بؤس العولمة: إعادة التعريف
كُتب يوم 23 نوفمبر, 2011 بواسطة د. ميلاد مفتاح الحراثيلا يزال مصطلح العولمة، الحديث نسبياً في الأدبيات السياسية العربية، يُثير جدلاً وحواراً، من حيث إيجابياته وسلبياته، وانقسم المشهد الثقافي العربي إلى مؤيد ورافض وفق المنطلق والتركيبة العقائدية التي يحملها هؤلاء، وما يؤسف لهُ أن المصطلح قد أخذ جل تفكير العقل العربي، وتحول إلى مُؤطر ومُمنهج للعولمة أكثر من الذين اخترعوها، فغاب لدى الطرفين أن الذي يحدث هو تطوير لنظرية سيادة الأقوى، وفق قوانين نظرية القوة بدون حدود، فكان من نتاجاتها ما اتفقت عليه ثقافية العقل العربي "بالعولمة" ظُلماً والذي ينتجُ بؤساً ثقافياً عربياً. من خلال هذا تحاول هذه المطالعة أن تحلل ماهية بؤس العولمة، وعولمة بؤسها في ثقافية الذهنية ألعربية ؟
إن كل ما نتلمسهُ اليوم من تقدم، وتحديث وحداثة، وتقنيات وسلوكيات، خصوصاً تلك التي تتسلل إلى ثقافيتنا العربية، لا يُعبر عن واقع المصطلح الذي نصف به تلك الحداثة والتطور، ونعنى بذلك مصطلحGlobalization ، والذي تُرجم ونُقل إلي العربية بالخطأ. فالعولمة ونمطيتها لا تُعبر عن كل ما نتلمسهُ من تطورات، في عالم اليوم، والمصاحبة لهذا المصطلح. فالعولمة وصف يُشير إلى الامتداد الجغرافي للمكان والزمان، ولا يمتلك قانون لتفسير التفاعل الحضاري بين الأمم، وبالمقابل فأن كل ما نتلمسهُ اليوم من تقدم وتطور ليس لهُ علاقة بمصطلح "العولمة" بمعنىGlobalization”"، ولكن علاقتهُ تذهب إلى "نظرية القوة وتحولاتها " Power Theory Politics، ومحاولاتها المستميتة باتجاه إعادة تشكيل المجتمعات البشرية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، من ثم تنميط سلوكياتها، نظراً لامتلاكها للقوانين المفسرة لسلوك القوة واتجاهاتها، في حين أن مصطلح " العولمة" لا يملك إلا البؤس الثقافي المُفسر الوحيد لها.
لقد نسب النسابون من المثقفين العرب فكرة "العولمة" إلى إدعاءات جورج بوش الأول، بعد انتصاره في " عاصفة صحرائهِ الخليجية" ومن خلال تأثرهِ بكتابات كل من صموئيل هنتجتون وفاكو ياما ، بأن هناك نظاماً عالمياً جديداً في الأفق،وأن الليبرالية قد انتصرت، وبالتالي فإن التاريخ قد انتهى "بانتصار الإنسان الأخير"، ثم أردف الأخير بعمل، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، بعنوان " وأنتصر الغرب" في إحدى الصحف البريطانية، ليؤكد مجدداً بأن الانتصار قد تحقق فعلاً، بالرغم من وجود تيارات التطرف الديني في العالم، وببطلان مفعول نظريته ورؤيته للكون الإيديولوجي، وأن الصراع هو "صراع ألحضارات إلا أنه، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، تراجع فوكوياما عن عقيدتهِ التي أسس لها "بنهاية التأريخ عندما عاصر بنفسه الإحداث التاريخية اللاحقة لرؤيته، وذلك بفضل فشل التسويق الغربي لديمقراطيته في العالم الثالث،والادعاءات الذر عيه لمكافحة الإرهاب،وتراجع المشروع الاميركى في العراق وأفغانستان.
فكيف التاريخ ينتهي بمجرد عولمة انتصار عسكري، واحتلال دوله بالقوة وباسم شرعنة دوليه أحاديه؟ لقد غابت أمال فوكوياما ومقارباته المتحيزة، لأنهُ لم يكن محايداً في رؤيتهِ وتفسيرهِ لأحداث عصره، فقز مُتجاهلاً دُروس التاريخ التي تُشكل المستقبل، وتناسى أن التراكم لا يصنعهُ إلا التاريخ وأحداثهِ، وماذا سوف يقول عن أزمة الاقتصاد المالي الراسمالى لديمقراطية " الإنسان الأخير" ؟ وماذا سوف يقول عن تحولات القوة الكونيه من معياريه القوة العسكرية إلى معيارية القوة ألاقتصاديه؟ وأيضاً ماذا سوف يقول عن فشل " فوضويته ألمنتجة والذي بارك فلسفتها وتطبيقاتها من خلال " الفوضى ألخلاقة "، والتي نعتقد فيما نعتقد أنها نظرية تخليق الفوضى عند الغير .
فالتاريخ وصُنع إحداثه لا يمكن أن يكون في متناول ذوى الأحادية التفكيرية، لأن ذلك يعنى أن الذي يتبنى مثل هذا التفسير قد يكون من الذين يتلقون تنبؤات من عوالم أخري. فالذي يصنع التاريخ البشرى ليس بجنس، أو عرق، ولكن البشرية هي التي تصنع تراكماتها، ونُطلق على تلك التراكمات مُسمى التاريخ. وحتى إذا أخذنا بتفسيرهِ بأن الصراع هو " صراع الحضارات" ، ومن هنا ليس هناك من وصف لذلك إلا استمرار التاريخ وتراكماتهِ، ولأن التراكم هو الذي يُجدد التاريخ نحو استمراره، وليس بنهايتهِ، لأن الصراع مبنى أساساً على فكرة التسابق إلى تكوين تاريخ للذي يملكُ حرفية القوة وتحولاتها وتوازناتها، إذاً التاريخ هو أداة صُنع التراكم ، بمعنى الانجاز، وهو ليس بتاريخ الجماد، ولكنهُ تاريخ البشر الذي تتم عملية صُنعه في ظل وجودهم، وليس في ظل غيابهم. ولم يحدثنا التاريخ بأن هناك تاريخاً لأمة من الأمم قد صُنع بالوكالة، فليست هناك وكالة لصنع تاريخ الأمم.
إلا أن المسألة لم تتعلق بفوكوياما لوحده،ولكن تتعلق بالذين انجرفوا وراء طرحه المُتسرع " بنهاية التاريخ" . تاملنصن جون، اقترح هو الأخر وصفاً للعولمة بأنها مشروطية امبيريقيه للحداثة العالمية ووصفها بذلك " المُركب المتُصل" ، ومن هنا فأن العولمة تُشير إلى "التطور السريع من خلال تبادل التواصل والاعتماد المتبادل للقيم المنتصرة" . وحتى بافتراضنا لفكرة العولمة من خلال مظاهرها المختلفة، فاْن تلك المظاهر إنما ترجع إلى فكرة "نظرية النظام العالمي" ) Immanuel Wallenstein )، ونظريات الحداثة المتعاقبة منذ الستينيات من القرن الماضي.
قيدنز Giddens ، في عمله " نتائج ألحداثة" ، ذهب إلى وصف مظاهر ما يسمى بالعولمة" إلى أنها عملية توسع تشمل عموم الكره الارضيه" ، التي ترتبط مباشرةً بالحداثة . وبالتالي إذا كان فوكوياما يتصور إن نتائج الحداثة هي" نهاية التاريخ بإنسانه الأخير" والتي أدت إلى انتصار تجربة الغرب في الحروب ونشر أساليبه المجتمعية وتعميمها على الكره الارضيه ، فهذا لغط معرفي لفكرة التاريخ، لأن الحداثة وتوسعها لا تختص بها ثقافة معينه، أو أمه منفردة، فالحداثة عبارة عن عمليات مستمرة لا ترتبط بالمكان أو الزمان، والتاريخ هو الذي يعمل على صُنعها، ومن ثم فأن التاريخ له بدايات وليست له نهايات.
وبالرغم من أن العمل الأخير( فوكوياما) حاول مجدداً شرح "بؤس نظرية ألعولمة وإعطائها زخماً فكرياً، إلا أن ثقافية العقل العربي أعطته بعداً تنظيرا، وأطرت لهُ وقدمتُه كعمل يستحق كل الاهتمام والترويج لهُ .
إن مكونات "مصطلح ألعولمة والجدل الذي صاحبها، والتيارات، والاتجاهات التي أفرزتها ثقافية العقل العربي، هي في الأساس من مُبتكرات منظري "نظرية القوة" وعلى رأسهم " هانز مورغانثو " الذي وضع اللبِنات الأولى لنظرية "سياسة القوة ألكونية والتي أنتجت ما أتفق عليه المثقفون العرب "بالعولمة وتداعياتهما وبهذا التجاوز وعدم التتبع لمزارع الأفكار ونشأتها انقسمت ثقافية العقل العربي إلى تيارات واتجاهات فهناك: اتجاهات رفضت العولمة كلياً ،واتجاهات قبلتها بدون تحفظ، واتجاهات قبلتها بتحفظ، واتجاهات لا تفهم العولمة وقبلتها، واتجاهات قبلت العولمة ولكن لا تدركها إدراكاً ثقافيا .
فثقافية العقل العربي لم تنتبه إلى طبيعة مناقشاتها، ووجهات نظرها،ومعاركها الفكرية حول المصطلح الوافد، الذي يخدم مخترعيه، والذين أشرفوا على تصديره، وإعادة ترتيب بيت القوى العالمي، فأسرعت هذه الثقافية بالحديث والطرح والتنظير لمسائل عولمة الاقتصاد، وعولمة الثقافة، وعولمة التجارة، وعولمة الاتصالات، وعولمة القيم، وعولمة، الفنون، والإعلام، ولم تنجو عولمة الانتصارات العسكرية منها، وغاب عنها عولمة المواجهة،وعولمة الفقر. فلم يعمل المؤيد أو المعارض على فهم المنطوق التفسيري لأركان المصطلح، وفهمهِ وترجيعهِ إلى حاضنتهِ الأصلية .
فالحاضنة الأصلية للمصطلح هي "نظرية القوة" وسياساتها، ومن هنا وجب على هذه الثقافية العودة إلى دراسة "نظرية القوة" ومدارسها، وعدم التسليم بحجية انتصار المصطلح أو رفضه، والعمل على فهم قوانين نظرية القوة التي تتحكم في عولمة القيم .
هذا الاعتقاد يمكن تعزيزه من خلال ما يشهدهُ العصر من اطروحات يُقدمها الغرب باسم نظرية القوة، ويتقبلها المثقفون العرب باسم العولمة، عولمة "النموذج الأمريكي" و"عولمة الإرهاب" و"عولمة الانتصارات العسكرية" وتمجيدها أين موقعها في جدل العولمة ؟ فهل اطروحات العولمة يستطيع الغرب تقديمها خارج إطار الاستعمار الجديد وثقافية الاستعمار القديم ؟ وثقافية العولمة التي تعتمد على اجتياح ثقافية الآخر من خلال "عولمة الهيمنة والتنميط السياسي والاجتماعي والثقافي" هل لها صدى في ثقافية العقل العربي ؟
ليس هناك شيء يُسمى "بالعولمة" إن كانت واجبة للاختيار أو الرفض، أنما هناك عودة لكتابة تاريخ الإنسان بقلم كوني، وعودة لتفسير منظومة مصالح الأقوى في الكون السياسي، من منظور سياسة نظرية القوةPower Theory Politics ، هذا التطور بالطبيعة يشمل ويطال الإنسان ومؤسساتهِ وليس هناك مكان للرافض والذي يقبل .
بؤس العولمة يدعونا إلى تجاوز أدبياتها، وإحلال تفسيرات نظرية القوة وقوانينها محلها، لنتجنب بؤسها السياسي والاقتصادي والثقافي. نتاج العولمة هي أفرارات لقوانين القوة ونظرياتها، وبالتالي فثقافية التداول الفكري للمصطلح تتطلب العناية الفائقة بأدب قانون القوة Power Law في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وتجاوز ما يُسمى بترف العولمة .
المشهد الثقافي لجدل العولمة عليه أن يُعيد ترتيب أولوية المواجهة، وإذا كان هناك استعداد مطلوب، هو إيجاد مرتكزات منهجية، وصُنع ما يمكن تسميتهُ بعولمة المواجهة "واستقلالية ألعولمة وضبط إيقاعاتها،" وتحريرها " .
الدعوة هنا ليست استبعاد التلاقح الفكري،وإنما إعادة ترتيب بيت ثقافية العقل العربي تجاه كل ما هو وافد من مصطلحات؛ وعدم الإنجرار نحوه حتى لا يتشكل لدينا البؤس الثقافي. عربياً لقد أضافت فلسفة "بؤس العولمة" خموداً ثقافياً عربياً، وشكلت مدارس واتجاهات، ومعارك فكرية في غير وقتها، وفي غير مكانها، فلم نسمع أن هناك جدلاً قد حصل حول مصطلح العولمة بكثافة وحجم الجدل الذي قادُه المثقفون العرب في المشرق والمغرب العربي. والسبب يرجع إلى جهوزية المثقف العربي واستعداده الدائم لاستقبال الوافد دونما البحث في جذور الأفكار ومنبتها . تلك خاصية الثقافة العربية وإنسانيتها وانفتاحها، ولكن "الثقافة الآخر" يجتاح وينفذ ولا تعنيه إنسانية النفاذ بدون هيمنة.
والنتيجة هي إصابة ثقافية العقل العربي "ببؤس العولمة" من خلال "عولمة البؤس الثقافي المعولم"، وتحولت ثقافتنا إلى ثقافة متُلقية مُجتهدة في تشكيل الاتجاهات والمدارس في خدمة مجانية للمصطلحات الوافدة.
الجدل الثقافي الذي ينبغي أن يُستثمر ويوظف لصالح مدنيه حضارة الثقافة العربية يجب أن يبحث في مشروع نهضوي عوربي، جدلاً يتخذُ من العروبه منطلقاً في مواجهة جدل العولمة، .والمآزق الثقافي الذي وقعت فيه الثقافة العربية هو الاحتضان غير النقدي لمقولة العولمة المرفوضة والمقبولة، والتعامل معها من خلال اطروحات الغير، ومن موقع التفاعل أو الانفعال. ليس ذلك فقط، ولكن التعامل مع العولمة وكأنها خيراً أو شراً لابد منهُ، دونما معرفة الحاضنة الفكرية إلام، وهي مدرسة "نظرية القوة" وسياساتها، ومن ثم التعامل مع نتاجاتها مباشرة دونما المرور عبر مظلة مصطلح العولمة وبؤسها .
إجمالاً هذه المطالعة تقول، أن تجاوز "الحواضن المقولاتيه" والتقدم لها يُحدث وهناً ثقافياً، وهو مطلب لثقافات الاجتياح والهيمنة. وكان من الأجدى للعقل الثقافي العربي الانطلاق نحو جدل حوارى ثقافي عربي في مواجهة مقولات ومصطلحات نظرية القوة، ومناهجها دونما الترويج والانبهار بمصطلحات التمدد الجغرافي للمكان والزمان،فثقافية العقل العربي استوعبت بؤس العولمة واتهمتها بمسؤوليتها على بؤس ثقافيته نحوها، في حين المسئولية هي التوجهات غير الصحيحة نحو عولمة البؤس الثقافي العربي من خلال بؤس العولمة .
السبت نوفمبر 23, 2013 12:38 pm من طرف تابط شرا