المتكلمون والتأسيس الدوغمائي
20 أغسطس 2014فكر وفلسفةسلمان الحبيب لقد جاء الإسلام في مجتمع جاهلي مليء بديانات متعددة من يهودية ونصرانية وحنفية وعبادة وثنية،فنشر معتقداته وتعاليمه العباديّة والأخلاقية ناسخاً كل الأفكار والمعتقدات السابقة .
وبعد مرور زمن من انتشار الإسلام تعدّدت الآراء وكثر الحديث والجدل في المعتقدات نتيجة التفسير والتأويل والنقد والاطلاع على أفكار جديدة وفلسفات من ثقافات مختلفة ،وكان من الطبيعي أن تنشأ الفرق ويسعى البعض للتطوير والتجديد ، ويحدث الرفض لبعض الأفكار الدينية أو رفض العقيدة جملة وتفصيلاً فساهم ذلك في إيجاد مجموعة تقوم بالمحافظة على مفاهيم العقيدة من خلال (علم الكلام) الذي يتخذ تلك المفاهيم ثوابت يبحث لها عن دليل دون أن يبدأ بالنقد والتحقيق ونحن ندرك بأنه يفترض بنا عند البحث أن نبدأ بالشك لنصل إلى اليقين لا أن نبدأ باليقين لنصل إلى أدلة تثبته كما هو عند علماء الكلام ومع ذلك فهم يزعمون أنّهم يجمعون بين العقل والنقل إلا أنّهم يستخدمون العقل لتأكيد النص الذي يعتقدون بصدقه مسبقاً وبهذا فالعقل مؤطّر لديهم بيقينيات قبليّة يسعون بعقولهم لتثبيتها لا إلى تمحيصها والتدقيق في صحتها أو بمعنى آخر فإنه يمكننا القول بأنّ العقل أصبح مسخّراً للوصول بك إلى ما يراد الوصول إليه لا إلى ما تقتنع به.
إنّ المتكلمين بدافع الحرص على العقيدة أسهموا في التعصّب للموروث دون السماح بالشك أو الإنكار بل يبدأ المتكلمون بتصديق النص أولاً، ثم تأتي الأدلة والإثباتات والتكلّف في البحث عن الدليل ،وقد يضطرون إلى تأويل النصوص مستخدمين كل الوسائل التي تثبت الفكرة التي آمنوا بها؛ فساهموا بأحادية فكرية ترفض أيّ فكرة دخيلة أو نقاش يشك أو ينكر، وهذه البذرة الذهنية للتعصّب الفكريّ من الفريقين سنة وشيعة ،حيث برز من علماء السنة المتكلمّين الرازي والأشعريّ والغزالي ،أمّا علماء الشيعة المتكلمون فمن أبرزهم : الطوسي والعلامة الحلي والشريف المرتضى .
ولم يكن علم الكلام قد برز لترف فكريّ أو استعراض ثقافيّ بل ظهر للحاجة إليه من قبل المسلمين في الفترة المتأخرة بعد الإسلام بالإضافة إلى الاستعداد والتقبّل . وتتمثّل الحاجة إليه في حراسة العقيدة بعد فترة من الزمن وبعد ظهور الفرق ووجود المشككين والمنكرين ومن تأثر بالعقائد الأخرى للأمم التي اتصل بها العرب والمسلمون.وكان الاستعداد والتقبّل يتمثل في عدة أمور وهي أنّ الإسلام ظهر في الجزيرة العربية التي برز فيها الشعر والبلاغة وفنون الكلام والتباهي بالشعر والمبارزات الشعرية بالإضافة إلى العصبية والنزعة العدائية والميل إلى الحروب حتى إنهم يقومون بتنشئة أطفالهم على فنون القتال ويجهزون له عدة الحرب منذ ولادته بل يسمونهم بأسماء توقع الرعب في نفوس من يحاول النيل منهم بالإضافة إلى ذلك فإن المجتمعات الشرقية تميل إلى المحافظة والتقليد والعرب كانت لديهم العصبيات القبلية والجهل أي (الغضب) حتى قال الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلنَّ أحدٌ علينا
فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
وبهذا فكل من يحاول التفكّر في أمور العقيدة بادئاً بالشك للوصول إلى الحقيقة يتهمه المسلمون بالزندقة ، كما كان المسيحيون يتهمون من يحاول التفكير خلافاً للسائد بالهرطقة ،إلا أن المسيحيين بعد أن وصلوا للعلم ووجدوا تعارضاً بينه وبين الدين بدؤوا يخرجون عن سلطة الكنيسة لينطلقوا إلى الأفق الفسيح فكان العقل منطلقاً للحكم بينما لم يكن لدى المسلمين من علم سوى فنون الكلام فبدؤوا للحفاظ على العقيدة بتأسيس (علم الكلام)واستمروا عليه ثم تطوّر الأمر إلى مناظرات وسجالات بين الفرق الإسلامية تساهم في خلق الفتنة والعداء ليكون الشغل الشاغل لعلماء الدين إشغال الناس بفنونهم الكلامية ومبارزاتهم اللفظية بينما الأديان الأخرى تجاوزت ذلك فكانت تلك المبارزات تاريخاً عفا عليه الزمن.
من هنا ظهرتْ (الدوغمائية ) الإسلاميّة التي تؤمن بالفكر الموروث والتسليم به مطلقاً دون قبول بالنقد والتجديد أو حتى الشك من أجل الوصول إلى الحقيقة وهم بذلك يخالفون دعوة القرآن بالتفكّر والتدبّر والتأمّل والإتيان بالدليل في كثير من الآيات القرآنية .
