار–النور. بهذا يكون الإلهُ الإيزيدي هو الإله الذي قدرته على إمكان الخير كقدرته على إمكان الشر: هو المبتدأ والمنتهى. [/rtl]
[rtl]إن فكرةَ عبادة الإله الكوني الشمولي، بوجهيه الأسود والأبيض، الأهريماني والأهورامزدي، هي فكرة قديمة جدًّا وأصيلة في الفكر الديني. فدين الإنسان البدائي كان دينًا متمركزًا حول مدار إله كامل في صورته وفي قدرته، إله مطلق في شرِّه وفي خيره. وإن الجغرافيا الإلهية في منظور الإنسان البدائي هي جغرافيا كوسموغونية–كوسمولوجية لا تعرف الحدود بين الخير والشر، بين إله أبيض وآخر أسود، ألوهة مظلمة وأخرى منيرة؛ فالخير والشر، الأبيض والأسود، النور والظلام، كلها توائم أزلية متجسدة في الذات الإلهية الواحدة. يقول السواح: [/rtl]
[rtl]إن الإله الكوني الشمولي، عندما لا يجرِّد من نفسه ظلاًّ له يحمِّله مسؤوليةَ الموت وشرور الحياة، لا بدَّ له من الإمساك بخيوط القوَّتين الكونيتين بذراعيه الاثنتين: فباليمنى يمسك قوةَ الحياة والخير، وباليسرى قوةَ الموت والشر. وهنا تغدو مسألةُ استرضاء وجه الإله الأبيض واتقاء غضب وجهه الأسود الموضوعَ الأساسي للعبادة والطقوس. من هنا نستطيع أن نفهم الخصيصتين المتناقضتين للأم الكبرى للعصر الحجري، – أول إله شمولي عَبَدَه الإنسان، – كما نستطيع أن نفهمَ استمرار هاتين الخصيصتين في وريثات الأم الكبرى.[12] [/rtl]
[rtl]ويؤكد السواح ذلك بقوله أيضًا: [/rtl]
[rtl]وقد عبَّر إنسان العصر الحجري الحديث عن وجهَي عشتار [الإلهة الأم] المظلم والمنير بأنْ مثَّلها في هيئةٍ مزدوجة. ففي معابد شتال حيوك نجد الأمَّ الكبرى في بعض المنحوتات الجدارية وقد ازدوجت في شكلين اثنين متطابقين يولد منها الإله الابن–الثور؛ وهذان الشكلان ليسا تعبيرًا عن إلهتين منفصلتين، بل هما تعبيرٌ عن الإلهة الواحدة للعصر النيوليثي ذات الوجهين: وجه تديره نحو الحياة وآخر نحو الموت.[13] [/rtl]
[rtl]إن ثنائية الخير والشر المتجسدة في ذات الإله–الآلهة الواحدة لم تكن في البدء، على المستوى الإيماني، ثنوية انحيازية لصالح الإله في وجهه الأبيض ضد الإله في وجهه الأسود، وإنَّما كان الإلهُ معبودًا في كلِّيته: بوجهه الأكمل وصورته المثلى، أي باعتباره خيرًا وشرًّا على حدٍّ سواءٍ. ولكن [/rtl]
[rtl][...] صورة الإله الأسود قد بدأتْ تزداد قتامةً وتنفصل عن صورة الإله الأبيض، حتى زالتْ عنها صفةُ الألوهة، متحولةً إلى نقيضها. ذلك أن التركيز المتزايد على الوجه المضيء للقوة الإلهية واستبعاد وجهها الأسود قد أدى بالضرورة إلى ظهور الشيطان مرافقًا للرحمن، وقام كلُّ إله أبيض بابتكار شيطانه الأسود، فحمَّله شرورَ العالم.[14] [/rtl]
[rtl]على الرغم من أن الإيزيدية قد بُحِثَتْ ودُرِسَتْ، على مستوى "الآخر"، بوصفها "دين الشيطان" و"دين الشِّرك بالله"، إلى ما هنالك من دعاوى مغرضة، إلا أن حقيقة هذه الديانة ونصوصها الميثية تجعلنا أمام لوحة مغايرة تمامًا: فالإله الإيزيدي خوه دي/طاووسي ملك هو إله كوني شمولي: شموليٌّ في خيره وشرِّه، في نوره وظلامه، في بياضه وسواده، ولا توجد على الإطلاق إرادةٌ تعلو إرادته؛ لذا فهو لم يخلق شيطانَه بذاته، بل هو بدعةٌ واختلاقٌ من "الآخر". إن جغرافية الألوهة الإيزيدية لا تعرف للشيطان (إبليس، بعلزبول، بعل) مكانًا لها؛ وهي مصطلحات مبتدَعة ومختلَقة، وبالتالي، غريبة كلَّ الغرابة عن القاموس الإيزيدي. [/rtl]
