التطور العقلي عند الطفل في مدرسة جينيف وبياجي
|
| |
جان
بياجيه JEAN PIAGET هو علم من أعلام النفس وأحد مشاهيره الكبار. وهو صاحب
نظرية تكون النشاط العقلي وبنائه التي تتسم بالأصالة وسعة النسق الفكري
وانتظامه وعمقه. وضخامة حجم المعطيات الميدانية التي وظفتها، وغزارتها
ودقة معالجتها وتحليلها.
عاش بياجيه أربعة وثمانين عاماً. كرس منها أكثر من ستين عاماً للنشاط
العلمي. ونشر خلالها حوالي خمسين كتاباً وأكثر من 400 مقال. وشارك في
العديد من الندوات والمؤتمرات الإقليمية والدولية. وكان مثال إعجاب
المشاركين فيها وموضع احترامهم، الأمر الذي تجلى في تخصيص جزء من
مداخلاتهم لمناقشة أفكاره في العديد من التجمعات واللقاءات العلمية، مثلما
حدث في المؤتمر الدولي التاسع(نيويورك 1929) والمؤتمر الحادي عشر(باريز
1937) والمؤتمر السادس عشر(بون 1960) والمؤتمر السابع عشر(واشنطن 1963)
والمؤتمر الثامن عشر(موسكو 1966) لعلم النفس.
ولد بياجيه في مدينة نيوشاتيل NEUCHATEL(سويسرا) عام 1896. وتوفي عام
1980. ودرس في صباه علم الأحياء، واهتم بالرخويات على وجه الخصوص. وكتب
مقالين في هذا الميدان. ولكنه سرعان ما اتجه نحو الفلسفة وعلم النفس.
ودفعه شغفه بهما إلى التعرف على مؤلفات العديد من الفلاسفة وعلماء النفس.
وكان لكل من كانت وكونت وبرغسون ولالاند- كما ذكر بياجيه نفسه فيما بعد-
كبير الأثر في تحديد اتجاهه الجديد الذي خطا أولى خطواته فيه عام 1918
حينما نشر دراسة طرح فيها المشكلات الفلسفية والمعرفية النظرية. وحاول
حلها باستخدام المعطيات البيولوجية(PIAGET, 1918). وقد تضمن هذا العمل
المبادئ الأساسية التي كرس نشاطه العلمي لتحليلها. وتتجسد هذه المبادئ في:
-أهمية معطيات البيولوجيا وضرورة الاعتماد عليها في حل المشكلات التقليدية
للإبستمولوجيا. وفي هذا الصدد يحذر بياجيه من مغبة التوظيف الآلي والسطحي
لتلك المعطيات ونقلها الحرفي إلى الميدان المعرفي. ويؤكد على القيمة
العلمية لإيجاد حلقات وسيطة بين البيولوجيا ونظرية المعرفة. ويذهب إلى أن
سيكولوجية النمو والابستمولوجيا المعرفية تعتبران نموذجاً صالحاً لهذه
الحلقات.
-إن الأفعال الخارجية، شأنها شأن العمليات الداخلية(الذهنية) تتسم
بالتنظيم المنطقي وأن المنطق ذاته ينشأ على نحو ما من خلال أشكال التنظيم
العفوي والتلقائي للأفعال.
-خلافاً لما قاله برغسون وجيمس فإن النشاط الذهني هو نشاط عقلاني، أي أنه
يحتوي على بنية منطقية تحدد تشكل منطق التفكير ذاته. وعليه فإن على الباحث
أن لا يدرس منطق الفعل ذاته فقط، بل وعليه أن يتناول أيضاً نماذج أو
معايير الذكاء في تكون الأفعال المنطقية والرياضية.
وبالاعتماد على هذه المبادئ طرح بياجيه قضيتين أساسيتين، هما:
1- النشاط الذهني هو أفعال مادية وخارجية مستدخلة.
2- إمكانية تفسير الأفعال الخارجية، الحسية والعمليات العقلية باستخدام البنيات المنطقية.
وبالإضافة إلى ما سبق قام بياجيه بتحليل معمق للخلاف بين أنصار "موضوعية
المجتمع(دور كهايم) ومؤيدي "واقعية الفرد"(تارد) والتباين في وجهات نظر
البيولوجيين. وتوصل إلى وضع وسيلة لحل مسألة العلاقة بين الكل والأجزاء
مشيراً إلى أن عملاً كهذا يعد مدخلاً للإبستمولوجيا كعلم تلتقي فيه
الطرائق الفلسفية والبيولوجية لدراسة الذكاء.
إن الأنماط المكتملة والممكنة لتوازن أية منظومة هي ائتلاف معقد لأجزائها
وارتباطها بعضها ببعض بطريقة ما. ويتحدث بياجيه عن ثلاثة أنواع لعلاقة
الكل بالأجزاء. ففي النوع الأول تتغير طريقة التفاعل بين الأجزاء مما يؤدي
إلى تغير الكل. وفي النوع الثاني تتغير الأجزاء دون أن يتغير الكل. ويعرف
النوع الثالث ثبات واستقرار الكل والأجزاء.
أما بداية نشاط بياجيه في ميدان علم النفس فتعود إلى بداية العشرينيات.
