جديد فوكوياما: عودة التاريخ من بوابة تفسخ السياسة
صبحي حديدي
October 2, 2014
العبارة المفتاحية ليست، هذه المرّة، «نهاية التاريخ» أو «القرن الأمريكي الجديد» أو «فضيلة الثقة الليبرالية» أو «النظام البيولوجي للعلاقات الدولية» أو «عصر الانعزال»… وما إليها من مآلات وأقدار وخواتيم صاغها الأمريكي فرنسيس فوكوياما؛ الذي اشتُهر، وما يزال في الواقع، سنة 1989 حين أطلق نظرية انتهاء التاريخ وولادة الإنسان الجديد، والأخير، مخلوق النظام الرأسمالي الذي انتصر، إلى أبد الآبدين. طريف أن يسجّل المرء هنا، ودون إبطاء، أنّ التاريخ لم يكن الطرف الذي أبطل تلك النظرية وألقى بها ـ بعد أسابيع قلائل، وليس شهوراً أو سنوات ـ إلى سلّة مهملات مكتظة بنظريات مماثلة؛ بل كان المنظّر نفسه، فوكوياما، هو الذي شيّعها إلى مثواها، عن طريق الانقلاب عليها مراراً وتكراراً.
العبارة المفتاحية الأحدث عهداً، إذاً، من مبتكرات فوكوياما، هي الـ Repatrimonialization، أو إعادة فرض الأبوّة المالية، والتوريثية؛ أي، باختصار شديد: هيمنة المصالح الخاصة، للمتنفذين والأقوياء والأثرياء (ويصحّ القول أيضاً: الساسة الآباء)، على المصالح العامة للشعب والعموم والبسطاء (والأبناء، استطراداً). والمثال الكلاسيكي على هذه الحال ما شهدته الدولة الإسبانية منذ 1560، وبلغ ذروته مع فيليب الرابع؛ وأمّا المثال المعاصر فهو ما يشهده الكونغرس الأمريكي، بين حين وآخر، من سيطرة مجموعات الضغط.
وهكذا، صدر كتاب فوكوياما مؤخراً، في 685 صفحة، بعنوان طويل بدوره: «النظام السياسي والتفسخ السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية»؛ يستكمل، كما يقول مؤلفه، المجلد الأول ضمن السلسلة، الذي صدر قبل ثلاث سنوات بعنوان «أصول النظام السياسي: من أزمنة ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية». وهذا الكتاب الجديد: «نظرة إلى الوراء، يحاول تفسير كيفية صعود المؤسسات الراهنة عبر الزمن. ورغم أنه يشير إلى أي عدد من المشكلات التي تُفرد الأنظمة السياسية الحديثة تحت تصنيف التفسخ السياسي، فإنني أتفادى التوصيات المحددة للعلاج. ولقد قضيت فترة طويلة من حياتي في عالم سياسة عامة تسعى إلى حلول محددة لمشكلات السياسة، ومع ذلك فإن هذا الكتاب يسعى إلى مستوى من التحليل يشير إلى منابع نظامية أعمق».
غنيّ عن القول! هكذا عوّدنا فوكوياما، في كلّ حال، وخلاصات هذا الكتاب الجديد لا تشذّ عن العادة، أو هي تقتفي النهج ذاته الذي يستنبط المقولات الخاطفة، المتكئة على العجائبي والمبهر والدراماتيكي؛ دون احتساب مخلفات المقولات السابقة، أو محاسبة الذات على اتضاح قصورها، وانتكاساتها الفادحة غالباً. في سنة 1995، بعد ثلاث سنوات أعقبت تحويل مقالة «نهاية التاريخ» إلى مجلد، أصدر فوكوياما كتابه الثاني، «الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق الرخاء»؛ وفيه أعلن أنّ الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية، ومضلات تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ. ولقد سكت، بالطبع، عن الأشباح القومية والإثنية التي كانت قد استيقظت في وجدان ذلك الإنسان، ومن حوله، وأشعلت الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بدفن الأموات بدل رعاية الأحياء.
سياسة ما بعد التاريخ هي، كما أقرّ صاحبنا، اقتصاد مبطّن: «جميع المسائل السياسية تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً». لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، كتب فوكوياما، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو، في المقابل: سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها. هاهنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الاجتماعية التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيادي الأخرى مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني. وأن يركب المواطن الكوني عباب محيط المعلومات، أمر يشكّل ثقافة اجتماعية في الأساس؛ وأن يشتغل الفتى/ المعجزة بيل غيتس على احتكار وسيلة الإبحار هذه، أمر يعني احتكار الاجتماع الثقافي أولاً، قبل احتكار الاجتماع الاقتصادي والاستثماري والتكنولوجي والعلمي.
وليس بغير دلالة خاصة، بصدد هذا المبدأ بالذات، أن الفيلسوف الفرنسي الروسي الأصل ألكسندر كوجيف، كبير مفسّري هيغل في القرن العشرين وأستاذ فوكوياما، بلغ خلاصة مبكرة مفادها أن الفيلسوف الألماني كان على حقّ في القول بنهاية التاريخ. خطوة كوجيف التالية كانت درساً في أخلاق المهنة إذا صحّ القول، لأنه قرّر بدوره أن الفلاسفة من أمثاله ينبغي أن يُحالوا إلى التقاعد أو يغيّروا المهنة، فانقلب إلى بيروقراطي اقتصادي في إحدى مكاتب السوق الأوروبية المشتركة!
خيار هيهات أن ينتهجه فوكوياما! هذا رجل كان عزيز قوم في صفوف اليمين الأمريكي المعاصر، واليمين الجمهوري خصوصاً، ثمّ يمين «المحافظين الجدد» على نحو أخصّ؛ وهو الذي نعى صراع الأفكار والعقائد والإيديولوجيات، وكان أحد أبرز الموقّعين على نصّ سوف ينقلب بدوره إلى أيقونة: «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، 1997، بتوقيع أمثال ديك تشيني، دونالد رمسفيلد، بول ولفوفيتز، جيب بوش، ريشارد بيرل، ريشارد أرميتاج، وزلماي خليلزاد. ومع ذلك كله، أعلن أنه لن ينتخب جورج بوش الابن، أمام جون كيري؛ ولن ينتخب جون ماكين، أمام بارك أوباما!
كذلك ساجل بأنّ خطأ أمريكا في
العراق لم يكمن في مشروع الغزو العسكري وحده، بل في عدم احتساب آثاره وعدم التحسّب لنهاياته؛ فضلاً عن ارتكاب أخطاء قاتلة، تراكمت يوماً بعد آخر وشهراً بعد شهر، لكي ترجّح الاحتمال المريع بأنّ
العراق لن ينقلب إلى واحة ديمقراطية في صحراء الدكتاتوريات العربية؛ ولعله لن ينقلب إلا إلى معمل يصنّع آيات الله، ويصدّر بضاعة الإرهاب والتشدّد الديني والانقسامات المذهبية: «المشكلة اليوم تكمن في منع المجموعات التي تكوّن
العراق من التطلّع إلى ميليشياتها، وليس إلى الحكومة، بحثاً عن الحماية. وإذا انسحبت الولايات المتحدة قبل الأوان، فإنّ
العراق سوف ينزلق إلى فوضى أكبر. وهذا سيطلق سلسلة من الأحداث العاثرة التي ستُلحق المزيد من الضرر بالمصداقية الأمريكية على امتداد العالم».
لهذا فإنه، في الفقرات اليتيمة التي خصصها لانتفاضات العرب في كتابه الجديد، يرى أنّ منظمات مثل «
القاعدة» و»الدولة الإسلامية»، تدخل بالتاكيد ضمن الأخطار المحيقة بأمن النظام الدولي؛ لكنّ الخطر الداهم، أكثر، إنما يتمثل في صعود الصين كدولة مؤسسات حديثة ما تزال تعتمد العقيدة الشيوعية رسمياً؛ وفي المغامرات الروسية، على شاكلة ضمّ أوكرانيا مثلاً. ولن يُنجز كتاب جديد من فوكوياما دون خلاصات متواضعة تجبّ ما قاله الرجل سنة 1989؛ مثل هذه: «الديمقراطيات الليبرالية الحديثة ليست أقلّ عرضة للتفسخ السياسي من الأنماط الاخرى للأنظمة»؛ أو هذه: «ليس من المرجح أن يرتدّ مجتمع حديث إلى مجتمع قَبَلي، ولكننا نرى من حولنا أمثلة ‘القَبَلية’، من عصابات الشوارع إلى شلل الوصاية والنفوذ في المستويات الأعلى من السياسة الحديثة».
وإذْ يسهب فوكوياما في مناقشة المقولات الثلاث للنظام السياسي، الدولة وسلطة القانون وأواليات المحاسبة؛ ويبحث في طرائق، وعوائق، عولمة الديمقراطية (كما اكتشفها، أخيراً، في دولة مثل الدانمرك، وليس في أمريكا أو
فرنسا أو
بريطانيا!)؛ فإنه، في المقابل يسلّم بأنّ الطريق إلى الديمقراطية ـ من ثورات 1848 في أوروبا، إلى «الربيع العربي» في عصرنا ـ ليست وعرة وشاقة وطويلة، فحسب؛ بل هي، كذلك، محفوفة بالكثير من ذاك الذي انتهى، وما انتهى: التاريخ!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صبحي حديدي