[rtl]إن الإله الإيزيدي على المستوى الإتيوميثولوجي، في رأيي، هو امتدادٌ للإله/الإلهة الكوسموغوني/الكوسموغونية، الأول/الأولى، حين لم يكن بمقدور الشر إعلان انفصاله كجزءٍ متمرِّد على الألوهة بصفتها وحدةً شموليةً كونية. فـإنَّانا السومرية كانت سيدةً للسماوات والعالم النوراني وسيدةً لعالم الموت وظلمات العالم السفلي. وقد تكررت هذه الألوهيةُ المزدوجة في شخصية عشتار البابلية التي [/rtl]
[rtl][...] تُظهِرها الأساطيرُ تارةً ابنةً لسِنْ، إله القمر، وتارةً ابنةً لآنو إله السماء. فكابنة لآنو، كانت عشتار إلهة للخصب والحب ومتع الحياة، وكابنة لسِنْ، القمر، حاكم الليل، كانت إلهةً للدمار وسيدة للحروب والمعارك.[15] [/rtl]
[rtl]فكأن هذه الألوهية ذات الطابع الأمومي–الأنثوي الصرف لم يكن في الإمكان أن تستمرَّ في سطوتها إلى ما لا نهاية، لأنَّ الآخر، الذي هو الذكَر، فكَّر أيضًا في نيل نصيبه منها، وبالتالي، المشاركة في صنع التاريخ الألوهي القداسوي. لهذا كان لا بدَّ من بروز الابن، كإله ذكوري ناشئ، إلى جانب أمِّه، كإلهة كونية شمولية. [/rtl]
[rtl]إن روح العالم في الأساس قائمة على مبدأ الشيء وضدِّه: [/rtl]
[rtl][...] ذلك المبدأ الذي أطلق عليه الفكرُ الصيني القديم اسم الـيِنْ [المبدأ السالب، وينتمي إليه كلٌّ من القمر والأنثى]، ويقابله الـيَنْغ، المبدأ الموجب الذي ينتمي إليه كلٌّ من الشمس والذكَر. من تفاعُل هاتين القوتين المتكافئتين تستمرُّ حركةُ العالم ومكوِّناته التي تتداخل فيها القوَّتان، فتتعادلان أحياناً، وتغلب إحداهما أحيانًا، دون أن تلغي الواحدةُ نظيرتَها.[16] [/rtl]
[rtl]إن الميثولوجيا البابلية والسومرية هي الميثولوجيا الأكثر تعبيرًا عن حالة اللاحرب واللاسلم هذه. فعلى الرغم من انتصاب دوموزي/تموز، كإله ذكوري ناشئ، إلهًا ابنًا حينًا وإلهًا عاشقًا أحيانًا أخرى في حضرة الألوهة الكونية الشمولية إنَّانا/عشتار، فإنَّ حالةَ التوازن بين القطبين الإلهيين – القطب الذكوري/الـيَنغ والقطب الأنوثي/الـيِن – ظلَّتْ قائمةً حتى مراحل متأخرة من الأسطورة. يقول السواح: [/rtl]
[rtl]ففي شكلها الأقدم كانت عشتارُ روحًا للنبات، تقضي جزءًا من السنة في باطن الأرض، وجزأها الآخر في نُسَغ الحياة النباتية، إلهةً مزدوجة تمثِّل العالمين وتنتقل بينهما، دون أن تفقد بانتقالها إلى واحد تأثيرَها على الآخر. وعندما أخذت بالخروج من مملكة الطبيعة والتحول تدريجيًّا إلى سيدة لها، بدأت صورتُها المزدوجة بالانقسام، وظهرت بدلاً عنها صورةُ الأم والابنة، حيث تابعت الأمُّ مسيرتَها نحو الأعلى، لتأخذ مكانَها أخيرًا بين آلهة السماء، وتركتْ ابنتَها حبيسةَ الحياة الطبيعية ودورة الإنبات السنوية. إلا أن هذا الانقسام لم يتم تكريسُه نهائيًّا، وبقيتِ الأمُّ ديمترا والابنة پرسفوني، في المستويات السرَّانية للأسطورة، اثنتين في واحدة وواحدة في اثنتين. أما في الميثولوجيا التي لم يُقيَّض لها أن تتابعَ خطَّ تطورها الأمومي، فقد تحول شقُّ عشتار الآخر إلى ابن أسلمتْه إلى دورة الطبيعة وتابعت مسيرتَها مع آلهة الذكور نحو الأعلى. إلا أنها هنا أيضًا قد بقيتْ متحدةً معه عند المستويات السرَّانية للأسطورة، وبقي تموز، شقُّها الآخر وجانبُها الذكري الكامن، معكوسًا نحو الخارج.[17] [/rtl]