فقد مكنه عمله في مخبر بينيه في باريز من الاطلاع على النظريات والدراسات
النفسية وفي عام 1921 استدعاه كلاباريد للعمل في معهد جان جاك روسو في
جنيف. وهناك شرع في دراسة القدرات العقلية عند الطفل. وبعد بضع سنوات عين
أستاذاً في جامعتي جنيف والسوربون. ومن ثم شغل منصب مدير معهد روسو
للدراسات التربوية والنفسية. كما أصبح مديراً للمكتب العالمي للتربية
التابع لمنظمة اليونسكو.
وخلال سنوات 1921-1925 أجرى بياجيه الحلقة الأولى من تجاربه ونشر نتائجها في عدد من المؤلفات، أهمها: "الكلام والتفكير عند الطفل"
(1923) و"الحكم والاستدلال عند الطفل"(1924) و"تصور العالم عند الطفل"
(1926) و"السببية الفيزيائية عند الطفل"(1927) و"الحكم الخلقي عند الطفل"
(1932). وتبرز عناوين هذه الكتب طبيعة المشكلات التي تصدى بياجيه
لمعالجتها وتقديم الحلول لها. وتتمثل هذه المشكلات في تفكير الطفل ولغته
وكيفية إدراكه للواقع الخارجي والعلاقات القائمة بين موضوعاته وأشيائه
وظواهره.
ولعل ما يلفت الانتباه هو ما احتوته هذه الأعمال، وسائر أعمال بياجيه، من
أدوات تختلف تماماً عن تلك التي يستخدمها الباحثون وممثلو النظريات
والمدارس السيكولوجية. فقد انتقد بياجيه في مقدمة كتابه "تصور العالم عند
الطفل" الاختبارات(الروائز) النفسية. ووجد أنها تقيد المفحوص(الطفل)،
وتفرض عليه شروطاً مصطنعة تقضي على عفوية نشاطه النفسي. ولهذا فإنه يفضل
الأخذ بالطريقة العيادية لأنها توفر للطفل حرية التعبير عن تصوراته
وأفكاره بعيداً عن أي تدخل أو ضغط أو إيحاء. ومن هنا يجيء حرص بياجيه على
أن تكون تقنيات ومضامين الاختبارات المخصصة للأطفال قريبة من نشاطهم
اليومي والعادي، وأن تعتمد، بالتالي، على الحوار الذي يطرح الفاحص أثناءه
أسئلة تتعلق بمختلف الظواهر الطبيعية والاجتماعية المحيطة بهم، ويفسح
المجال أمامهم للإجابة عليها بكل حرية. كأن يسألهم: كيف تتشكل الغيوم؟ كيف
يسقط المطر؟ من أين يتكون الحلم؟ ما هو القمر؟ لماذا يطفو القارب على سطح
البحر؟ هل عندك إخوة؟... الخ. فإذا أجاب الطفل على السؤال الأخير، مثلاً،
بـ"نعم"، طلب منه الفاحص أن يذكر عدد الأخوة. وفي ضوء إجابة الطفل على هذا
السؤال يمكن للباحث أن يطرح عليه سؤالاً ثالثاً ورابعاً... وهكذا دواليك.
ويعني هذا أن مدة الحوار وعدد الأسئلة لا يتحددان بشكل مسبق، وإنما
يتوقفان على إجابات الطفل.
ومن ناحية ثانية انطلق بياجيه في دراسته للطفل من المبدأ العام القائل
بوجود فرق نوعي بين ذكاء الطفل وذكاء الراشد. غير أنه لم يجسد هذا المبدأ
في أعماله المبكرة بشكل واقعي وصحيح عندما طابق كلام الطفل وتفكيره. ووجد
أن الأول، أي الكلام، يعكس أفعال الطفل الذهنية بصورة كاملة ومباشرة. وهذا
ما جعله ينظر إلى تحليل لغة الأطفال كوسيلة وحيدة تقربنا من منطق تفكيرهم.
إلا أنه عاد في الثلاثينيات إلى هذه المسألة واعترف بخطأ مطابقة الكلام
والتفكير، مؤكداً على أنه ليس هناك أساس علمي يدعونا إلى القول بوجود مثل
هذا التطابق الكبير بين الوظيفتين. كما أشار في الوقت ذاته إلى أهمية
الأفعال المادية والخارجية في تشكل البنيات العقلية.
ومما يلفت الانتباه في أعمال بياجيه الأولى أيضاً هو انحيازه للجانب
الاجتماعي واعتماده على الاندماج الاجتماعي لدى تفسيره للذكاء الإنساني
وتطوره. وفي هذا الشأن يمكن أن نشير إلى صلته بالمدرسة الاجتماعية
الفرنسية وتأثره الواضح بتعاليمها. فقد أفاد من نظرة دور كهايم إلى
التفكير والمقولات المنطقية كنتاج للتطور الاجتماعي ومحاولته ربط حالة
الوعي بالمرحلة التاريخية التي يمر بها التنظيم الاجتماعي. وأخذ عن ليفي
برول فكرته حول اختلاف أنماط التفكير البشري باختلاف أنماط النظم
الاجتماعية عبر التاريخ.
