[rtl][size=35]المَـهَـابْـهَـارَتَـا [/size][/rtl]
[rtl]تاريخ الإنسانية من منظور إلهي [/rtl]
[rtl] [/rtl]
[rtl] [/rtl]
[rtl]مقدمة [/rtl]
[rtl]
ملحمة الـمهابهارتا – "البهارتا العظيم" أو "كبرى مآثر أبناء بهرتا"[1] – واحدة من الملحمتين السنسكريتيتين[2] اللتين شكَّلتا معًا التربةَ الخصبة والمعينَ الثرَّ للأدب الهندوسي، الحكمي والدنيوي، اللاحق برمته. ومتى جيء على ذكر الـملحمة، بالتعريف، فالمقصود هو الـمهابهارتا الذي يشكل بامتداده الطويل – مئة ألف دوبيت[3] (بيتان من الشعر برويٍّ واحد) موزعة على ثمانية عشر سِفْرًا (پرفَن parvan) وملحق بعنوان هَرِفَمْشا Harivamsha ("نَسَب الإله هَري" أي كرشنا–فشنو) – الوثيقة الكبرى التي يمكن الركون إليها (مع الـرامايَنا) لمعرفة بدايات الهندوسية وتطورها اللاحق في نهاية عصر الفيدا. وهو، إلى ذلك، يحوي الـبهغفدغيتا ("أنشودة الرب")، أشهر النصوص الكتابية الهندوسية قاطبة. إنه أدنى إلى أن يكون "موسوعة" للحياة في الهند القديمة، في وجهيها الحكمي والدنيوي؛ وهو فعلاً، في بيت من أبياته، يدعي الإحاطةَ بكلِّ شيء[4]. [/rtl]
[rtl]
وفي المنظور الميثولوجي، يُقصَد بالـبهارتا مجموعة من القبائل المنتظِمة في ممالك وينتسب أمراؤها إلى أصل مشترك واحد هو بهرتا، سليل بورو، أحد ملوك "السلالة القمرية" والجد الأكبر للمعسكرين اللذين يشكل صراعهما الموضوعَ المحوري للقصيد. [/rtl]
[rtl]
مع أن بداية تأليف هذا العمل الملحمي العملاق تعود، بحسب الدراسات، إلى الفترة ما بين عامَي 500 و400 ق م، فإن وضعه يمتد على قرون (منذ نهاية العصر الفيدي حتى القرن السادس الميلادي)؛ ويبدو أن مؤلِّفيه استمدوا من مأثورات شعرية أسبق، متجذرة في موروث آري قديم. ولقد تحدَّر إلينا في روايتين أساسيتين: الرواية الشمالية والرواية الجنوبية (تشيران إلى أسلوبَي الكتابة الأساسيين). غير أن تأثيره استمر زمنًا أطول بكثير؛ ذلك أن النصوص الملحمية المتأخرة لم تغرف من معينه مقتبسةً عددًا من ثيماته وحسب، بل لم يخلُ أي من ثمار المنقول الأدبي الهندي اللاحق من رجوع أو إشارة إليه. فقد اقتبس المسرحُ عنه موضوعاتٍ عديدة – كما اقتبس من الـرامايَنا - يسَّر ذلك غناه بالحِواريات التي تسهل العبور من الأناشيد المتناوبة إلى تقطيع مشهدي[5]. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]مشهد من مسرحية الـمهابهارتا من إخراج پيتر بروك. [/rtl]
[rtl]
كذلك تبسط إلى ما لا نهاية نقيشاتٌ وأفاريزُ بديعة على جدران المعابد مآثرَ آل پاندو وجيوشهم. والتصوير الشعبي، إذ تسلَّم الموضوع بدوره، أبرز، مغاليًا فيها، ملامحَ الأشقاء الخمسة وزوجهم درَوْپَدي وحليفهم الإلهي كرشنا. زبدة القول إن مادة الـمهابهارتا وَسَمَتْ بسِمَتِها المنقول الروحي والثقافي الهندي بأسره[6]. [/rtl]
[rtl] [/rtl] | [rtl] [/rtl] |
[rtl]الملابسات التاريخية والأدبية [/rtl]
[rtl]
