لن يعود النشطاء المصريون الحقوقيون الثوريون عن حراكهم بعد أن ذاقوا طعم التغيير وطرق تحقيقه وبعد أن فقدوا أعز أصدقائهم في ثورة ٢٥ يناير والمواجهات التي وقعت بعدها. لقد كسر هذا الجيل حواجز الخوف والتردد وأصبحت بالنسبة إليه مواجهة القمع والفساد ومصادرة الحقوق وعليائية المؤسسة الحاكمة طريقة في الحياة. فمن دون دولة مصرية رحيمة وديمقراطية حديثة مساءلة أمام شعبها تتقبل الرقابة على سلوكها ومتصالحة مع فئات الشعب المتنوع (إسلامي وغير إسلامي، «إخواني» وغير «إخواني»، مع الرئيس وضده) ستبقى الأزمة تعيد إنتاج نفسها.
هذا الجيل لن يندثر ولن يخرج من مسرح التاريخ، بل بالكاد بدأ بالتعبير عن رسالته، وهو لهذا يصنع كل يوم تراثاً ثورياً وغناء وشعراً وأدباً ومسرحاً ولغة وطرقاً جديدة في مقاومة النفي والتحكم والسجن والفساد والاستبداد. الجيل المصري الجديد من النشطاء والحقوقيين والثوريين السلميين شجاع في توجهاته، ذكي في ممارساته، مندفع في سعيه، وصادق مع نفسه، وهو ساخر حول كل ما يتعلق بالسلطة وقراراتها وارتباكها وتخبطها وفوق كل شيء شيخوختها وفوقيتها. يكفي متابعة التواصل الاجتماعي المصري لبضعة أيام لاكتشاف عمق هذه السخرية وفاعليتها في التحضير لمشهد التغير القادم. هذا جيل متمرد بلطافة وسخرية، ومتمرد بصمت وصخب، بالمقاطعة والكتابة، بالحشد ثم الاختفاء، وفوق كل شيء يجيد استخدام القوة الناعمة: أغنية ومسرح ولغة وفكر وكلمات وسينما وإعلان ودعاية.
بين هذا الجيل المصري الجديد رموز تنبتهم ظروف التجربة، لكن هذه الرموز تعيش الآن وراء القضبان في سجون مصر التي تتميز بفقر تجهيزاتها وسوء تنظيمها وإداراتها. ففي السجون المصرية مئات من الشبان والشابات والنشطاء وألوف غيرهم تم حبسهم بتهم مختلفة. لهذا يتعلم الجيل وسائل مقاومة صبورة كالإضراب عن الطعام، وتتحول السجون إلى قوة دفع جديدة لموجات قادمة هدفها التغير والإصلاح. السجناء كثر فبعضهم من صانعي ثورة ٢٥ يناير وبعضهم انضم إليها بعد انطلاقتها، ففي السجون شخصيات شبابية ورموز أكبر من الحياة يعكس كل منها القيمة الكبيرة لمصر التغيير.
النشطاء المصريون في السجون وخارجها خط ثالث بين خطوط متناقضة وبعد رابع يتعمق في مشواره الديمقراطي من خلال آلام التجربة، بينما يقف بصلابة خارج قدرة القوى الحاكمة وقبضتها الحديدية الأمنية وخارج قدرة التيارات السياسية التقليدية على احتوائه. هذا جيل يصنع تاريخه بالممارسة كما في الفكر، فالعاصفة التي يثيرها لن تتوقف مهما بالغت الدولة العميقة في ردها المدمر والاعتقاد بإمكانية إعادة الناس إلى عهد شبيه بعهد الرئيسين السابقين حسني مبارك أو أنور السادات.
ولو دققنا سنجد أن الكثيرين من هؤلاء المناضلين محتجز بلا محاكمة منذ شهور في حالات كثيرة بلا توجيه اتهام. سنكتشف أن السجن في هذه الحالة يخلق حراكاً أوسع ويعطي للحركة الثورية المصرية الحقوقية هالة أكبر وعمقاً وقوة دفع ستحتاج إليها من أجل معركتها لمصلحة مدنية الدولة.