ولقد انعكست نزعة بياجيه الاجتماعية في مفهوم التمركز حول الذات
EGOCENTRISME الذي احتل موقعاً هاماً في أعماله المبكرة. فمن خلال
ملاحظاته وتجاربه الأولى توصل إلى أن كلام الطفل في المراحل الأولى من
حياته غالباً ما يكون موجهاً إلى ذاته وليس إلى الآخرين. وعنى بذلك أن
الكلام الذي يصدر عن طفل في الرابعة أو الخامسة من العمر، والأسئلة التي
يطرحها على أترابه أو على الكبار أثناء ممارسته لنشاط ما(اللعب، الرسم،
البناء والتركيب...) إنما يوجهها إلى نفسه، مع أنها تبدو من خلال صيغتها
ومعانيها وكأنها موجهّة إلى الآخر. إن الكلام المتمركز حول الذات، هو،
برأي بياجيه، وسيلة يتحدث الطفل الصغير بها عن نفسه دون أن يقصد التعرف
على وجهة نظر الآخر، أو يهتم به وبما يصدر عنه من استجابات.
على أن استعمال بياجيه لمفهوم التمركز حول الذات لم يقتصر على الكلام
وحده، بل شمل جميع تجليات النشاط النفسي عند الطفل الصغير. وبذلك يصبح هذا
الأخير-بالنسبة لبياجيه- مركزاً لا واعياً لعالمه الخاص. فهو غير قادر على
أن يضع نفسه مكان الطرف الآخر، وأن يفهم أن غيره يدرك الأشياء بصورة
مختلفة عما يدركها هو. إنه يخلط بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، بين شعوره
وبين الواقع، بين الحلم والحقيقة. ويدرك دوافعه الشخصية كأشياء. ويحول
رغباته الداخلية إلى علاقات سببية للظواهر الخارجية. ويفكر لنفسه ويتصور
أن ما يراه يدور حوله بأمره ويوجد من أجله.
وهكذا ينظر بياجيه إلى التمركز حول الذات كسبب للإدراكات والتصورات
والأحكام الخاطئة التي يتصف بها نشاط الطفل أثناء التجربة وفي الظروف
الحياتية العادية. ويعتبره خاصية أساسية للنمط الرمزي أو الاجتراري من
النشاط العقلي الذي يقابله نمط آخر، هو النمط الواعي أو الموجه. وما النمو
العقلي عند الإنسان، في اعتقاده، إلا عملية انتقال من النمط الأول إلى
النمط الثاني، أي من حالة اللاتمايز واللاوعي إلى حالة التمايز والوعي.
ولعل هذا الانتقال يعكس موقف بياجيه من التغيرات التي تعرفها علاقة الطفل
بمجتمعه خلال حياته. فقد نظر إلى الطفل في السنوات الأولى من العمر ككائنٍ
غير اجتماعي يتجه تدريجياً ومع تقدمه في السن نحو المجتمع للاندماج فيه.
وعندما يتحقق ذلك يصير كائناً اجتماعياً.
ومن خلال تقسيم النشاط النفسي للطفل إلى نمط رمزي وآخر واع نلمس تأثير
النظرية الفرويدية على موقف بياجيه المبكر. ويتبين ذلك على نحو أكثر جلاء
لدى وصفه لكل من النمطين. فقد وجد أن ما يميز النمط الأول(الرمزي) هو
الآلية العفوية والخيال وتلبية الرغبات الذاتية وقصور وظيفة الكلام. وأن
النمط الثاني(الواعي) يتصف بالغائية والواقعية والموضوعية والقدرة على
التعبير المنطقي.
إن أولوية العلاقة الذاتية بالعالم الخارجي التي يعتبرها بياجيه السمة
الأساسية لتمركز الطفل الصغير(3- 7 سنوات) حول ذاته تتجلى في المظاهر
التالية:
السحرية MAGISME: وفيها يتصور الطفل أن باستطاعته أن يمنح القدرة للأشياء الخارجية، وأن يبدلها من خلال حركاته وأقواله.
الإحيائية ANIMISME: فالطفل يخلع الحياة والشعور على كل ما يحيط به من
أشياء. فالشمس والنهر والجبل والكرسي والحجر وغيرها تتحرك لأنها تريد ذلك.
وهي تسمع وتبصر وتفرح وتحزن وتتألم لأنها تملك عيوناً وآذاناً وأطرافاً
وكل ما يملكه هو.
الاصطناعية ARTIFICIALISME: وتعني أن الطفل ينظر إلى الأشياء والظواهر
المحيطة به على أنها من صنع قوى جبارة(الله أو كائنات بشرية أو حيوانية
عملاقة)، أو أنها هي التي صنعت نفسها بنفسها. ويعتقد بأن ذلك إنما يحدث من
أجله.
وتكشف هذه المظاهر(الخصائص) عن سيطرة الفهم الذاتي للعالم عند الطفل على
الفهم الموضوعي الذي هو سمة النشاط الواعي عند المراهقين والراشدين.