في أواخر الألف الثاني ق م، فيما يُظن عمومًا، كان زعيم إحدى القبائل الآرية التي استوطنت شمال غرب الهند يُدعى بهرتا[7]. وبحسب طريقة اشتقاقية مأنوسة في اللغة السنسكريتية، دُعِيَ أعقابُه وأفرادُ عشيرته بالـ"بهارَتا" Bhārata
("سليلي بهرتا" أو "ذرية بهرتا"[8]). ومن ثم فإن المهابهارتا برمته يكشف عن وجود صراعات عشائرية أغلب الظن أنها جرت حوالى القرن العاشر قبل الميلاد في منطقة انصباب نهر الجَمُنا في الغانج، أشاد بها وعظَّم من شأنها المنشدون الملحميون على نحو ما عظَّم الإغريق في الإلياذة من منزلة المقتتلين بين أقوام الحوض الشرقي للبحر المتوسط واحتفلوا بهم. [/rtl]
[rtl]
يحكي المنقول الميثولوجي الهندوسي عن سلالتين أو ذريتين ميثيتين: السلالة "الشمسية" التي تمثل لها ملحمةُ الرامايَنا، والسلالة "القمرية" التي ينتسب إليها أبطالُ المهابهارتا، بما هم أحفاد بهرتا، وهي سلالة اتخذت عاصمةً لها مدينةَ هَسْتِناپُرا Hastināpura
الواقعة على ضفاف أحد مجاري الغنغا (الغانج) شمال شرق مدينة دلهي الحالية. وقد حافظ التراث المحلِّي، حتى أيامنا هذه، على الاسم المشتق من اسم مؤسِّسها هَسْتِن Hastin
الذي تقدمه الأسطورة بوصفه من أبناء بهرتا. ويُروى أن المدينة دُمِّرت من جراء فيضان النهر. [/rtl]
[rtl]بنيان القصيد [/rtl]
[rtl]
ينسب المنقول الهندي هذا المؤلَّف الملحمي الهائل إلى مؤلِّف واحد هو الحكيم فِياسا Vyāsa
الذي تُعزى إليه كذلك مؤلفاتٌ أخرى. وفِياسا هذا يلعب دور الراوية وإحدى الشخوص المركزية للقصيد. والواقع أن "فِياسا" اسم يمكن أن يُترجَم بـ"مصنِّف"، وإن كان الاصطلاح يشير حرفيًّا إلى مَن "يذيع" أكثر مما يشير إلى مَن يجمع أو "يصنِّف"[9]. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]مشهد من مهابهارتا پيتر بروك (الفيلم): فِياسا يُملي الملحمة على غَنَپَتي (الإله الفيل غنيش). [/rtl]
[rtl]
والرواية ليست من الخطِّية في شيء؛ فهي، على العكس، تبدي تشعبًا من المسارات المتوازية والمتداخلة يصعب تصور مبلغ تعقيده. وتلجأ غالبية الفصول – وهي منظومة في معظمها شعرًا – إلى استعمال ما يُعرَف بالـشلوكا shloka، وهو بيت من "البحر" الملحمي الطويل؛ ومع ذلك، تندرج فيها، هنا وهناك، بحورٌ شديدة التنوع، كما نجد فيها أيضًا مقاطع نثرية قليلة العدد، لكنها أحيانًا طويلة إلى حدٍّ ما. وهذا الأسلوب التأليفي الفضفاض يفسَّر عادة بأن وضعها يمتد طوال ستة أو سبعة قرون فيما يقدَّر (ثلاثمائة إلى أربعمائة عام قبل الميلاد ومثلها بعده)، من غير أن يتيسر تحديدُ الفترة المعينة التي يعود إليها وضعُ هذا المقطع أو ذاك. وفي الإجمال، يُدرِج الباحثون الموضوع المركزي (الصراع بين المعسكرين المختصمين، علة القتال والاستعداد له) – باستثناء استطرادات متكررة إلى حدٍّ كبير – بين الأجزاء الأقدم وضعًا؛ أما المقاطع النثرية فيُظَن، في المقابل، أنها أحدث. [/rtl]
[rtl]