[rtl]ما يهمُّنا هنا هو تقرِّي الوجهَ "العشتاري"، بملامحه الذكورية–التموزية، في كلٍّ من الأسطورتين السومرية والبابلية، ومن بعدُ مقارنته مع الوجه ذاته بملامحه الطاووس ملكية في الأسطورة الإيزيدية. [/rtl]
[rtl]إن فرضية هذا البحث قائمةٌ على أساس الاعتقاد بالتعالق الإتيوميثولوجي بين النص الرافدي، باعتباره نصًّا سابقًا، وبين النص الميثي الإيزيدي، باعتباره نصًّا لاحقًا. وسوف تحاول هذه الدراسةُ الكشفَ عن خيوط ومفاصل التعالق بين هذين النصين، السابق واللاحق، لنستشفَ في النهاية كيف أن طاووسي ملك الإيزيدي (الوجه الآخر للألوهة الكونية الشمولية، الله، خوه دي) هو نفسه دوموزي/تموز الرافدي (الوجه الآخر لإينَّانا أو عشتار، الإلهة الكونية الأم). [/rtl]
[rtl]طاووسي ملك/تموز: الإله الإيزيدي الأكبر [/rtl]
[rtl]الأسطورة، على مرِّ الزمن، هي "تحوُّل في التحول". وحسب كلود ليفي شتراوس، فإن [/rtl]
[rtl][...] هذه التحولات التي تحصل بين رواية للأسطورة الواحدة وأخرى، أو من أسطورة إلى أسطورة أخرى، أو من مجتمع إلى آخر بالنسبة إلى الأساطير نفسها أو بالنسبة لأساطير مختلفة، تؤثر على هيكلية الأسطورة، حينًا، أو على "كودها" [الشيفرة]، حينًا آخر، أو على المرسال المقصود منها، حينًا ثالثًا. لكن هذه التأثيرات لا تحُول دون بقاء الأسطورة أسطورةً. فهي تراعي بذلك ما يمكن تسميته بـ"مبدأ انحفاظ المادة الأسطورية"؛ وهو مبدأ يعمل على أن يكون من الممكن دائمًا أن تنشأ عن كلِّ أسطورة أسطورةٌ أخرى.[18] [/rtl]
[rtl]والأسطورة التي ستحاول هذه الدراسة الاشتغالَ عليها هي أسطورة الصعود والهبوط الدوموزية/الطاووس ملكية، في مستواها الثاني كنصٍّ لاحق، التي تشكل واحدةً من أبرز حلقات تمفصُل الفكر الميثي الرافدي، بنكهته السومرية، مع الفكر الميثي الإيزيدي. [/rtl]
[rtl]يقول صموئيل هووك: [/rtl]
[rtl]"دوموزي" هو الشكل السومري للاسم الأشيع: تموز؛ بينما "إنانا" هي المرادف السومري لعشتار السامية، ملكة السماوات. دوموزي هو النموذج الأصلي لآلهة النبت كافة، الذين يموتون ويُبعَثون ثانيةً مع انبعاث النبت في الربيع.[19] [/rtl]
[rtl]إن ثنائية الموت والانبعاث، التي تتكرر في شخصية دوموزي/تموز كلَّ سنة، هي تمثيل قدسي طقوسي للثنائية الفصلية ربيع/خريف. وبذا تكون الأسطورة الدوموزية ترجمةً لشعورية قوية ومبكرة بوحدة الثالوث الكوسمولوجي: الكون–الطبيعة–الإنسان؛ وهي محاولةٌ إنسيةٌ للحلول في ما هو فوق بشري، أي بمعنى القفز من ذاته كفيزيقا إلى الآخر/الإله، ككون ميتافيزيقي، ومشاركة الطبيعة أفراحها وأتراحها في هستيريا قداسوية. فالسنة الرافدية كانت عبارة عن فصلين فقط: ربيع، الفصل الأخضر، جهة الإخصاب والإنبات، وخريف، الفصل الأصفر، جهة الموت والعذابات. وما أسطورة الصعود والهبوط الدوموزية التي اتخذت من هذه الثنائية الفصلية متنًا لمادتها الأسطورية إلا محاكاة بشرية للما فوق بشري، استعدادًا لعبور مقدس من الظهورات الطبيعية إلى الظهورات الإلهية في أقدس تجلِّياتها. وعلى حدِّ قول ميرتشا إليادِه، فإن "الطبيعة"، في نظر مَن لديهم خبرة دينية، "كلها قابلة لأن تتجلَّى بوصفها قدسية كونية"[20]. إن دورة حياة القمح، مثلاً، على حدِّ ما يستنتج فراس السواح، [/rtl]
