دراسات في توثيق التراث الشعبي العربيم. بوطقوقة أحلام أبو زيد*
ارتبطت معظم الدراسات التى سنعرض لها بتوثيق التراث الشعبي في كافة المجالات، وقد آثرنا أن نعرض في هذا الإطار للملتقى الإقليمي للمنطقة العربية حول صون التراث غير المادي والذي جرت فعالياته في أبو ظبي، ونشر في كتاب العام الماضي. إلى جانب اختيارنا لدراسات متنوعة في التوثيق، فهناك موضوعات في توثيق الحكايات الشعبية، وأخرى في توثيق النقود، وثالثة في توثيق الأماكن، ورابعة في توثيق الحرف والمهن الشعبية. وينتهي جديد النشر بعرض لموضوعات مجلة الفنون الشعبية المصرية التي حملت بدورها موضوعات نرى أنها لم تبتعد عن مجال التوثيق في أبوابها المتنوعة.
توثيق التراث غير المادي والحفاظ عليه :شغلت قضية الحفاظ على التراث غير المادي المجتمع الدولي والعربي، واهتمت اليونسكو بهذه القضية بشكل خاص منذ إعلانها عام 2003 لاتفاقية حماية التراث الثقافي غير المادي. وعقدت العديد من المؤتمرات والندوات الدولية حول هذه القضية، وقد ناقشت مجلتنا – الثقافة الشعبية – مصطلح «التراث غير المادي» ونشرت تفاصيل ما انتهت إليه في عددها الأول. وقد أصدرت هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث عام 2008 كتاب «التراث غير المادي: كيفية الحفاظ عليه وإعداد قوائم الحصر.. تجارب عربية وعالمية»، والكتاب يقع فى 425 صفحة من الحجم المتوسط، ويحوي أعمال الملتقى الإقليمي للمنطقة العربية حول صون التراث غير المادي وإعداد قوائم الحصر، والذي جرت فعالياته فى الفترة من 31 مارس حتى 4 أبريل عام 2007 في أبو ظبي. وقام بعمليات التحرير والإشراف كل من: دكتور ناصر بن على الحميري، والأستاذ محاسن عبد الرحيم وقيع الله، ودكتور إسماعيل على الفحيل. وقد أشار الدكتور ناصر بن علي الحميري مدير إدارة التراث المعنوي بهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث في تقديمه للكتاب إلى أن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث قد قامت باستضافة هذا الملتقى الإقليمي الأول للمنطقة العربية حول «اتفاقية صون التراث غير المادي» عام 2007 حيث عُرض على وفود الدول العربية التي لم توقع على اتفاقية 2003 لصون التراث غير المادي أهمية هذه الاتفاقية من حيث صون التراث غير المادي والمحافظة عليه من الانقراض والاندثار والضياع وكيفية تسجيله في «اليونسكو». وقد تجاوبت الوفود العربية مع هذا المطلب، فقد شاركت 18 دولة في هذا الملتقى بجانب خبراء عالميين وخبراء من دول أخرى. ويضيف الدكتور الحميري أن ثمار هذا الملتقى يبدو أنها قد بدأت تظهر، فقد ارتفع عدد الدول العربية التى وقعت على اتفاقية 2003م من ست دول – قبل انعقاد الملتقى – إلى إحدى عشر دولة، وهي: الجزائر، والإمارات، ومصر، وسلطنة عُمان، والمغرب، وسوريا، والأردن، ولبنان، وتونس، وموريتانيا، واليمن. واشتمل الكتاب – بعد التقديم على كلمات السادة الأساتذة: محمد عبد الله الشحى منسق معرض أبو ظبي للكتاب، ومحمد خلف المزروعي مدير عام هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، وبلال ربيع البدور الوكيل المساعد للشئون الثقافية بوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، وأخيراً كلمة سيزار مورينو تريانا أخصائي برامج قسم الثقافة غير المادية ممثل اليونسكو بباريس. وقسمت موضوعات الكتاب لمجموعة من المحاور، الأول بعنوان «صون التراث غير المادي وقوائم الجرد» حيث قدم في هذا المحور السيد سيزار مورينو تريانا ورقة حول التحديات التي تواجه قوائم الحصر القومية في اتفاقية عام 2003، أعقبها موجز تمهيدي لعناصر جرد التراث غير المادي، ثم نص الاتفاقية. أما المحور الثاني فقد اشتمل على مجموعة تجارب عالمية في إطار صون التراث غير المادي، قدم فيه دكتور هايوكى ساتوري ورقة بعنوان «حفظ التراث الثقافي غير المادي: الأنظمة و الخطط و الأنشطة في اليابان». كما قدمت السيدة نجوين كيم دونج ورقة حول «حفظ التراث الثقافي غير المادي: إعداد قوائم الحصر في فيتنام». وأخيراً قدمت السيدة سانوجو كليسيجو ورقة حول «حفظ التراث الثقافي غير المادي في مالي». وخصص المحور الثالث للتجارب الإقليمية والعالمية المرتبطة بتقنيات جمع وتوثيق ودراسة وترويج وإحياء التراث غير المادي، فقدم السيد عبد الحميد حواس ورقة حول «تطور مفهوم التراث المادي و غير المادي لدى «اليونسكو»: اعتبارات مفهومية وجهة نظر الثقافة الشعبية العربية (مصر). أما الدكتورة السعدية عزيزي فقد عرضت لورقة بعنوان «تقنيات جمع التراث الثقافي غير المادي المخطوط و الشفهي: قراءة في التجربة المغربية». وفي المحور الرابع ناقش المؤتمر موضوع «صون التراث غير المادي: التجارب العربية المشتركة ..الماضي والحاضر». فقدمت دكتورة ريتا عوض ورقة حول «جهود المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) فى الحفاظ على التراث العربي (المؤتمرات والاجتماعات والبرامج). كما قدم الدكتور أحمد مرسي ورقة حول «حفظ التراث غير المادي و حمايته: المأثورات الشعبية المصرية نموذجاً». وفي المحور نفسه قدم دكتور عبد الرحمن أيوب لقضايا و توصيات مؤتمر تونس. وقد غطت المحاور من الخامس حتى الثامن موضوع تبادل وتقييم التجارب الوطنية فى صون التراث غير المادي و قوائم الجرد، بدأت بورقة السيد إبراهيم سند حول «طرق وأساليب الجمع الميداني لعناصر التراث في البحرين»، ثم الدكتور عمر حلبلب الذي قدم ورقة حول دور التسجيل وقواعد البيانات في الحفاظ على المعارف التقليدية والفلكلور بلبنان. كما تناول السيد يوسف حسن مدني تجربة السودان في توثيق التراث الثقافي غير المادي. أما تجربة سلطنة عمان فقد قدمها السيد مسلم بن أحمد الكثيري من خلال ورقته حول جمع و توثيق التراث الموسيقي التقليدي. كما قدم السيد السالك ولد محمد مصطفى تجربة صون التراث الثقافي غير المادي في موريتانيا. وفي المحور السادس قدم السيد عبد العزيز المسلم تجربة دولة الإمارات في حفظ التراث الثقافي غير المادي، كما قدم دكتور سمير قفص ورقة حول التراث غير المادي في المغرب: الغنى و التنوع وإشكالية المحافظة. أما دكتور زعيم الخنشلاوي فقدم ورقة عرض فيها للنموذج الجزائري لحماية الكنوز البشرية، واختتم المحور بورقة الأستاذة أروى عثمان حول تجربة جمع وتوثيق التراث المعنوي في اليمن. وبدأ المحور السابع بالتجربة السورية في جمع و حفظ التراث الشعبي بعد اتفاقية 2003 والآفاق المستقبلية للدكتور كامل إسماعيل، أعقبتها ورقة دكتورة آسيا بنت ناصر حول «حفظ التراث غير المادي :الأدب الشعبي و سبل صونه في سلطنة عمان»، ثم ورقة دكتور علي برهانة حول «الإجراءات التشريعية و القانونية الخاصة بصون التراث من خلال تجربة المركز الوطني للمأثورات الشعبية في ليبيا». أما المحور الأخير فقد بدأ بعرض «التجربة الفلسطينية في جمع التراث غير المادي» للسيد نادر جلال ذياب، ثم ورقة دكتور علي القيم حول «السياحة الثقافية والتراث غير المادي بسوريا». وفى نفس المحور قدم الدكتور هاني العمد ورقة بعنوان «جهود الأردن فى جمع التراث غير المادي..رسمياً وفردياً». واختتم المحور الثامن بورقة السيد سعيد حمد الكعبي حول «دور هيئة أبو ظبي للثقافة و التراث في الحفاظ على الحرف والصناعات اليدوية». واختتم الكتاب بتسجيل مجموعة التوصيات التي اتفق عليها المشاركون والتي كان في مقدمتها إنشاء مؤسسات متعددة الاختصاصات تعنى بصون التراث الثقافي غير المادي، وضرورة الاعتماد على التجارب المنجزة في المجال العربي، مع الاستفادة من التجارب الدولية في عمليات الجمع والتسجيل والصون، كما دعا المشاركون هيئة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة إلى العمل على إنشاء مركز عربي للدراسات – أو «وحدة بحوث» – يعتمد الخبرات العربية وتوكل إليه مهمة التنسيق وتنظيم دورات تدريبية، وتقديم منح دراسية للمشتغلين في مجال التراث غير المادي العربي في الأقطار العربية.