وتبعاً لتصور بياجيه فإن طفل هذه المرحلة يفتقر إلى الأفعال التي تمكنه من
الوقوف على العلاقات السببية بين الوقائع والحوادث الخارجية، وتفسير
التغيرات التي تطرأ عليها. فتصوراته وأحكامه تتشكل تحت التأثير المباشر
للصفات الخارجية لتلك الوقائع والحوادث ونتائجها وما تخلفه من آثار على
جهازه الحسي. ولإبراز هذه الخاصية يعرض بياجيه مقتطفات من حواراته من عينة
الأطفال الذين أخضعوا لاختباراته. وفيما يلي إجابات طفل في السابعة من
العمر على بعض الأسئلة المتعلقة بموضوع التفكير:
"بياجيه: هل تعرف ماذا تعني كلمة فكر؟
الطفل: نعم!
بياجيه: هل تريد أن تفكر في بيتك؟
الطفل: نعم
بياجيه: كيف تفكر؟
الطفل: بالفم
بياجيه: هل تقدر أن تفكر وفمك مغلق؟
الطفل: لا
بياجيه: أغلق فمك وفكر في بيتك. هل تفكر؟
الطفل: نعم
بياجيه: إذن كيف تفكر؟
الطفل: بالفم..."(يعقوب، 1973، 27).
وهذا مقطع ثانٍ من حوار بياجيه مع طفل في الرابعة والنصف من العمر:
بياجيه: هل عندك إخوة؟
الطفل: نعم. واحد،اسمه جيرالد.
بياجيه: وجيرالد، هل عنده إخوة؟
الطفل: لا. أنا وحدي عندي إخوة.
ويتصور بياجيه أنه مع نمو الطفل تنحسر خاصية التمركز حول الذات لتفسح
المجال أمام تكون التصورات الموضوعية لديه وظهور الفهم المنطقي لما يحيط
به من أشياء وما يجري حوله من حوادث. وبفضل هذه التشكيلات الجديدة يصبح
الطفل قادراً على تحديد الظواهر والأفعال عن طريق ربطها بأسبابها وإدراك
العلاقات المتبادلة القائمة بينها.
ويبقى أن نشير إلى أن ما قاله بياجيه في سنوات نشاطه الأولى حول التمركز
حول الذات لم يكن فاصلاً أو نهائياً. إذ أنه رجع إلى هذه المسألة وأدخل
تعديلات على وجهة نظره في هذا المفهوم بعد أن رأى أن عملية الاندماج
الاجتماعي لا تنحصر في إطار أو نمط أو اتجاه واحد من العلاقات بين الطبيعي
والاجتماعي(الفرد والمجتمع)، بل إنها تشمل أنماطاً متعددة واتجاهات متنوعة
لتلك العلاقات. وأشار فيما بعد إلى أنه لم يكن يعنى بمصطلح "التمركز حول
الذات" سوى مرحلة معينة من مراحل النمو العقلي والمعرفي عند الطفل.
ومهما قيل عن هذه المرحلة من نشاط بياجيه ومؤلفاته فيها، فإنها لم تكن-
باعتراف بياجيه نفسه- أكثر من تمهيد أو مقدمة للمراحل التالية. ولهذا فإنه
لم يول أعماله خلالها اهتماماً خاصاً مثلما كان شأنه مع أعمال اللاحقة.
وتحمل السنوات ما بين 1925 و 1929 أهمية كبرى في تبلور الفكر السيكولوجي
عند مؤسس مدرسة جنيف. فأثناءها انتقل من تحليل التفكير الكلامي إلى البحث
المباشر للنشاط الفكري. ووجه اهتمامه بصورة رئيسية نحو دراسة نمو الذكاء
في مرحلة الطفولة المبكرة. وسعى من وراء بحوثه الميدانية خلال هذه السنوات
إلى الإجابة على جملة من الأسئلة المتعلقة بإدراك الطفل للأشياء واستمرار
تصوره لها أثناء حركتها في المكان وغيابها عن ساحته البصرية، وكذا تحديد
الخصائص الوظيفية لتنظيم الذكاء في المرحلة الحسية-الحركية، وعلاقة النشاط
العقلي في المرحلة ما قبل الرمزية بالمراحل التالية. وقد توجه نشاطه في
هذه الفترة بمجموعة من المؤلفات هي: "ولادة الذكاء عند الطفل"(1936)
و"بناء الواقع عند الطفل"(1937) و"تشكل الرمز عند الطفل"
(1946).
وعلى نفس الطريق خطا بياجيه خطوة أخرى تمثلت في قيامه بسلسلة من الدراسات،
بدأها عام 1929 وأنهاها عام 1939. واستكمل بها تحليل ذكاء الطفل في
المرحلة المبكرة من خلالها تناوله لهذا الموضوع عند الأطفال الأكبر سناً.
وقد تمكن من بناء تصوراته حوله بالاعتماد على معطيات تحليل نشوء العدد
وتكون مفهوم الكم عند الأطفال. كما صاغ أفكاره الرئيسية حول العمليات
الذهنية على أساس المادة التجريبية التي تناولت تطور مفاهيم الثوابت
الفيزيائية(الاحتفاظ بالسوائل والكتلة والوزن والطول). ولعل أهم ما كتبه
في هذه المرحلة هو "تكون العدد عند الطفل" –بالاشتراك مع شمينسكا-(1941)
و"تطور الكم عند الطفل"- بالاشتراك مع انهيلدر-(1941) و"علم نفس الذكاء"
(1947) و"المنطق وعلم النفس"(1953) و"الأصناف والعلاقات والأعداد"
(1942) و"بحث في المنطق"(1949).