[rtl][...] ليست سوى دورة حياة الآلهة التي تقضي جزءًا من السنة في العالم السفلي وجزءًا في العالم الأعلى. وجملة الأعمال الزراعية التي يقوم بها الإنسان، من حصاد وحرث وبذارٍ وما إليها، ليست أعمالاً دنيوية، بل طقوس دينية مقدسة يمارسها على هامش الدراما الإلهي الكوني، مساعَدةً لروح الطبيعة على إتمام دورتها السنوية والعودة مجددًا في الربيع لتَهَبَه غذاءَ عام آخر. فإذا كانت روحُ الطبيعة والإنبات في الماضي تغيب في باطن الأرض ثم تعود دون تدخُّل من أحد، فإن روح القمح والحبوب تتطلب مساهمةً من الإنسان وتدخُّلاً من خلال عمله المقدس وطقوسه وصلواته.[21] [/rtl]
[rtl]فالفعل "الدنيوي"، وكل ما يقوم به الإنسان على المستوى الحياتي، ما هو إلا تكرار لأفعال الآلهة التي قامت بها في "زمن البدايات". فكما تقول الحكمة الهندية: "كما فعلتِ الآلهةُ كذلك يفعل البشرُ." تكررت هذه الحكمة على لسان السيد المسيح أيضًا حين قال: [/rtl]
[rtl]"الحق الحق أقول لكم: مَن يؤمن بي فالأعمال التي أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها، لأني ماضٍ إلى أبي."[22] [/rtl]
[rtl]وإذا كانت دورةُ الإنبات وحياة الطبيعة، في تعاقُب فصولها، قد أُلِّهتْ من خلال تعالُقها على المستوى الميثي–اللاهوتي بدورة الصعود والهبوط التموزية من وإلى العالمين السفلي والعلوي في الأسطورة العشتارية الأولى، فإنها، على المستوى ذاته، قد تعالقت مع دورة الصعود والهبوط الطاووس ملكية في الأسطورة الإيزيدية. [/rtl]
[rtl]فمَن هو طاووسي ملك، الصاعد والهابط على مدار الفصول؟ وكيف تُقرَأ ملامحُه في الميثولوجيا الإيزيدية؟ كيف تتشاكل صورةُ دوموزي/تموز في الأسطورة العشتارية الأولى مع صورة طاووسي ملك في الأسطورة الإيزيدية؟ وهل يمكن القولَ بأن أسماء دوموزي/تموز/طاووسي ملك كلها أسماء لمسمًّى واحدٍ؟ وإن كان طاووسي ملك، على مستوى الدور والوظيفة، ليس إلا انزياحًا عن النموذج الأصلي دوموزي/تموز (كما تذهب إليه هذه الدراسة)، فما هي الملامح "التموزية" في شخصية طاووسي ملك؟ [/rtl]
[rtl]في المصطلح [/rtl]
[rtl]على الرغم من علوِّ شأن طاووسي ملك، باعتباره إلهًا كلِّيَّ القدرة في الديانة الإيزيدية، إلا أنه لا يزال، كفكرة لاهوتية أصلية، يعوم في جوٍّ من الضبابية والسرَّانية الملغَّزة، سواء على مستوى الباحث الخبير أو على مستوى المؤمن المستسلم لأقداره. قلَّةٌ قليلةٌ من الباحثين والدارسين حاولوا الإبحارَ في هذا "الشمال"، ربما لصعوبة عبوره، فبات "شمالاً" إشكاليًّا بين كَرِّ الخالق وفَرِّ المخلوق! لذا فطَرْقُ باب موضوع شديد الحساسية كهذا لا بدَّ أن يفتح المجال واسعًا أمام العديد من الإشكاليات. وأولى هذه الإشكاليات إشكاليةُ المصطلح. وفي خصوص الإشكالية الاصطلاحية حول أصل فكرة طاووسي ملك/تاوز وحيثياتها من الناحية المورفولوجية والميثولوجية، هناك أربع فرضيات رئيسة مطروحة للنقاش: [/rtl]
[rtl]1. فرضية التعريب والأسلمة [/rtl]
[rtl]دعاة هذه الفرضية[23] يعيدون لفظة "طاووس" الإيزيدية إلى الطوس. و"الطوس"، لغةً، حسب زعمهم، هي كلمة عربية، إسلامية صرف؛ وتأتي في اللغة بمعنى "حُسْن الوجه ونضارته"، ومنه اشتُقَّ "طاووس". ويُعَد صديق الدملوجي من أهم المروِّجين لهذه الفرضية وأكثرهم تحمسًا لها؛ إذ يحاجج في كتابه الموسوم بـاليزيدية بقوله: [/rtl]
[rtl]إن كتب السِّيَر والتاريخ والتفسير تدلُّ على أن الملك المنبوذ، قبل أن يُطرَد من الجنَّة، كان يُسمَّى بـ "طاووس الملائكة" لِلَطافة شكله وجمال صورته.[24] [/rtl]