في السجن يتعلم الشباب والشابات الكثير عن النظام السياسي المصري الذي يسجنهم، ويكتشفون عبر تجاربهم أنه لا مستقبل لمصر بلا إصلاحات تصيب الهيكل في بعده الاقتصادي والحقوقي والسياسي والقضائي والأمني. لكن مئات النشطاء الذين يقفون مثابرين خارج السجون لا يعرفون متى سيكونون مثل البقية، فاليوم يعملون من أجل التغيير ويصطدمون بالسلطة في الشارع وغداً قد يكونون في السجن وهكذا دواليك. هذا بالتحديد يؤسس لأدب يزداد انتشاراً عن حياة السجون بينما ترتفع قيمة الكفاح من أجل الحقوق. لو دققنا في المشهد لوجدنا مئات من الشبان والشابات ممن يحضرون وجبات الطعام كل يوم وذلك بالتعاون مع ألوف العائلات التي لديها معتقلون، وتدعم هؤلاء النشطاء جيوش من المحامين ممن يلتزمون الدفاع عن كرامة وحقوق السجناء من دون أن يعني هذا تعاون السجون مع كل طلباتهم. إن هذه المجموعات المنتشرة تبذل الجهد والوقت كما أنها تسعى وتثابر متغلبة على مخاوفها وقلقها وخوفها على مستقبلها. بين هذا الجيل تنمو قصة وتتعمق رواية لا يشعر بها النظام ولا يراها. هذا التكون والتشكل سيكون حاسماً في الموجات الثورية القادمة.
لقد تعلم الجيل المصري بأكثر مما يتوقع النظام الأمني. مصدر تعليمه لم يكن التعليم المدرسي التقليدي والقائم على الحفظ، بل إن مصدر تعليم الجيل ارتبط بالممارسة السياسية والاحتجاجية من جهة وبقدرته على القراءة والتعلم الذاتي من جهة أخرى. فبكبسة زر يتعرف الجيل كل يوم على واقعه نسبة إلى واقع المجتمعات الأخرى في العالم. إن الجيل المصري الذي يتشكل حقوقياً وسياسياً في مواجهة التجربة المرة منذ انقلاب ٣ يوليو 2013، لم ولن ينجر إلى التطرف المسلح وممارسة العنف. فهذا الجيل مؤمن بسلمية التعبير والوسيلة، لكنه ملتزم في نفس الوقت بضرورة بناء حالة تسامح وتعايش تحمي الحريات والحقوق بين المختلفين كما تراقب النظام السياسي في كل أعماله. لهذا يتفادى هذا الجيل تكرار الروح الإقصائية التي تنتشر في صفوف النخب الحاكمة التي يختلف معها كما وتنتشر مع بعض المعارضات السياسية والمسلحة التي يختلف مع وسائلها أيضاً.
هناك حتماً فارق نوعي بين جيل النشطاء وبين حكومات خطابها وسلوكها لا يزالان عالقين في الستينات و»صوت العرب» والصحافة القومية. الجيل الصاعد أكثر ذكاء في المجال التكنولوجي والعلمي والمعرفي ووسائل التعبير والتأثير وهو حتماً قادر على استيعاب عنف النظام عبر خلق روايته ومقاومته وبطولاته وتضامنه وقصة صموده. وبينما يشيخ النظام ويفقد قوة دفعه فإن قوى الحراك الشبابي المصري في تصاعد ونمو رغم حجم الانتهاك الذي يمارس عليها.
الجيل المصري الجديد ومثله الجيل العربي الجديد يحمل عقلية كونية، إلا أنه لا يثق بسياسات الأنظمة في كل مكان بما فيها الأميركية والأوروبية والغربية التي تسعى لحماية مصالحها أولاً وأخيراً. انه في الجوهر مع مساءلة السلطة ومراقبتها وضرورة تقيدها في كل مكان، وهو مع التداول على السلطة ومع استقلال حقيقي للقضاء ومنع استخدامه واستخدام الجيوش والأمن والقمع في الخلاف السياسي والشأن الاقتصادي، وفوق كل شيء يؤمن الجيل بقيم العدالة الاجتماعية والحريات. إن فهم هذا الجيل للديمقراطية ليس تقليداً للأنظمة الغربية بل سعياً منه لإعلاء مبدأ المشاركة وتقليص الامتيازات.
هذا الجيل من المصريين يختلف مع الإسلاميين لكنه يدافع عن حقوقهم، كما أنه يختلف مع كل ممارس للعنف المسلح لكنه يدافع عن حقه في محاكمة عادلة مدنية. لهذا بالتحديد أصبح عدد كبير من نشطاء وحقوقيي هذا الجيل وراء القضبان وتهمتهم الحقيقية: الدفاع عن حقوق الآخرين بعد انقلاب ٣ يوليو. إن محاولة إعادة إنتاج السلطوية بعد الربيع العربي لن تؤدي إلا إلى ثورات أكثر عمقاً وشمولية.
المصدر: الحياة
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
منبر الحرية، 15 يوليوز/تموز