التأصيل العربى لكليلة ودمنة :في مجال بحث وتوثيق الحكايات الشعبية العربية صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عام 2008 كتاب جديد ضمن سلسلة الدراسات الشعبية (رقم 118) للدكتور محمد رجب النجار، بعنوان «كليلة و دمنة تأليفاً لا ترجمة» صدر الكتاب بعد وفاة الدكتور النجار بعامين، ويقع في حوالي أربعمائة صفحة من الحجم المتوسط. والكتاب يطرح قضية غاية في الأهمية مرتبطة بتأصيل نسب حكايات كليلة ودمنة، ويشير الأستاذ خيري شلبي في تقديمه للكتاب تحت عنوان «رد غربة كليلة ودمنة» إلى أنه من المستقر في جميع الأبحاث والدراسات أن مؤلف كتاب «كليلة ودمنة» هو الفيلسوف الهندى بيدبا، لكن عالم الفولكلور الرائد الدكتور محمد رجب النجار، صاحب الخبرة الموسوعية في فنون البحث والاستدلال، رفض الاقتناع بذلك، وألقى بنفسه فى خضم بحث عميق خلص منه إلى نتيجة مبهرة هي أن مؤلف كتاب «كليلة ودمنة» هو عبد الله بن المقفع. والنجار بذلك يعيد نسبة الكتاب إلى صاحبه ويؤكد مدى عبقرية القريحة العربية التى طالما اتُهمت بالجمود. ويشير رجب النجار إلى أن هذا البحث ينحو – في الاتجاه المعاكس – لإثبات ثلاث قضايا بشأن كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. الأولى: تأكيد نسبة الكتاب إلى ابن المقفع باعتباره مؤلفاً لا مترجماً. الثانية: إثبات عروبة الكتاب وأصالته، تأليفاً لاترجمة. الثالثة: منح الكتاب صك الانتماء إلى الثقافة القومية والأدب العربي، باعتباره نصاً إبداعياً أصيلاً من إنتاج الثقافة العربية الإسلامية في عصرها الذهبي. وعلى الرغم من أن بعض علماء الفولكلور والباحثين العرب يؤمنون بصدق هذه القضايا الثلاث، فإنهم لم يقدموا من الأدلة سوى ما يسمى في علم المنهجية بالأدلة السلبية التي تقدم نصف الحقيقة، بمعنى أنها أدلة تنفي فعل الترجمة. ويأتي هذا البحث، في خطوة أخرى لاكتمال الحقيقة، فيقدم من الأدلة ما يؤكد «فعل التأليف». متكئاً إلى ثلاثة محاور رئيسية: المحور التاريخي الذي يقدم الدليل التاريخي على أن ابن المقفع هو مؤلف الكتاب الحقيقي، لا مدعي الترجمة. ثم المحور الفولكلوري الذي يؤكد انتماء الكتاب – نصاً عربياً أصيلاً – إلى الثقافة القومية، وابناً شرعيًا للتراث العربي. وأخيراً المحور الأدبي المقارن الذي يؤكد أن الكتاب العربي لابن المقفع مفارق تماماً لنسخة الشاهد الهندي (البنجاتنترا) من حيث البنية السردية، المورفولوجية والدلالية والوظيفية، مؤكداً وبما لايدع مجالاً للشك أن الكتاب العربي كان تأليفاً لا ترجمة. وعلى هذا النحو يتناول النجار في كتابه موضوع قصص الحيوان، ثم ينتقل لبحث كتاب كليلة ودمنة والنوع الأدبي، مختتماً كتابه بفصل حول عروبة الكتاب أو معضلة الانتماء والتأليف. أما الجزء الأكبر من الكتاب فقد خصصه المؤلف لدراسة نصية مقارنة بين حكايات البنجاتنترا (الأسفار الخمسة) التى ترجمها الدكتور عبد الحميد يونس مطلع الثمانينيات وكليلة ودمنة، ليخلص لما خطط له فى المقدمة بعد مقارنة النصوص لنقف في النهاية على التأصيل العربي لكتاب «كليلة ودمنة».