والحق أن هذه الأعمال تؤلف مرحلة متميزة من مراحل العمل العلمي لبياجيه.
فقد أكسبت نظرته إلى عمليات التفكير عند الطفل صبغة جديدة أفاد منها، فيما
بعد، علم نفس النمو وعلم النفس التربوي المعاصر. والفضل في هذا لا يعود
إلى مواصلة دراسة النشاط الذهني وتمييز مرحلة العمليات المشخصة من بين
المراحل التي يمر بها هذا النشاط فحسب، بل وإلى بناء نظرية منطقية تفسر
عملية الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى. فعلى الرغم من الصعوبات التي
تواجه الباحث في هذا الميدان، فقد تصدى بياجيه-كعالم نفس- لهذه المهمة
الصعبة والشائكة، وقام ببحوث خاصة لتأتي دراسته مثالاً للشمولية والدقة
والعمق.
أما المرحلة الرابعة من نشاط بياجيه العلمي فإنها تمتد من عام 1940 حتى
عام 1955 وتتميز بكثرة البحوث الميدانية وغزارة الإنتاج. فقد نشر بياجيه
خلالها حوالي 16 كتاباً، أهمها: "ست دراسات في علم النفس"(1964) و"من منطق
الطفل إلى منطق المراهق"(1955) و"تطور مفهوم الزمن عند الطفل"(1946)
و"مفهوما الحركة والسرعة عند الطفل"(1951) و"تكون فكرة الصدفة عند الطفل"-
بمشاركة أنهيلدر-(1951) و"تكون البنى المنطقية"- بمشاركة أنهيلدر- (1959)
و"الهندسة التلقائية عند الطفل"- بمشاركة أنهيلدر وشمينسكا- (1948).
وتبرز عناوين هذه المؤلفات أن بياجيه درس في هذه المرحلة النمو العقلي في
شتى مراحل الطفولة(المهد، الطفولة المبكرة، الطفولة المتأخرة، المراهقة).
فقد أخضع للبحث والتحليل تكون مفاهيم الحركة والسرعة والصدفة والمكان عند
الطفل على قاعدة "العمليات المنطقية للذكاء". وتناول أيضاً موضوع الإدراك
وعلاقة بنيته بالبنيات الإجرائية للتفكير. كما تعرض لعلاقة المنطق بعلم
النفس. وفي هذا الصدد وجد أنه إذا كان المنطق يهتم بالتحليل الصوري
للمعرفة، فإن الإبستمولوجيا تبحث في المعرفة من جانب العلاقة المتبادلة
بين الذات والموضوع. وآية ذلك أن بياجيه يقيم ضمن إطار النظرية
الإبستمولوجية التكوينية علاقة جدلية بين الذات والموضوع(S?O). وهو ما
يترتب عنه نشوء الفعل الذي يعتبره بياجيه مصدر المعرفة والنمو النفسي.
وعلى أساس هذه العلاقة أيضاً يتكشف الموضوع وتتجلى خواصه بشكل تدريجي أمام
الطفل عن طريق اللاتمركز DECENTRISME الذي يحرر المعرفة من كل خداع خارجي.
ولقد كان الاهتمام الكبير الذي أولاه بياجيه لدراسة النمو العقلي والمعرفي
عند الطفل بالاستناد إلى العلاقات المنطقية والرياضية والنظرية والمعرفية
وراء تأسيس مركز عالمي للأبستمولوجيا التكوينية EPISTEMOLOGIE GENETIQUE
عام 1957 في مدينة جنيف.
وتتمثل المهمة الأساسية لهذا المركز في تطوير الأفكار الأبستمولوجية
التكوينية والعمل على حل المشكلات السيكولوجية والمعرفية والمنطقية
واللغوية الملحة. وقد انضم إلى هذا المركز اختصاصيون معاصرون في ميادين
علم النفس والمنطق واللغة.(*)
وخلال المرحلة الأخيرة التي استمرت منذ عام 1955 حتى عام 1980 عمل بياجيه
على ضبط نظريته وتنظيم آرائه وأفكاره عبر التعديلات والتنقيحات التي أظهرت
خبرته وتجاربه ضرورة إدخالها. ودأب على رسم طرائق وأساليب تطبيقاتها في
المجال التربوي والتعليمي. كما قام بإثراء وتعميق قواعد نظريته في ضوء
معطيات المعرفة العلمية الحديثة. وعرض ما انتهى إليه حول هذه القضايا في
كتب ومقالات ومداخلات عديدة، أهمها: "علم نفس الطفل"(1956) و"علم النفس
والتربية"(1969) و"علم النفس والإبستمولوجيا"(1970) و"التذكر والذكاء"
(1968) و"الأبستمولوجيا وسيكولوجية الوظيفة"(1968) و"الأبستمولوجيا
التكوينية والبحث السيكولوجي"(1957) و"البنيوية"(1968) و"الأبستمولوجيا
التكوينية
(1970) و"البيولوجيا والمعرفة"(1967).