وتصب في المجرى الأصلي للرواية أساطير لا تتصل بالأحداث الرئيسية إلا من بعيد: فكلما جيء على ذكر شخص عَرَضي تبرز متوالية من الأبيات تتناوله وأسرتَه ومآثرَه. وفي مثل هذا التشابك، يشعر المرءُ بحرص الرواة على إشباع فضول قرائهم ومستمعيهم وعلى أن يقصوا عليهم حكايات يعرفونها، لكنهم لا يملون من سماعها الكرَّة بعد الكرة. [/rtl]
[rtl]
لقد بينت الدراسات التي أُجرِيَتْ في النصف الثاني من القرن العشرين أن النصَّ نصٌّ مثيولوجي أساسًا، على كونه يشتمل على مادة "تعليمية" لا يُستهان بها. وهو استمرار للموروث الفيدي بربطه القصة الملحمية وشخوصها القائدة بشخوص ميثولوجية وثيمات سردية (نشورية بصفة خاصة) فيدية، وفي بعض الحالات موازية للفيدا، وهندأوروبية. كما ركزت أبحاثٌ أحدث على معالجة الملحمة للحرب بوصفها "معركة أضحوية" تربط السرد الملحمي بالتراث الأضحوي الهندي، وبخاصة البراهمنا. فلعل الملحمة تعكس فترة انتقالية بين الديانة الأضحوية الفيدية وبين المرحلة التي تلتْها. بذا قد تكون الملحمة، وفقًا لهذا المذهب، أول وأعظم صرح تعبُّدي (بهكتي bhakti) يتمحور حول شخصية كرشنا بوصفه أفتارا avatāra، أي "تنزُّلاً" إلهيًّا من تنزُّلات فشنو، على اعتبار أن الـبهكتي يوغا هو الطريق الروحي الأكثر ملائمة لطائفة الـكشتريا أو "المحاربين"[10]. يؤيِّد ذلك المذهبَ إقحامُ بعض الأجزاء، مثل الـناراينيا Nārāyanīya (جزء من السفر الثامن) والـبهغفدغيتا (السفر السادس) والـأنوغيتا (السفر الرابع عشر) والملحق (الـهَرِفَمْشا)، التي يعتبرها أساتذة الـبهكتي مصادر أساسية للعقيدة الفشناوية في نقائها الأصلي: ففيها يظهر كرشنا بصفته فشنو وغيره من أفاتارات فشنو. وأخيرًا، فإن العمل يشتمل على مباحث نظرية وأخلاقية ودينية؛ وهذه الأجزاء التأملية كثيرًا ما تَرِدُ كاستطرادات خارج سياق السرد الجاري. [/rtl]
[rtl]
زبدة القول إن المهابهارتا موسوعة جامعة هائلة، إذا جاز التعبير، حُشِرَتْ فيها، في تناغم فريد من نوعه، عيناتٌ من مجموع طُرُق المعرفة الإنسانية في ذلك العصر، في جملتها معطيات وعقائد عرفانية وفلسفية متنوعة، نلحظ فيها غالبًا أثرَ طريقة الـسامكهيا يوغا sāmkhya-yoga التي تستهدف، ككلِّ طُرُق الحكمة العرفانية الهندية، بلوغَ الانعتاق من الولادة والموت (موكشا دهرما moksha-dharma)[11]. [/rtl]
[rtl]وسيلة النقل [/rtl]
[rtl]
تُفهَم نشأةُ القصيد فهمًا أفضل متى أُخِذَتْ بعين الاعتبار الشروطُ التي حُفِظ بها: فقد كان النقل آنذاك يتم مشافهةً، وكان حفَّاظ الملحمة ورواتها يحفظون عن ظهر قلب آلاف الأبيات، وكانت تقام احتفالات سماع مفتوحة بمناسبة أعياد معينة، دينية أو دنيوية. كان الرواة، بحسب الزمن والمكان والجمهور وأذواقهم الشخصية، يقدِمون على إدراج استطرادات ذات صلة بالأساطير والمنقولات المحلِّية – ومن هنا التباين بين المخطوطات التي دوِّنت فيما بعد في مختلف أرجاء الهند. ومن المحتمل أن التلاوات كانت غالبًا ما تتم بعدة أصوات، مهيِّأة بذلك الرحم الذي نما فيه جنين ما صار فيما بعد الدراما الهندية: لقد ارتبط مصطلح بهارتا بالعدوى بمنشدي