[rtl]في بحث آخر لنا، أخضعنا هذه الفرضية للتنظير، على مستويات عدة، فبدتْ لنا فرضيةً "فقيرة" في محاججتها، ميثولوجيًّا ومورفولوجيًّا ومنطقيًّا[25]، ثم بينَّا كيف أن الإيزيدية لا تسبق الإسلام فحسب، بل والميلاد أيضًا بقرون عديدة. [/rtl]
[rtl]2. فرضية "الشَّمْسَنَة"[26] [/rtl]
[rtl]دُعاة هذه الفرضية يرون بأن طاووسي ملك هو شمس، شمش، أو شماس، إله الشمس البابلي ذاته، الذي تتطابق مواصفاتُه مع مواصفات طاووسي ملك، باعتبارهما مرموزين إلى الكمال وإلهين للشمس والحياة السعيدة. وكان إله الشمس (شمش/شماس) في معتقدات العراق القديم يمثَّل بدائرة ذات أربعة أشعة، تتخلَّلها أشعةٌ مجعدة، دلالةً على المعبود الشمسي. أما رمز طيران الشمس وحركتها، فكان يصوَّر على شكل كرة ضوئية ذات أجنحة، مذيَّلة بذيل من الأشعة على شاكلة ذيل طائر. ولإله الشمس/شماس في ميثولوجيا العراق القديم دورٌ مماثلٌ لدور "الشيخ شمس"/شيشمس/طاووسي ملك: فكلاهما يمنح العالمَ النورَ والحيوية، إضافةً إلى تجسيدهما للخير والكمال المطلق في ذاتيهما[27]. [/rtl]
[rtl]3. فرضية "المَثْرَنَة"[28] [/rtl]
[rtl]أصحاب هذه الفرضية يخلصون إلى القول بأن الإيزيدية هي بقايا الديانة الميثرائية؛ وطاووسي ملك، حسب زعمهم، هو رب الأرباب الميثرائي، أي ميثرا نفسه. كلاهما يجسِّد الخيرَ والشرَّ معًا كقوتين إلهيتين في ذاتيهما. فطاووسي ملك هو الوجه الآخر للألوهة، بل هو الإله/خوه دي ذاته واسمٌ من أسمائه، حسبما يَرِدُ في التراث وعلم الصَّدر الإيزيديين. والإله الإيزيدي الواجب عبادته، كما أسلفنا، هو الإله الشمولي المطلق، الكلِّي القدرة في خيره وشرِّه، الذي لا حدود في صورته بين الأبيض والأسود. إن ملامح الإله الأكبر/ميثرا تتشاكل إلى حدٍّ كبير مع صورة الإله الإيزيدي هذه (اثنان في واحد): ففي الوقت ذاته الذي يُعبَد فيه ميثرا كإله للخير والبركة والحياة السعيدة، يُعبَد أيضًا على أنه إله للحرب والكوارث. وعلى حدِّ زعم دُعاة هذه الفرضية، فإن [/rtl]
[rtl][...] ميثرا يشبه لوغوس القديم (ابن الله، أو "الكلمة" الإلهي): فهو انبعاث الله وندَّه وسلطانه. [...] والأمر يشبه إلى حدٍّ كبير كون "طاووسي ملك" انبعاثًا من "الله" ومسؤولاً أمامه وندًّا له لحماية العالم وحفظه، حسب اعتقاد اليزيدية. وقد انبعث فيه بالتناوب ستةُ آلهة، جميعهم عبارة عن ذاتية واحدة.[29] [/rtl]
[rtl]4. فرضية تموز–البؤرة [/rtl]
[rtl]أما دُعاة هذه الفرضية فيرون أن لفظة طاووس/تاوز/طاوز مشتقة من "تموز" ومحرَّفة عنها. وتموز هو اسم الإله البابلي المقابل لمُرادفه السومري: دوموزي. وأصحاب هذا الرأي يرون تشابهًا كبيرًا على مستوى الدور والوظيفة بين طاووسي ملك في الإيزيدية وبين تموز/دوموزي في الديانات السومرية والبابلية: كلاهما يشكِّل مع ذات الإله/الآلهة أقنومين في واحد. ومن المرجَّح جدًّا أن تكون لفظتا زيوس Zeus وثيوس Theos المسيحية لاحقًا مشتقَّتين من تموز/تاوز (طاوز)/دوموزي التي تفيد، على المستويين المورفولوجي والميثولوجي، المعنى ذاته، أي "رب الأرباب"؛ فتكون بذلك طاووس/تاوز (طاوز)/ثيوس/زيوس كلها ألفاظٌ متقاربة ومُسنَدة إلى مرجعية واحدة هي: تموز/دوموزي، من حيث كونُه البؤرة الأسطورية الأولى. [/rtl]
[rtl]تتخذ هذه الدراسةُ من الفرضية الأخيرة أساسًا نظريًّا لتحرُّكها. وستحاول، من خلال طرحها لحُجَجها، تقرِّي ملامح وجه تموز الإيزيدي في تخوم محاكاته لـ"تموز–البؤرة"، أي تموز السومري. [/rtl]