اعتمد بياجيه في صياغة نظريته على المعطيات البيولوجية والعلاقات
المنطقية- الرياضية، ومحاولته التوفيق بين السلوكية والغشتالتية والتحليل
النفسي الفرويدي. واستطاع أن يضافر بين هذه المصادر في نسيج فكري أصيل
ومنظم ومتسلسل يختلف بصورة جذرية عما قدمه أسلافه من علماء النفس. فقد أكد
منذ العشرينيات على أن التغيرات التي يشهدها الطفل في مراحل نموه تتسم
بالنوعية. والتمس الميدان ليجمع البراهين من خلال بحوثه فيه. ووجد أن
المعارف والخبرات التي يكتسبها الطفل والدور الذي يلعبه المحيط ترتقي
بتفكير الطفل من حالة اللاوعي والذاتية إلى حالة مختلفة نوعياً، وهي
الحالة الواعية والموضوعية والمنطقية.
وفي تلك الأعوام التي كان بياجيه يقيم نتائج دراساته الأولى ويشرع فيها
بالدخول إلى مرحلة جديدة وهامة من حياته العلمية، كان الحوار والجدل بين
السلوكية والغشتالتية قد بلغا ذروة حرارتهما. ولئن اكتفى بياجيه في
البداية بدور المراقب المهتم بذاك الحوار والجدل، فإنه تحول- الآن- إلى
واحد من المحكمين الذين سجلوا آراءهم فيما كان يدلي به كل من الطرفين
وثبتوا أحكامهم فيها عبر إنشاءاتهم الفكرية. فما أعجب بياجيه من السلوكيين
هو تأكيدهم على الفعل(الاستجابة) ودوره في بناء السلوك. ومن الغشتالتيين
تقديمهم للحياة النفسية في صيغتها الكلية. ولكنه، من جانب آخر، انتقد
السلوكيين لأنهم أنكروا وجود البنية الداخلية النفسية. وعاب على
الغشتالتيين نظرتهم السكونية والثابتة إلى نشاط الوعي. وقد انطلق في تحديد
موقفه من النظريتين: السلوكية والغشتالتية على نحو ما تقدم من النظرة
البيولوجية المعاصرة التي ترتكز على خاصية البنائية والكلية التي يتصف بها
نشاط الكائنات الحية في تفاعلها المستمر مع الواقع الخارجي. ولذا فهو، وإن
اتفق مع الغشتالتيين حول فكرة الكلية، فإنه يختلف معهم في النموذج الذي
تطبق هذه الفكرة من خلاله. فبينما يتخذ الغشتالتيون من الفيزياء نموذجاً
لهم، يسعى بياجيه لتطبيق النموذج البيولوجي على مستوى النفس بكل ما يحمله
هذا النموذج من مفاهيم وقوانين. وتبعاً لذلك فإن عملية البناء على المستوى
العضوي والنفسي، كما يتصورها بياجيه، هي النشاط الدائم والمستمر الذي يقوم
به الكائن الحي(الإنسان) لمواجهة التغيرات والمشكلات التي يطرحها المحيط
الخارجي وإعادة التوازن معه. ولما كان من المستحيل أن يكف المحيط الذي
يتصف بغنى عناصره وظواهره وتشابك علاقاتها بعضها ببعض عن طرح المشكلات،
فإنه ليس بالإمكان تصور نهاية لهذه المواجهة، وبالتالي فإن على الإنسان أن
يتزود بالأدوات والوسائل التي تمكنه من الصمود وتضمن له البقاء.
إن الفعالية التي يبديها الإنسان خلال تعامله مع محيطه المادي هي التي
تطور بنياته المعرفية، مثلما تؤدي إلى نمو أنسجة الجسم وأعضائه وأجهزته.
ولعل في هذا الفهم لعلاقة الذات والموضوع وما ينجم عنها على صعيد
الذات(النمو النفسي والنضج العضوي) يكمن خلاف بياجيه مع السلوكيين. ففي
حين يتوقف هؤلاء عند حدود التغيرات الحسية والحركية التي تحدثها أفعال
الطفل مع الموضوعات الخارجية، يذهب بياجيه إلى اعتبار أن تلك التغيرات
ليست إلا جزءاً من البنيات النفسية التي تتشكل بفضل هذه الأفعال. وبشكل
أكثر تحديداً فإن بياجيه يؤكد، خلافاً للسلوكيين، على وجود بنيات عقلية،
داخلية. يكتسبها الطفل نتيجة تطور أفعاله مع الموضوعات الخارجية وتناسقها
وانتظامها. وهنا يطرح مفهوم الاستدخال الذي يعني انتقال الأفعال الخارجية،
المادية وتحولها إلى بنيات داخلية، نفسية.
وزيادة على ذلك فإن بياجيه يعارض السلوكية فيرى أن الطفل لا يولد كقطعة من
العجين يشكلها المحيط على النحو الذي يشاء، وإنما يكون مزوداً ببعض
الأفعال الفطرية التي تمكنه من تلبية حاجاته الأولية. ويعتبر هذه الأفعال
القاعدة التي يتكون عليها نشاطه النفسي بصورة متدرجة ومنظمة ومستمرة.