لقد تبلور الفكر المحافظ والمتعصّب في علم الكلام الذي يمثّل الإكراه والإقصاء وبدلاً من جعل العقل الوسيلة للتحقق أصبح العقل عبداً للنص الموروث يحاول أن يخدمه وأن يستخدم كل طاقاته لنصرة النص فإن كان العربي ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً فقد أصبح كذلك مع النص.
ذلك الفكر الدوغمائي القاطع وسجالات الفرق الكلامية والانشغال بالنصوص لا بالعلوم كما حدث في المجتمعات الغربية بالإضافة إلى العصبيات العربية أسس لعداء الإنسانية وهذا ما يبرّر وجود الإرهاب اليوم الذي تستفيد منه السياسات الغربية .
وإنك لو سألت أولئك المتعصّبين سيجدون مبررات لتعصّبهم وسيبحثون عن الدليل الذي يدعم اعتقادهم المسبق وهذا التوجّه لا يختلف عمّا يقوم به علماء الكلام وبذلك فهم جعلوا العقل عبداً لا سيداً ؛ لذلك لا نستغرب ممن قتل وسفك الدماء باسم الدين ومن سبى النساء وروّع الآمنين وقتل المخالفين ليظفر بالجنة ولا نعجب من عدم تقبّلهم للنقد وهم يؤمنون بمسلّمات ثابتة لا تقبل النقاش ليغرقوا في دوغمائيتهم العمياء حتى أنهم يدعون للإسلام بالإكراه والقرآن يقول : ( لا إكراه في الدين ) ويقول أيضاً : ( لكم دينكم ولي دين ) ومع ذلك فلهم أدلتهم مستندين إلى نصوص قرآنية مثل : ( إن الدين عند الله الإسلام ) و(من يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) و(اقتلوهم حيث ثقفتموهم ) و ( قاتلوا المشركين كافّة) و(قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) و( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ).
بهذه الدوغمائية التي لا تقبل التحليل والتأمل أصبح كثير من المسلمين جامدين على النصوص وأصبح الإسلام يُوصف بفعل هؤلاء المسلمين بدين الإرهاب مما أدّى لمعاداتهم وللخروج عليهم حتى من المنتمين إلى الإسلام فلكل فعل –كما نعلم – ردة فعل.
لذلك يجب أن نفرّق بين خارج عن الدين لاقتناع بغيره ، وخارج عن الدين نتيجة لما يراه من وحشية ودمويّة وتعصّب وإكراه فيكون خروجه ردة فعل على أفعال أولئك الوحوش الذين انسلخوا من إنسانيتهم .
ولا أنكر أن بعض الخارجين عن الدين أصبحوا دوغمائيين مقلّدين ويحضرني في ذلك ما شاهدته من لقاء تلفزيوني لأحد المذيعين الغربيين وهو يمر بالناس بمختلف أعمارهم وتخصصاتهم ممن يؤمنون بفكرة التطوّر فلمّا أراد سبباً مقنعاً لفكرة التطوّر عند داروين لم يستطيعوا الرد بشكل مقنع ،وبعضهم ردّ بأننا نتطوّر يوماً بعد يوم فردّ المذيع بأن هذا التطوّر في النوع نفسه وأنا أريد التطوّر الدارويني الذي ينقل النوع إلى نوع آخر فلم ينبسوا ببنت شفة بل هزوا أكتافهم وأدار بعضهم وجهه وبعضهم قال لقد أثبت العلماء ذلك وأنا أثق بهم فقال المذيع لهم في النهاية إذا الأمر مسألة إيمان فقالوا : نعم هو إيمان وبالتالي فإيمان هؤلاء لا يختلف عن إيمان المتدينين الدوغمائيين ؛إلا أنّ العلم لم يحاول أن يصنع دوغمائية ممنهجة ولن تصل أفعالهم لما يفعله الدينيون لأن قداسة النص الديني تجعل من الفرد منقاداً إليه دون تفكير مما يجعله يرتكب الحماقات .
من خلال ذلك أستطيع القول بأن علم الكلام كان جناية على الدين وإثارة للجدل والخصومة واستعراض القدرات اللفظية والحجج الكلامية ليكون المسلم مسجوناً داخل اللغة وداخل أسوار النص الدينيّ وهذا ما يمثل الجمود والتعصب الديني والتثبيت للفكر الدوغمائي على مدى العصور لشعوب كانت مستعدّة للاتباع والتقليد والعصبية وترفض الفكر الذي يعدّ تهديداً لاستقرارها النفسيّ وهذا أوجد تراجعاً فكرياً شبيهاً بما كان عند العرب في جاهليتهم مع عبادتهم الوثنية حينما قالوا : ( إنا وجدنا آباءنا على ملة وإنا على آثارهم لمقتدون ) فأصبحوا يؤمنون بكل نص وبكل فكرة باعتبارها يقيناً مسلماً به ولا يعمل عقله إلا في البحث عما يؤيد تلك الفكرة أو ذلك النص دون تمحيص ودون نظر أو بحث أو تدقيق فيما يقولون بل إنّهم يقولون ما شاؤوا ،فإن سألت أحدهم ولم يجد قدرة على الرد قال لك : (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) فهو يفر من الحوار لأنه يرى نفسه مصيباً يجب أن يقتنع الآخر بما يقول وإلا فإنه هالك مما يخرج المارد الجاهليّ من صدره ليفتك بالآخرين ويعيد للناس سيرة (داحس والغبراء) وحرب (البسوس ) و(يوم ذي قار).
• سلمان عبد الله الحبيب