[rtl]إن أية محاولة لدراسة الطقوس التموزية في الإيزيدية لا بدَّ أن تعبرَ زمانين يُعتبَران الأقدس والأكثر إشكالاً في تاريخ وميثولوجيا هذه الديانة: [/rtl]
[rtl]-       الزمان الأول: زمان الاحتفاء بعودة السرِّ المقدس/زمان الحضور: كلُّ شيء يبدو في حضرة هذا الزمان بهيجًا، فرحًا بقدوم ذاك السر من رحلته الشاقة المقدسة. هذا الزمان هو من الأيام يوم الأربعاء، ومن الشهور شهر نيسان، ومن الفصول فصل الربيع؛ ويُصادَف في الأربعاء الأول من كلِّ نيسان بحسب التقويم الشرقي/الغريغوري (تتأخر السنة الشرقية عن السنة الغربية–الميلادية بثلاثة عشر يومًا). [/rtl]
[rtl]-       الزمان الثاني: زمان استمطار الحزن على رحيل السرِّ المقدس/زمان الغياب: وهو زمانٌ كئيبٌ بكلِّ أشيائه، إلى كونه زمانًا عنيفًا لرحيل ذاك السر إلى الآخرة/عالم الأموات. يمتد هذا الزمان باستمطاره للعنف والكآبة من 23 إلى 30 أيلول، بحسب التقويم الشرقي. [/rtl]
[rtl]هذان الزمانان يشكِّلان، في رأيي، انزياحًا عن زمانين كانا في البدء، هما زمانا أسطورة القمح الرافدية وأسفاره بين الموت والحياة، كميت–حيٍّ حينًا، وحي–ميت حينًا آخر. [/rtl]
[rtl]المفهوم التاريخي والوجودي للزمان [/rtl]
[rtl]الزمان التاريخي هو ذلك الزمان العادي، "الضعيف"، الذي يجري الإنسانُ، بكلِّ أشيائه، معه. فهو زمان "مُؤنْسَن"، إن صحَّ التعبير؛ هو زمان لتأريخ الإنسان وأشيائه. وإلى جانب كونه زمانًا محددًا ومغلقًا، فهو أيضًا زمان لا يعيد نفسه. ويسمِّي ميرتشا إليادِه هذا الزمان بـ"الزمن الدنيوي" أو "الديمومة العادية التي تندرج فيها الأفعالُ المجردة من المعنى الديني"[30]. وبحسب عبد الرحمن بدوي، [/rtl]
[rtl]إذا كان هذا الزمان [التاريخي] زمانًا منسيًّا في "خبر كان"، فإن الزمان الوجودي هو زمانٌ "سيكون": فالزمانية الأصلية الحقيقية تصير في حالة الزمانية ابتداءً من المستقبل الحقيقي، حتى إنها لتوقظ الحاضرَ بأن تكون هي مستقبلاً قد كان. فالظاهرة الأولية للزمانية الأصلية الحقيقية إذًا هي المستقبل.[31] [/rtl]
[rtl]المفهوم الميثي للزمان [/rtl]
[rtl]على العكس من الزمان التاريخي، فإن الزمان الميثي هو زمان "قوي"، غير محدود، ومفتوح على احتمالات وإمكانات لا حصر لها. هو زمانٌ "فوق بشري"، يتأسَّس عليه تاريخُ الآلهة؛ فهو زمان مؤلَّه. كأنْ نقول مثلاً: "في ذلك الزمن البدئي، حين لم تكن السماء قد انفصلتْ عن الأرض، حطَّ طاووسي ملك، على هيئة طير الطاووس على شجرة الهرهر الأزلية." لا شك أن زمانًا كهذا لهو زمان مطلق ومفتوح: فهو زمان كان، ويكون، وسوف يكون. إنه زمان يليق بالآلهة وحدها، ولا تطاله اليدُ الإنسية. وبما أن الإنسان يحتذي حذو آلهته ويسعى إلى محاكاتها في أفعاله وتصرفاته اليومية، وبالتالي، تصبح الآلهةُ، على المستوى الإتيولوجي، الأصلَ والبداية، فإن الزمان الميثي المؤلَّه يكون بهذا أصلاً يتأسَّس عليه الزمانُ التاريخي والوجودي. وما يميز هذا الزمان هو أنه زمان قابل للتكرار والتحيين: فهو زمان يستعاد توالُديًّا من خلال عبوره ذروات مقدَّسة لا حصر لها. وهذه "الذروات المقدسة"، على مستوى اللغة العادية، تُسمَّى "أعيادًا". فالعيد، كذروة زمانية مقدسة، هو في الأصل محاولة إنسية لتحيين اللحظات الفوق بشرية، إذ يعيد الإنسانُ فيه ويكرِّر ما قامت به الآلهةُ من أفعال في "الزمن البدئي". إن حضورَ المؤمن في العيد وفي كرنفالاته الطقوسية هي محاولة منه للعيش قريبًا من أنفاس آلهته، وبالتالي، إدراج تاريخه في تاريخ الآلهة. وبما أن الآلهة حاضرةٌ في كلِّ زمان ومكان، وهي موجودة ميثيًّا، فإن محاولة الإنسان الديني استعادة "الزمان المقدس" هي محاولة استحضار لذاته (الموجودة في زمان ومكان محددين) في حضور الذوات الإلهية ومماهاة وجوده في وجودها. وكما يقول ميرتشا إليادِه، فإن الإنسان الديني، منذ البداية، [/rtl]