ومما ذكرناه يتبين أن بياجيه ينظر إلى النمو كعملية تفاعل مستمر بين الفرد
ومحيطه الخارجي، وليس حاصل جمع الخبرات والمعارف التي يكتسبها الطفل عن
الأشياء والظواهر الخارجية، أو مجموعة أفعال مقررة سلفاً ومثبتة في عضويته
على شكل برنامج موروث. ولوصف آليات هذه العملية المعقدة يلجأ بياجيه إلى
نقل بعض المفاهيم البيولوجية إلى ميدان علم النفس. وهذه المفاهيم هي:
التمثل(الاستيعاب) ASSIMILATION: ويعني به النشاط الذي يقوم به الفرد في
الوسط الخارجي بمساعدة ما يملكه من بنيات وخطط والذي يفضي إلى إدماج بعض
عناصر هذا الوسط في تلك البنيات والخطط.
المواءمة ACCOMODATION: ويقصد بها تلك التغيرات التي تطرأ على البنيات
والخطط التي يملكها الفرد مما يجعله قادراً على التكيف مع المواقف الجديدة.
وينظر بياجيه إلى هاتين العمليتين على أنهما متكاملتان. فكل واحدة منهما
هي سبب في ظهور الأخرى ونتيجة لها في نفس الوقت. وعن طريقهما يستطيع الطفل
أن يحقق التكيف المضطرد مع المحيط.
التكيف ADAPTATION: وهو إمكانية الكائن الحي على مقابلة الموضوعات
والأشياء الخارجية بالسلوك المناسب. ويستمد الإنسان هذه الإمكانية من
عمليتي التمثل والمواءمة. بل إن بياجيه يذهب إلى التكيف هو التوازن بينهما.
التنظيم ORGANISATION: وهو نوع من التناسق بين أفعال الفرد في عمليتي
التمثل والمواءمة. وتساعد هذه العملية على بقاء البنيات العقلية في حالة
الانتظام والانسجام على امتداد مراحل النمو وتعاقبها. ويرتبط التنظيم
بالتكيف في علاقة وظيفية تكاملية مثلما يرتبط التمثل بالمواءمة. فإذا كان
التكيف يشير إلى علاقة الفرد بمحيطه الخارجي وتوازنه معه، فإن التنظيم
يعبر عن انتظام الأجهزة والبنيات الداخلية والتوازن القائم فيما بينها.
التوازن EQUILIBRATION: وهو الهدف الأخير الذي تنزع إليه عناصر منظومة
الفرد- البيئة. ويجد بياجيه أن هذه العناصر يتفاعل بعضها مع بعض على نحو
منسجم ومتكامل. وأي تغير يلحق بأحدها يستدعي-بالضرورة- تغير العناصر
الأخرى. ولذا فإن العلاقة بين الذات والموضوع عبر تطور هذه المنظومة هي
التعبير الحقيقي عن عملية التوازن التي ينشدها النمو. وعليه فإن مهمة
الباحث، في نظر بياجيه، هي تفسير جميع أشكال السلوك بوصفها ضرباً من
التوازن. وهذا الأخير هو التعبير عن علاقة التكوينات والبناءات النفسية.
ولما كانت هذه العلاقة، برأي بياجيه، هي علاقة جدلية، يتحول طرفاها
ويتطوران باستمرار، فإن التوازن يعني الدينامية والحركة النشيطة والدائمة
التي يتسم بها السلوك. وهذا ما يتمثل في ظهور مضامين جديدة لذكاء الطفل
عبر التفاعل المستمر بين القديم والجديد. وهو ما عناه بياجيه حين قال:
"... يتدخل في النمو العقلي عامل أساسي، هو التوازن. فعلى أي اكتشاف أو أي
مفهوم جديد أن يتوازن مع سابقه. ولابد من تنظيمات وتعويضات للوصول إلى
التماسك بين القديم والجديد. إنني أستعمل كلمة "التوازن" ليس بالمعنى
الجامد، بل أعني بها التوازن المتدرج. وهو التوازن الذي يعتبر تعويضاً
للاضطرابات الخارجية عن طريق استجابة الفرد"(PIAGET, 1972, 34).
وهكذا فإن الاختلال في التوازن بين الفرد ومحيطه الخارجي وما يعتريه من
اضطرابات وتوترات يدفع بالطرف الأول إلى القيام بالحركات والأفعال التي
تعيد التوازن وتزيل الاضطرابات والتوترات. ويعتقد بياجيه أن التوازن لا
يتحقق إلا في المرحلة الأخيرة من النمو. ذلك لأن التعويض الذي يتحدث عنه
لا يتم إلا من خلال العمليات المنطقية وإدراك العلاقات العكسية التي يظل
النشاط العقلي للطفل يفتقر إليها طيلة السنوات التي تسبق تلك المرحلة، أي
مرحلة الذكاء المجرد أو المنطقي.
ومن أركان النظرية الأبستمولوجية التكوينية- كما أشرنا- اهتمام صاحبها
بالدراسات المنطقية واعتماده على العلاقات المنطقية والرياضية كمعايير
لنمو النشاط الذهني لدى الطفل. ولقد وجد بياجيه أن مشتملات هذا النشاط هي
البنيات STRUCTURES والخطط SCHEMES.
ويقصد بالمفهوم الأول مجموعة الأفعال أو العمليات المترابطة والمنتظمة
التي يمتلكها الطفل في مرحلة من مراحل نموه. وبهذا يريد أن يؤكد على وجود
بنيات ذات مستويات متفاوتة تكون مسؤولة عن تحديد وتوصيف مراحل النمو.
أما الخطط فهي الأساليب والطرائق التي يتبعها الطفل في التعامل مع موضوعات
العالم الخارجي وأشيائه. ويميز بياجيه بشكل أساسي نوعين من الخطط. ففي
النوع الأول يستجيب الطفل بصورة عفوية وتلقائية على ما يدور حوله. وفي
النوع الثاني تكون الاستجابة غائية ومقصودة. يقول بياجيه: "الخطة هي كيفية
أو طريقة في العمل تتبع أحياناً بصورة تلقائية، وأحياناً بصورة موجهة
للتصدي للمشكلات"(DASEN, 1972, 277).
ووجد بياجيه أنّ تكوّن الخطط يتم بصورة تدريجية ومتصاعدة بفضل عملية
التمثل. فالخطط الجديدة تتشكل على أساس الخطط القديمة وتندمج فيها مؤلفة
خططاًأكثر تطوراً وقدرة على مواجهة المواقف المستجدة التي يعززها الواقع
الخارجي. وتعدّ الخطط الانعكاسية الفطرية SCHEMES REFLEXS الخطط القاعدية
التي تتكون من خلالها وتندمج معها الخطط الانعكاسية الأولى التي يتمثلها
الطفل عبر نشاطه الحسي- الحركي مع الأشياء والأشخاص. وفي هذا يقول بياجيه
بأن الخطة: "لا تعرف بداية مطلقة أبداً. ولكنها تنتج دوماً عن طريق
التمايزات المتتابعة من خطط سابقة تعود في أصولها إلى
المنعكسات الفطرية أو الحركات التلقائية الأولية..." (BIOLOGIE ET CONNAISSANCE, 1967, 26).
وعلى هذا النحو يتحدد مسار التطور العقلي بالتغيرات الخارجية(الحسية
والحركية) والداخلية(التصورات، عمليات التفكير) التي تطرأ على سلوك الطفل
ونشاطه. وتتجسد هذه التغيرات، في نظر بياجيه، في نشوء البنيات والخطط
وارتقائها. فطبيعة هذه البنيات والخطط ومحتواها واتجاهها تقرر نوعية
ومستوى مرحلة النمو العقلي.
لقد أعلن بياجيه منذ البداية معارضته الشديدة لمحاولات منطقة علم نفس
التفكير التي أقدمت عليها بعض المذاهب في القرن التاسع عشر. كما انتقد
تحليل النشاط العقلي عند الأطفال بمنطق الكبار. بيد أن موقفه هذا لم يكن
موجهاً ضد توظيف قوانين المنطق والعلاقات المنطقية في تفسير العقل بصورة
مطلقة بقدر ما كان يستهدف المنطق الصوري. ولقد أوضح ذلك من خلال دعوته
المبكرة إلى ربط علم النفس بالمنطق، والجمع بين التحليل السيكولوجي
والتحليل المنطقي. ومع أن هذه الدعوة لم تجد صدى في أعماله المبكرة. إلا
أنها شغلت حيزاً هاماً في إنتاجه اللاحق. وتتلخص الإشكالية التي تصدى
بياجيه لحلها فيما إذا كان هناك تناسب بين البنيات المنطقية والبنيات
النفسية. ولقد أتت إجابته على هذا التساؤل عبر الكثير من أعماله لتبرهن
على وجود هذا التناسب وتؤكد على إمكانية، بل وضرورة تفسير النمو العقلي
ووصف تجلياته على أساس المنطق الرياضي.
ومن منطلق التكون التدريجي للبنيات والخطط العقلية يميز بياجيه عدة مراحل
وفترات وأطوار لنمو النشاط العقلي عند الطفل. ونحن، إذ نستخدم هذه
المفاهيم(مرحلة، طور، فترة)، فإننا نود أن نشير من خلالها إلى تداخلها،
وإلى غياب الحدود الفاصلة بينها أحياناً في أعمال بياجيه. فلكي يعبر عن
مستوى من مستويات النمو يستعمل مفهوم "الفترة" تارة، ومفهوم "المرحلة"
تارة أخرى. كما يستعمل مفهوم "المرحلة" في بعض مؤلفاته ليعني به جزءاً أو
طوراً من الأطوار التي تغطي فترة من فترات النمو... وهكذا. وقد نجم عن ذلك
ما نلاحظه لدى قراءة أعمال بياجيه من تفاوت في عدد مراحل النمو وعدد سنوات
كل واحدة منها. ولعلنا نجد في كتاب ر. دروز R. DROZ وم. راهمي M. RAHMY
"قراءة بياجيه" أو كيف تقرأ بياجيه؟ LIRE PIAGET عرضاً واضحاً ومفصلاً
لتصورات بياجيه حول مراحل نمو العقل عند الطفل؟ اختزلاه في الجدول
التالي:(DROZ ET RAHMY, 1972. 59).
ومهما يكن من أمر فإن هناك ما يشبه الإجماع فيما كتبه المؤرخون والباحثون
على وجود أربع مراحل رئيسية للنمو العقلي والمعرفي عند الطفل يكون بياجيه
قد حدد معالمها وحدودها وخصائصها بدرجة مقبولة من الدقة والوضوح. وهذه
المراحل هي:
1-المرحلة الحسية- الحركية. وتستمر منذ الولادة حتى نهاية السنة الثانية من العمر.