الملحمة ورواتها؛ وفي فترة متأخرة بات يشار به إلى أيِّ نوع من أنواع الممثلين، الأمر الذي يؤيد استعمال التلاوات المتناوبة. ولما كانت اللغة السنسكريتية لا تتضمن صيغة الغائب، فإن الأجزاء الخاصة بالمنشدين (الذين تظهر أسماؤهم على هامش متن النص) تتخلَّلها تعليقاتُ محاوريهم أو شخوص يروون مآثرها وما عُرِفَ عنها من أحاديث وسُنَن؛ وفي معظم الأحيان، يَرِدُ كذلك ذكرُ أسماء هؤلاء، إنْ على هامش النص أو في متنه، لكن مداخلاتهم مصوغة على كلِّ حال بصيغة المتكلم. [/rtl]
[rtl]
من جهة أخرى، فإن الأحداث المذكورة في القصيد تجري في عهود عدة. والمهابهارتا يُروى على لسان الحكيم سَوتي Sauti
الذي ينشده في غابة نَيْمِشا Naimisha
الميثية بحضور رهط من "العارفين" rishi المجتمعين بمناسبة قربان عظيم يقدمه الملك سَوْنَكا Saunaka
. لكن ما يرويه سَوتي هو وقائع رواها من قبله معلِّمه فَيْشَمپايَنا Vaishampāyana
في أثناء القربان الذي أحياه جَنَمِجَيا Janamejaya
، سليل المعسكر المنتصر. وإن نشأة الصراع على مُلك هستناپُرا وملابساته مروية أيضًا على شكل حوارات لتدفع إلى مشهد بعينه بعدة منشدين يمثلون جميع شخوص الموضوع المركزي والعديد من مخاطَبيهم. ومثل هذا الدمج بين الروايات يضفي على النص مزيدًا من التعقيد. [/rtl]
[rtl]قصة سليلي بهرتا الكبرى [/rtl]
[rtl]
لا يأخذ موضوع الملحمة الرئيسي، المتمثل في تلك المزاحمة بين أبناء العمومة المولودين من أخوين غير شقيقين، معناه إلا بالرجوع إلى أصول النزاع المروية في الفصول الأولى. ومن المعلوم أن هذه الأحداث المغرقة في القِدَم كشفَها فِياسا – جدُّ طرفي النزاع – لمريده فَيْشَمپايَنا، بحيث إن هذا "الكشف" هو الذي يوثِّق الرواية. [/rtl]
[rtl]
تبدأ القصة الأساسية عندما يتنزَّل فشنو وغيره من الآلهة متخذين صورًا بشرية للتخفيف من وزر الإلهة الأرض التي يضيمها الأبالسة. ففي أعقاب أزمة الخلافة في السلالة القمرية (أي البهارتا) التي تحكم "المنطقة الوسطى" للهند، يتسرب الأبالسة (أسورا asura) إلى الذريات الملكية للممالك الأخرى. وتتنازع عشيرتان ذواتا حقوق متكافئة على مُلك هَستِناپُرا. وإن إيثار پاندو، والد الپاندفا Pāndava
(أو الپاندوفيين)، ولجوء بعض أبناء عمومتهم – الكَوْرَفا Kaurava
(الكوروفيين) – إلى الخديعة، يضع الـدهرما (الناموس، الحق) إلى جانبهم: من منظور كهذا يبدو من الطبيعي والضروري، لإعادة النظام الكوني والنظام الاجتماعي – وهما أمر واحد في الجوهر، إذ إن كلاً منهما ضمانة لاستتباب الآخر – المختلَّين إلى نصابهما، أن ينعقد النصرُ لأبناء پاندو؛ فهم بحق أبناء الآلهة، كما سنرى، وولادتهم جزء من الخطة الإلهية لإنقاذ الأرض. لكن صلات كلٍّ من الطرفين بالآخر تشتبك وتتداخل إلى حدٍّ يصعب معه ابتياعُ النصر بثمن زهيد – والثمن سيكون باهظًا إلى حدٍّ مخيف، كما سنرى. [/rtl]
[rtl]أصل الحرب [/rtl]
[rtl]
بالوسع توزيع أسفار الملحمة الثمانية عشر إلى ثلاث مجموعات رئيسية. تعرض الأسفار الأربعة الأولى للأسباب البعيدة والقريبة للنزاع وكيف أمسى حتميًّا: ينبغي، إذن، اقتفاء أثر أسباب النزاع بالعودة القهقرى عدة أجيال. وعندئذٍ تبرز شخصية كورو Kuru
. ومع أن تسمية "كَوْرَفا" يختص بها أحد الحزبين المتخاصمين، وهو حزب دهْرِتَراشْترا Dhritarāshtra
، فإنهما جميعًا يتحدران من صُلب كورو. فقد وُلد للملك شانتَنو Shāntanu
– وهو من ذريته – من الحورية غنغا Gangā
(نهر الغانج مشخَّصًا) ابنٌ حكيم وفاضل هو بهيشما Bhīshma
؛ ومن بعدُ سعى الملك إلى العقد على الأميرة سَتْـيَـفَـتي Satyavatī
التي كانت أنجبت، من حيث لم يدرِ أحد، ابنًا هو كرشنا، تركتْه في جزيرة[12] (دفيپا dvīpa). وعندما بلغ الطفل سنَّ الرشد، انسحب إلى الغابة ليحيا فيها حياة الزهد والتوحد. ولما كان والد سَتيَفَتي راغبًا في رؤية أحد أنجالها ملكًا على هَسْتِناپُرا فقد فرض على شانتَنو لا أن يرغم بهيشما على النزول عن العرش، بل أن يتعهد بعدم إنجاب ذرية قد تنافس ذريةَ ابنته الزوج الشابة. ويَعِد بهيشما العَدْل والمستقيم بالامتثال احترامًا لأبيه، ويتم الزواج ويثمر عن ابنين اثنين. لكن سوء الطالع يتدخل، إذا يُقتَل أحدهما في نزال، فيما يشقى الثاني بجسم معتل ويموت بلا عقب عن زوجين شابتين[13]. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]فِياسا. [/rtl]
[rtl]
وبحسب عرف قديم يفرض على الأخ أن يتزوج امرأة أخيه المتوفى بلا ذرية، يتم اللجوء إلى بهيشما؛ لكن هذا الأخير الذي تعهد علنًا بألا ينجب لا يستطيع أن يخلَّ بميثاقه. وعندئذٍ تتذكر سَتيَفَتي ابنَها الثاني الزاهد المتوحِّد الذي اتخذ اسم فِياسا؛ فيُرسَل في طلبه، ويقبل، بعد لأْيٍ، أن يستولد ابنًا لكلٍّ من زوجَي أخيه المتوفى. لكن منظره كان من القبح بحيث إن الأميرتين ارتعدتا فرقًا وتقززًا لدى دنوِّه منهما: إحداهما أغمضت عينيها، فوضعت من جراء ذلك طفلاً ضريرًا؛ والثانية غشي عليها، وبسبب من امتقاع لونها المخيف أُطلِق على طفلها اسمُ پاندو، "الشاحب". ومع أن دهرِتَراشترا هو بكر الأخوين، فإن كفَّ بصره أعفاه من ارتقاء العرش؛ وبذلك تُوِّج پاندو ملكًا. ويعقد پاندو على زوجين اثنتين، لكن تقلبات الدهر تنوء على الكَوْرفا: وإذ يقع پاندو ضحيةَ لعنة، فإنه يحذَّر من مغبة مواقعة امرأة لأنه بذلك يحكم على نفسه بالموت. وبذلك تنسحب المشكلةُ عينها على الجيل التالي. [/rtl]
[rtl]
إن ما يميِّز البعد الميثي عمومًا هو وجود الدواء إلى جانب الداء. فقد تلقت كُنتي Kuntī
، زوج پاندو الأولى، من أحد الحكماء منترا mantra (عبارة سحرية مقدسة) ذا خاصية عجيبة: ففي مستطاعها، إذ تتلوه مرفوعًا إلى أحد الآلهة، أن تنجب من هذا الإله ولدًا. وقد كانت ما تزال عذراء حين خاضت هذه التجربة سرًّا مع سوريا Sūrya
، إله الشمس. أما كَرْنا Karna
المولود من هذه الصلة، فقد تخلت عنه دفعًا للأقاويل. وفي العسر الذي يقع فيه پاندو من جراء اللعنة تصارحه كُنتي بموهبتها؛ وبالاتفاق مع زوجها الذي يتبنى الصبي كَرْنا، تنجب ثلاثة أبناء، هم على التوالي: يودهِشْتهِرا Yudhishthira
، المولود من دهرما Dharma
(تجسيد العدل الإلهي) والمتصف بالحكمة والحصافة؛ بهيما Bhīma
، الجبار الطائش، ابن فايو Vāyu
(إله الريح)، المتصف بالعنف والنهم والملقب بـ"بطن الذئب"؛ وأرجونا Arjuna
، النبَّال النبيل، أجمل الثلاثة، ابن إندرا Indra
(كبير الآلهة). والأعجب من ذلك أن كُنتي تقبل أن تستفيد ضرَّتها، المغتمَّة من عقمها الإجباري، من كرامتها الاستثنائية، فتمنحها إياها مرة واحدة فقط؛ لكن الضرة الفَطِنة مادري Mādrī
تستحضر بهذه المناسبة التوأمين الإلهيين أشفِن Ashvin
، فتنجب توأمين: نَكولا Nakula
وسَهادِفا Sahādeva
، ذوَيْ الخصال الجسمانية والمعنوية الأقل شأنًا من إخوتهما الكبار، وإن كانا يتصفان بالبسالة والشهامة[14]. [/rtl]
[rtl]
في غضون ذلك، تنجب زوج دهرِتَراشترا أولاً دُريودهَنا Duryodhana
، المولود قبل يودهِشْتهِرا، ومن بعدُ تسعة وتسعين ابنًا. ومن هذه الذرية الغفيرة، التي يكاد أفرادُها ألا يتميز بعضُهم عن بعض، لا يبرز إلا دُريودهَنا، العنيف، الجائر، الغيور، الناقم؛ ولسوف تكون طبيعته الشريرة هذه علة التنافس بين الأمراء[15]. [/rtl]
[rtl]
وإذ يُتوفى پاندو شابًّا عن أطفال صغار[16]، تلجأ كونتي، أم الپاندفا الخمسة، إلى دهرِتَراشترا الطيب لكن الضعيف. وبذلك يترعرع أبناء العمومة معًا؛ ويتولى عمهم بهيشما أمر تدريبهم على فنون القتال وإرشادهم الروحي. وكثيرًا ما يصطدم بهيما، ابن الريح وصاحب الطبع المتهوِّر، بدُريودهَنا؛ لكن هذا الأخير لا يتغاضى عنه، مثلما لا يتغاضى عن فضيلة يودهِشتهِرا، ولا عن جمال أرجونا ومهارته. إن فضيلة يودهِشْتهِرا التي لا لبس فيها تدفع بدهرِتَراشترا، الذي آلَ إليه المُلكُ بعد وفاة أخيه، إلى إعلان ابن أخيه وليًّا للعهد من بعده، مفضلاً إياه على ولده دُريودهَنا. وإذ يستشيط هذا الأخير غضبًا عندما يعلم بالأمر، يقنع الملك بالخديعة بأن ينفي الپاندفا وأمَّهم إلى الغابة. [/rtl]
[rtl]
وإبان هذا النفي، يسمع الأمراء الخمسة بأن حفلاً خاصًّا لاختيار بعل (شفايَمْفَرا shvayamvara) يجري عند درَوْپدا Draupada
، عاهل عشيرة الپَنْتشَلا Panchala
، على شرف ابنته درَوْپَدي Draupadī
(تجسد شري Shrī
، إلهة السعد)، فيمضون إلى هناك متنكرين. وإذ ينتصر أرجونا في مباراة الرمي بالقوس ويوتِر قوس درَوپدا العظيم، يفوز بالأميرة التي يعود بها الإخوةُ الخمسة منتصرين إلى أمِّهم قائلين: "لقد فزنا بكنز!" وهاهنا أيضًا يلعب سوء الطالع لعبتَه؛ فمن دون أن تكون كونتي على علم بما جرى – وهي الأم "المنصفة" – تجيب: "فاقتسموه، يا أبنائي، فيما بينكم." وفي السياق الهندي، للِّسان سلطانُه والنظام لا يُنتهَك: بذا تصبح درَوپَدي زوجًا للپاندفا الخمسة[17]. [/rtl]
[rtl]
[/rtl]
[rtl]أرجونا يوتِر قوسَ درَوپَدا. [/rtl]
وإذ ينتهي زمان نفيهم، يعود الپاندفا إلى المملكة. وحينئذٍ يقسم دهرِتَراشْترا المملكة، مح