[rtl][...] يقيم نموذجَه الخاص الذي يريد بلوغَه على الصعيد الذي يفوق ما هو بشري، وهو الصعيد الذي كشفتْ عنه الأسطورة. إنه لا يصير إنسانًا حقيقيًّا إلا بالتوافق مع ما تُعلِّمه الأساطير ومحاكاته للآلهة.[32] [/rtl]
[rtl]بهذا يكون الحنين إلى زمان الأصل، – زمان "الأعياد"، – على المستوى الوجودي، حنينًا إلى الإله الذي ينوجد بوجوده. [/rtl]
[rtl]الذروة الأولى: زمان الأربعاء الأحمر [/rtl]
[rtl]لهذا الزمان مسمَّيات عدة: زمان/عيد الأربعاء الأحمر، زمان البدء/رأس السنة الجديدة، زمان الأربعاء النيساني، زمان الباسمبار، زمان البيض الملون/الـهيكه سور، إلخ. وتصادف طقوس التحيين لهذا الزمان يوم الأربعاء الأول من كلِّ نيسان، بحسب التقويم الشرقي (الغريغوري). هذا الزمان في الأصل عبارة عن ثالوث زماني على ثلاثة مستويات: اليوم/الأربعاء، الشهر/نيسان، والفصل/الربيع. تُرى، لماذا هذا الثالوث الزماني المقدس؟ وما الدواعي والخلفيات الميثولوجية والثيولوجية الكامنة وراء تقديسه في الإيزيدية؟ [/rtl]
[rtl]على الرغم من أن للأربعاء مكانتَه القدسية الخاصة لدى الإيزيديين (إذ هو يوم قداسوي لتحيين هنيهات ملاكهم الأكبر، طاووسي ملك، ومُعاصَرته)، إلا أننا نستطيع سماع الصدى القدسي لهذا اليوم على امتداد الكُرد، بفضاءاته وموزاييك شمالاته، باعتباره يومًا للروح القدس، الكلِّية القدرة: [/rtl]
[rtl]الأربعاءُ يومٌ إلهيٌّ [/rtl]
[rtl]مسكون بلظى الآلام [/rtl]
[rtl]والعذابات. [/rtl]
[rtl]إنه جهة الفرح [/rtl]
[rtl]والسعادة.[33] [/rtl]
[rtl]هذا النشيد الذي يتردد على ألسنة الفتية والفتيات الكُرد أيام مناسبات الخطبة والزفاف، إنْ دلَّ على شيء فهو يدلُّ على المكانة القداسوية التي بلغَها "الأربعاء" في وعي الإنسان الكردي. هذا الإدراك القداسوي بـ"جهة الأربعاء" لم يقتصر على حدود الميثولوجيا الإيزيدية وحسب، إنما شمل الكُردَ قاطبةً، في مختلف جهاته وجغرافياته الدينية، إلى درجة أن أوساطًا واسعةً من الكُرد يضفون القدسيةَ والإجلالَ على يوم الأربعاء من دون إدراكٍ أو فهمٍ للبعد الديني والإتيوميثولوجي له. أما في الإيزيدية فالمسألة مغايرة تمامًا: إذ إن الواجب الديني يفرض على كلِّ إيزيدي التحيين القداسوي لهنيهات ملاكهم الأكبر طاووسي ملك وأفعاله. فالأربعاء زمن ليتورجي، يتكون من تحيين لحَدَث جرى في ماضٍ ميثي، "في البدء"؛ وهو "زمن مقدس"، قابل للاستعادة والتكرار بلا حدود. وفي دراسة هذا الزمان الليتورجي وقراءته على المستويات الأفقية والعمودية، سيبدو لنا زمانًا مشتتًا بين كونين: كون الإنسان وكون الآلهة. [/rtl]
[rtl]أربعاء الخلق [/rtl]
[rtl]يَرِدُ ذكرُ الأربعاء في الميثولوجيا الإيزيدية على أنه "يومُ بداية النهاية": بداية الخلق ونهاية العَماء الكوني، بداية النظام ونهاية الفوضى. فهو يوم انتهاء الله من عملية الخلق وإنهائه لحالة الفوضى الكونية. فمن "دعاء الخليقة": [/rtl]
[rtl]إلهي وَضَعَ الهيكل، [/rtl]
[rtl]في السبت كساه، [/rtl]
[rtl]وما إن حلَّ الأربعاءُ [/rtl]
[rtl]حتى كانت الخليقةُ على أتمِّ حالها. [/rtl]
[rtl]يُفهَم من هذه السبقة أن الأربعاء هو اليوم الذي أتمَّ فيه الآباءُ الأوائل للبشرية/الآلهة خلقَ العالم: فهو يوم كمال الخلق. [/rtl]
[rtl]أربعاء الموتى [/rtl]
[rtl]الأربعاء هو يوم زيارة الموتى لذويهم الأحياء في الميثولوجيا الإيزيدية. لذا اختير هذا اليوم كزمان قداسوي لتهيئة "العشاء الرباني" وتوزيعه كصَدَقَةٍ على أرواح الموتى الأحياء، ظنًّا من الإيزيديين بأن موتاهم سوف يزورونهم، قاطعين بذلك مساحاتِ الموت بأربعاء من الروح. وحسب اعتقاد الإيزيديين، فإن مقابرَهم حيةٌ تُرزَق. وما الأزمان القداسوية في الإيزيدية – وعلى رأسها زمان الأربعاء – إلا برازخ لعبوراتٍ مقدسة بين مدن الموتى ومدن الأحياء. أما موت الإيزيدي في تخوم الجغرافيا الأربعائية، فيُعدُّ من الميتات المحظوظة؛ إذ إن الملاك الأكبر طاووسي ملك يكون في انتظار موتاه – موتى الأربعاء – لإيداعهم في جنَّات الخلد. [/rtl]
[rtl]أربعاء السكون والراحة [/rtl]
[rtl]في هذا اليوم، تحرَّم على الإيزيدي دينيًّا ممارسةُ أيِّ عمل يخترق به سكونَ الأربعاء. هو يوم "نيرفانا" الإيزيدية، كي يتقمص المؤمنُ الإيزيدي روحَ إلهه. حتى الاستحمام وأعمال الغسيل محرَّمة في هذا الزمان، لتتسنى له المشاركةُ في صنع تاريخ إلهه. كذلك فإن الأربعاء هو خاتمة الأيام في أسبوع البدايات، فيه انتهت الآلهةُ من وضع اللمسات الأخيرة للتكوين والخليقة. الأربعاء، إذن، هو زمان هروب الآلهة إلى السَّكينة والراحة، كما هو زمان استسلامها لسطوة ذواتها، بعيدًا عن صخب الآخر/الإنسان وضجيجه. [/rtl]
[rtl]أربعاء طاووسي ملك [/rtl]
[rtl]إن الجانب الأكثر قداسويةً في هذا الزمان هو كونه زمانًا لهبوط الطاووسي ملك وظهوره على الأرض، كأول مبشِّر ببدء الحياة في الكينونة؛ هو زمان فرح الثالوث الكوسموغوني الأكبر (الكون – الطبيعة – الإنسان) وبهجته بقدومه القدسي. لذا فزمان الأربعاء هو زمان متفوق بامتياز على امتداد الميثولوجيا الإيزيدية. وهو بميزته الألوهية القداسوية هذه يرتقي إلى مصاف الزماني الكوسموغوني الشمولي، لتصبح الأربعاءات اللاحقة كلها من بعد الأربعاء البدئي جغرافيةً إلهيةً يرسم فيها الإيزيدي تضاريسَ مقدساته وملامحَ طاووس ملكه، باعتباره مبتدأً ومنتهى. تقول الأسطورة: [/rtl]
[rtl]حين كان العالمُ عَماءً كونيًّا ولم تكن الأرضُ قد انفصلتْ عن السماء، هبط طاووسي ملك في هيئة طاووسية [نسبة إلى طير الطاووس] وحطَّ على شجرة الهرهر السرمدية. وما إن نزل حتى كانت الخليقةُ على أتمِّ صورة لها. كان ذلك في زمان بدئيٍّ، أي في الأربعاء الأول من نيسان. [/rtl]
إن قداسوية الإله الرمز/طاووسي ملك، في هذه الأسطورة خاصةً وفي الميثولوجيا الإيزيدية عامةً، تنبع من كونه إلهًا فاعلاً في ولادة البدايات: بدايات كلِّ شيء. هذا الدور القداسوي لطاووسي ملك، كإله فاعل، يحيلنا إلى قداسوية أخرى، على مستوى ثالوث الحدث (زمان، مكان، فعل/شخصية).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

معابرنا Maaberuna الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

معابرنا Maaberuna الإيزيدية والطُّقوس الدوموزية

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: