العقل النقدي والمحاكاة
د . جبار حسين صبري
لقد ادرك العقل النقدي ابتداءا صورتين تفاضلت احداهما على الاخرى : الصورة التي انطبعت في ( عالم المثل ) ، تلك الحقائق المطلقة ، المفاهيم الصافية ، الخالصة ، والصورة التي انطبعت بالعالم الطبيعي المحسوس ( المادي ) . ان في هاتين الصورتين تدليل مكشوف يرمي الى : ( ان الوعي اسبق الى الوجود من المادة ) . فمنذ تلك البواكير في انشاء العقل النقدي استلزم لنفسه تصنيف مهامه في ضوء تصنيف متعال يسبق اشتغاله واشتغال مبضعه في المسائل الانسانية / المعرفية - العلمية وانتشارها . بل تغلغلها في مختلف الحقول الفنية او الادبية . ذلك التبكير الذي عمل على تحديد الموضع الذي يتربع عليه المراقب / الناقد / المنظر / المفكر / الفيلسوف ، وعمل ايضا على تبئير معطياته .
ان افلاطون قد زرع ذلك الفصل : فصل الوعي عن التجربة . إذ يكون الاول الاسبق الذي له محدداته واشتراطاته القبلية التي من خلالها يسعى المراقب / الناقد الى ارضاء تلك الشروط بما يضمن بقائها متعالية ، وبما يضمن اضفاء نزعة افبال الطرف المهمش دهورا طويلة ان يلعب بذات المساحة والقدر الذي اناط به الوضع الشاغل له وكونه ثانيا ثانويا في هذا الاختبار .
يختبئ الوعي وراء التجربة . الاختباء الذي يتصدر به الوعي سنام الافضلية . هذا السنام الذي من مطاريحه ان جعل القصد اساسا احاديا لانتاج الخطاب من جهة ، وجعل الاخر القابع في ضفة السمع او الاستلام - عبر مسميات شبكة الارسال - مستهلكا لا شأن له الا ان يقلّد او يحاكي القصد من جهة ثانية .
لذلك ان جعل كل ما هو موجود في الوجود الطبيعي غرضه الاول تمثيل العالم الاخر ( الفوقي ) : ذلك الوعي المتربص في الاعلى غير الموجود تماما ضمن ملكة او تأشيرة الحواس المباشرة ، الوجود المشتق ، الثانوي ، المقعد في الهامش ، اللاهث وراء سيّده الاصل ، المرجع ، النهائي . ذلك الوعي السابق ، القبلي ، ، البعيد ، المنفصل الذي اذا استطلب استدعاؤه تشوّه ذلك المستدعى ، فقدت صورته الكثير من ملامحها ، وان الكذب او الزيف سيبدو القامات العالية والمنصات العريضة لتلك الصور وهاتيك الملامح . في عدم استكمال المستدعى ينفرض النقص الذي يلازمه . ان عالمنا المادي غاية في النقص ، فهو سالب لكونه الفاقد الاكبر لاصله واصل موجوده وان كينونته عائمة في حاجتها الماسة لذلك الوعي المنفصل عنها .
المراهنة على تصنيف الكون جاءت بمراهنة ثانية اشتمل التصنيف فيها على الفنون ، ولما كان العالم الادنى / الاضعف ، الثانوي قد انوجد ليقلد او يحاكي العالم الاعلى ، الاقوى ، الاصل، كان المبدأ الخارج من مدار هذه الرؤية هو مبدأ المحاكاة . ان افلاطون او القرن الرابع قبل الميلاد يعدّ جينا ، وفتحا ، ونقدا لهذا المبدأ ، وعليه .وجد افلاطون ما يمكن ان نسميه : مثلث افلاطون في التحاكي على فرض تضليع ذلك المثلث : ضلع1 : كرسي عالم المثل .
ضلع2 : كرسي عالم الطبيعة .
ضلع3 : كرسي عالم الفن ( الرسم ) . يعدّ الضلع الاول حقيقة مطلقة ، انه تشكيل لذلك الكرسي : مجرد ، خالص ، دائم ، غائب عن الوجود ، بينما الضلع الثاني هو امتثال مادي لذلك المجرد الغائب . انه رهان تجريبي يمتثل في طاعة رهان نظري ، انه ذلك الحاضر المهمش في حضوره . لكن الضلع الثالث ادنى منزلة من الضلع الثاني بوصفه يعيد انتاج المنتج بالمادة فهو يبتعد بخطوتين عن الجوهر . اذن ، هناك تراتب في الاضلاع . افضلية ، مركز ، ومن ثمّ هناك هامش الهامش . قدر الفنان / الشاعر في مركب الفن / الادب ان يكونا في الضلع الاخير . اي في هامش الهامش نفسه . ان المبدع ، اديبا ، فنانا هو كائن مشتق عن مشتق عن اصل ، طالما انه ارتضى بقناع الرسام او قناع الاديب ( الشاعر ) ذلك لان في مبدأ عمله : عمل الفنان او الشاعر تنوجد مرآة هدفها الاساس عكس ما يقدمه الشاعر / الفنان على الطبيعة التي بدورها تعكس ما فيها من كينونات حاضرة على عالم غائب يعدّ مثالا نموذجيا حقيقيا ، ثابتا لا تنوشه التشوهات او تطرأ عليه التغيرات . لن يكون الناقد ازاء تموضعاته في الرؤية اكثر مما تموضع عليه المبدع في هذا المشوار ، في طريق مثالية افلاطون التي تمركز فيها الخارج ، الممنطق ، انه تجرد عن كل اضافة ، عن كل ما يمكن ان يشغل المبدع او الناقد في تحسين دوره وتأكيد فردانيته واضفاء الزيادة او النتقصان على كل مادة يصوغها بفنه ومخياله .
طالما كان الاصل لا يتحقق وجوده مرة ثانية . لا يجوز استنساخه دون افتقاد الاصلية فيه ، فان ذلك مؤداه ادخال التفاضل ، ادخال مسألة انكفاء طرف في الاهمية وارتفاع طرف اخر ، ولهذا ستجيء سلسلة بعدية قائمة على ثنائيات المتضادات والتي اسهمت بدورها في تحديد مسار العالم . اعلى مقابل ادنى ، دال مقابل مدلول ، حاكم مقابل محكوم ..الداخل في التجربة هو الذي تمرآى كثيرا حتى فقد الاصل تماما ، انه يعاني من اسفل وجوده الى شهاب المعنى ، الغائب تماما ، لذلك لن تكون ثمة حاجة الى من يقدم نفسه قربانا للمرآة . ان عمل الفنان الاديب اشبه بعمل المرآة نفسها ، انها مطوّحة بعكس ما يقع عليها . مطوّحة بنسيان ارادتها ، ذلك النسيان التام الذي سيؤطر وجود او عمل الفنان / الاديب بالهامش .
ان تقسيمات افلاطون الكونية تماثل تقسيمات تعادلها في التمحور والخطاب . فعالم المثل وعالم المادة يتساوق مع دافعين متضادين ، متغايرين ، وهما عالم العقل وعالم العاطفه . ليكون العقل بعالمه يعدّ الدافع النموذج ، المتعالي ، بكل عوالمه ومريداته بينما تكون العاطفه دافعا عوالمه ترتبط بالحاجة مع العالم العقلي . وسيكون الابتعاد عن العقل مرادفا للابتعاد عن الحقيقة ، الاصل ، المرجع ، الغياب ، التكامل . ان ذلك الابتعاد يشكل ، من زاوية اخرى ، رهانا لتأجيج الدافع الثاني المهمل والمسمّى عاطفة . ان عمل الفنان / الاديب مقرون بعمل المرآة من جهة ومقرون بشحذ والهاب نيران عواطف الناس . اولئك القرّاء العاطفيون المهوسون بمبدعين من اضرابهم من جهة ثانية .
في معادلة المحاكاة يرتسم الاتصال على النحو : المضمون/ عاطفة ? الشكل / عاطفة = المبدع 2. الشكل / عاطفة ? المضمون / عاطفة ? الشكل / عاطفة = الناقد 3. الشكل / عاطفة ? المضمون / عاطفة = المتلقى ازاء هكذا ترسيمة ينسحب الوجود والاعتبار والقيمة والفعل من المساحة المرصودة التي يلعب او يطرح الناقد من خلالها دوره ويمارس كيانه وينشط اداوته فيها . ويبقى المبدع وجها لوجه امام المتلقي ، وكلاهما يعملان على استمرار العاطفة واستدراجها الى الساحة ذاتها ، ولن يكون الاعتبار ذا فائدة لاي منهما طالما كان الدافع مغرضا بمسخ نفسه ، او باستساخ جمله المرئية عبر مرآة مشوّهة الملاح والصور . المشهد الكوني العام في رحلة المحاكاة ، من شأنه ان يذوّب المشهد الفني / الادبي الخاص فيبدو الاخير جزء مضمرا يحاول بجهد امكانه اللحوق بذلك الكل ، ليكون من بعد ، كل مرئي / مسموع يسقط بفلك الحواس ومجرّاتها ، استدراج شائه في الحضور ، يحطّ من قدر الجزء ويعلي من قدر الكل ، على اساس ان الجزء محمول بالتشوهات والثانوية وانعكاسية سيئة لكل متكامل ، محمول بالاولية الكبرى ، ذلك القبل الخارج الذي يتفاضل بخروجه وكله وموضوعه وغيابه على ذلك البعد الداخل الذي ينزوي بدخوله وجزئه وذاته وحضوره .
لكن ضوء المنفعة المتهافت والشاحب قليلا يتفاضل بنفسه عند ( افلاطون ) في ضوء المتعة والدفق الباحث لديه في الجوهر ، اسهم بفصل المتعة عن المنفعة واسهم بابداء تفضيلية الثانية على الاولى ، وهذا مغزاه الاعظم يتجلى برفض افلاطون لان يكون الفن للفن ، وهو الامر الذي سمعنا به بوق المناداة الافلاطوني في دعوى الفن الاخلاقي .
حمل الناقد زوادته وصار يبحث عن المنفعة التي يولدها المنجز الابداعي فنا وادبا وانبثق النقد الاخلاقي الذي يعنى بتأثير المركب : الادب / الفن على سلوك المتلقين وجاء مخاض الرصد : " ان التراجيديا تثير عاطفتي الخوف والشفقة حتى تجعل المتلقين اكثر ضعفا . انها ادنى منزلة . " ان الملحمة تثير عاطفة الاعجاب بابطالها . ان المتلقين يقلدون اولئك الابطال . وهي اعلى منزلة من التراجيديا . ولمّا استكمل افلاطون الناقد معياره وقيم المنتج بطريقته اطلق احكامه ، واشتمل الشعراء واضرابهم بالطرد والنفي والاقصاء من جمهوريته خوفا عليها من تجاوز هؤلاء على مهمات الاخلاق في المجتمع ، خوفا على المدينة / العقل ان يلوث صفاء سماواتها الريف / العاطفة . كان افلاطون ينقع الوجود بماء العقل ويعتقد فيه الكمال والاطلاق، بينما كانت تصوراته في العاطفة انها نيران تحرق الحقيقة والمثال . ريع القيمة في العقل والخسارة في العاطفة .
اراد افلاطون ان تتمحور تجربته الابداعية بمحورين متفاضلين ، متراتبين ، حاضرين يؤديان فروض الطاعة الى محور ، مثال ، غائب في علاقة يكون الاشتقاق فيها مثنى ويكون الاصل فيها واحدا . وهكذا :
- الكرسي المرسوم ، الحاضر ، المادة ، يحاكي ? مشتق .
- الكرسي الطبيعي ، الحاضر ، المادة ، يحاكي ? مشتق .
- الكرسي المثال ، الغائب ، المعنى ? اصل .
بات انهزام الذات امام الموضوع امرا مقضيا ، ان الخارج المتعالي الذي اوجد جبلّة للاشياء غايتها التشبه به قضى بامحاء الذات قدّام الموضوع والناقد في حلقة الاتصال ما بينه وبين الطرفين المتواجهين في لعبة الابداع : المبدع والمتلقي ، نسى كيانه واهملته التجربة ، وكان همّه الاوحد إعادة ما يريده المبدع من قول ، واعادة تأكيد تفاضلية العقل على العاطفة في مشروعها المشروط بالرؤية العامة . وبالنتيجة انطمست معالم العقل النقدي واقتصرت على وجود محدد لا يستطيع ان ينفذ من اطاره الا بمزيد من التقليد وارضاء الغائب . وهو تأكيد يساعد ، من وجهة ثانية ، على نفي وجود ذلك العقل في لعبة الاتصال والخطاب والتجربة ، لان تقدماته في العمل والتجربة تتساوى مع تقدمات المتلقي ولا تزيد عنها بشيء اكثر من ان تكون حارسة لنزوات الغائب ومستهلكة لنزوات المبدع .
حتى هنا يفتح ارسطو عين التقليد باوسع ما يكون عليه العقل النقدي بليغا فيكتفي باقل مما اكتفى به افلاطون في مسألة التحاكي . انه يقنن المحاكاة ويرفع عنها الغائب ليجعل التجربة في معترك دنيوي خالص اكثر مما هو استمالة نحو توجه اخروي خالص كما فعله افلاطون ، وهكذا استنزل التجربة الى العالم الارضي واهمل مؤثرات او تاثيرات العالم السماوي عليها ، وبلا غائب قرر ارسطو ترتيب المعادلة من جديد بمبدأ ارضي وحسب :الكرسي المرسوم ، الحاضر ، المادة . يحاكي ? مشتق - الكرسي الطبيعي الحاضر ، المادة ? اصل ينزلق ارسطو هنا بوهم مادي / تجريبي بحت ويستبعد من مشغله او مشرطه المثالي / الموضوعي على فرض ان الطبيعي متأصل اكثر مما هو تقليدي او استنساخي لذلك الطبيعي ، وفي هذا المنحى الجديد مناسبة توسع من حركة العقل النقدي وتمدّ العلامات الاجدى بتحديد صورة وشكل الناقد وموضعته في مساحة المنجز من حيث النظر بالدافعين وتاثيراتهما واثرهما في الحلقة الاتصالية : دافع العقل ودافع العاطفة .
اذن ، تموضع ارسطو في ارضاء التجربة بشقيها - كلا الشقين ماديين - التموضع الجديد الذي اضفى على اللعبة انتاج طرف قد اهمل انتاجه افلاطون : طرف الناقد ومبضعه ، إذ استطاع ان يكشف او يقدم اجلاء للمرآة ومبدئها . فبدلا من النقل الحرفي للطبيعة انوجد النقل النوعي لها . اي ان الاديب او الفنان لا ينقل الاشياء كما هي في الطبيعة . بل يستلّ من تلك الاشياء ما يناسب النقل.وبعبارة ثانية ان في التخصيص المتوافر في الطبيعة اشارة منمذجة للتعميم المتوافر وراءها .
يسافر ارسطو في شخصنة النموذج لا تشخيصه ويجعل امكان ايجاد او صناعة تلك الشخصنة اهم من كينونة مدارها التشخيصي الصرف ، لذلك هو ارسى اعتقاده بان الشاعر لا يحاكي ما هو كائن بقدر محاكاته لما يمكن ان يكون . ان الشعر وان كان مثاليا فهذا لا يعني انه نسخة تطابق للأصل من حياة الانسان .
وسفره هذا ادى به الى بلوغ اطروحة نقدية مايزته كثيرا حين افترض : 1 - ان الطبيعة ناقصة .
2 - الفن وسيلة موجبة لذلك النقص الحاصل في الطبيعة .
ولما كانت البشرية منقسمة على نفسها بين انموذجين متضادين : البشرية ذات أنموذج الشر والاخرى ذات انموذج الخير كان لزاما على من يحاكي ان يحمل اكثر من عين للمشاهدة والكشف ان يرى في عمق الرؤية مشكلات ثانية من شانها ان تحدد شكل الناقد فيها حين يجد الاخير نفسه في آن واحد قد انطوى على مبدع وناقد . الانطواء الذي سيجعل كل منجز ابداعي الضامن لتوافر الرائي الاكثر دراية في استنطاق مسارات فعل الانجاز فيكون الناقد المبدع اكثر وعيا من الاشرار بشرهم ومن الاخيار بخيرهم وهو ما شدّ ارسطو بالقول :( المستحيل الممكن خير من الممكن المستحيل ) .ادرك ارسطو تعظيم المدلول الغائب لا بدرجة التعالي التي اوجدها افلاطون ، ذلك التعالي الكبير الذي سيفصل الغائب عن الحاضر فصلا متكاملا لا عودة او التقاء بينهما . بل جعل الغائب متوافرا في الذهنية الفاعلة من حيث : ان الشاعر عنده لا يحاكي الاشياء الظاهرة ومظاهر الطبيعة وحسب ، وكونها مقدمة خارجية لا تتقابل مع مقدمة داخلية لديه ، وهذا التخارج شكّل موضوعة منفصلة يكون حجمها اجلّ قدرا من حجم الداخل / الانسان لكونه يشكّل بذاته ظلا لا غرض له الا محاكاة ذلك الاصل الغائب . ان في الفن قدرة ملامسة انطباعية تتعالق بذهنية الفنان ومفاهيمه المختلفة . لذلك بيّن لنا محاكاته انها تكشف فعل الانسان ولا تكشف الانسان بذاته ، لان الفعل ايّما فعل سيبدد لحظة استحضاره او جلبه الى حلبة المحاكاة سيكون بطريقة الانتقاء ، بطريقة سحب الجزء الخاص في ذلك الانسان الفاعل الحيوي النشط الذي يقلب ورقة الانسان ويطويها او يبسطها تبعا لقوة واهمية الفعل نفسها .
ان الجزء المنتقى محور اهتمام ارسطو ، فبدلا من النظر بالكليات التي نادى بها افلاطون اصلا للمعرفة والاخلاق والفن سيكون النظر بالجزئيات من اولى اهتماماته ، انه شكّل رحلة نقدية جديدة ساهمت بنوع امبريقي يدخل بتمفصل في حرارة الاجزاء وفواعلها ، مكوناتها اكثر مما هو عليه الجانب التأملي العقلي المجرد الذي استلهم الاشياء جميعا من مصاف المتعالي / الموضوعي الخارج عن مدارات التجربة والتجريب والمادة المنتقاة من هذا العالم او هذه الذات . درجة التساوي او التماثل بين طباع الناس وصفاتهم تمنح التراجيديا درجة التركيز على الفعل نفسه ، ذلك الذي اذا استزاد انتقاؤه استزاد نموذجه ستظل الدرجة في تركيز وتكثيف اعظم طالما كان الامر في التحاكي يبتعد عن الجوهر العام ويقترب من الفعل الخاص . اي ان الحدثية التي تتضمن الطباع ستقتطع من التاريخي الكلي وتكتفي بتاريخانيتها الخاصة حصرا وكلما اكتفى الحدث بذاته كلما تسيّد الجزء ، البنية في ساحة التفاضل وصار الانتصار للكينونة اولى منه للانتصار الى الجوهر . فمثلا ان الشعر لا يصور شجاعة بطل محدد انما يصور الشجاعة ممثلة بهذا البطل بشكل من اشكالها .
وبرغم ما آمن به ارسطو من مثل عليا متخارجة ، متعالية ، لها موضوعها المنفصل عن عالمنا البشري الا ان هذا الايمان لم يمنعه ان يكون مجربا اكثر او حميميا اكثر ازاء بنياته ، وهذا ما يمكن ان يجعله قد تموضع في البنية الداخلية سواء كانت على مستوى المظاهر المرئية او المظاهر المجردة التي تقبع في الذهن . وان كان بحثه عن غائب . جوهري ، فان فحوى ذلك البحث سيكون الانسان ، مادة وجوهرا في آن واحد . ذلك الذي حضر عنده بمقدار ما غاب والذي دخل بمقدار ما خرج والذي تجزأ بمقدار ما كان كليا . ذلك التقدير الوضعي المنطوي على محددات الدنيـا وعالمهـا السفلي اكثر منـه على محددات الاخرة وعالمها العلوي . والفارق يتضح جليا حين يفصّل ارسطو : 1 - الانسان بوصفه الداخل الذي ينقلب ويتغاير جسدا ومعنى ، وبالتالي كل مراحل الانتقاء التي ترصد وضعيته ستكون المادة الاوفر حظا في نمذجة وجوده وانطباعاته حول ذلك الوجود .
2 - الانسان بوصفه الخارج ، لكن خروجه المشروط بذهنه . اي بحجم التصورات المجردة عند الانسان ، وهذا يعني ان التراجيديا الاغريقية كلها كانت محاكاتها تبعا لرؤية ارسطو متموضعة بين دالها المباشر في الانسان / الفعل وبين المباشر في الانسان / الفكر .
ان المثال المتعالي عليه صار مثالا متدانيا فيه ، وللمرجع المشتغل ذهنيا في الانسان وقدرته على انتاج مفاهيمه اهمية لا تقل عن اهمية المرجع الخارج كليا عن محيط وقابليات الانسان نفسه ، لكن سعة تلك الاهمية ستضع مشوارا وتعين وجودا للناقد في استكشاف موطئ قدمه وبنيته وتصوراته وكنه مشاريعه وتجريباته وملاحقة سلسلة اثاره القبلية والبعدية ، الغائبة منها والحاضرة والتي سيرصد بها تاثيراتها على اخلاق الناس او متعتهم او فائدتهم بمواقف دقيقة تصدر من جوانيات الفعل نفسه .
بمعنى اخر يجد ارسطو نفسه ناقدا انزرع بقصد منه او من غير قصد في منطقى وسطى ترصد بمشغلها النقدي حجوم ونسب المسافة المتصلة / المنقطعة في الانسان . تلك التي ترى بمبضعها النقدي الفعل الدال المرئي الملموس المدرك حسيا ، وهو يخاطر او يغامر بظلاله في اعادة تمثيل الاصل عبر لعبة فنية محورها بالتراجيديا ، وهي تعمل على ارضاء معطى غائب ناشط بمدركه الذهني . وما بين شدّ المسافة بين دال الانسان ومدلوله في التراجيديا او ارخاء تلك المسافة سيهم الناقد نفسه ليرى الموضع الذي يشغله من جهة ، وامكان كشف الاخر على اساسات ثقافية / فنية / اخلاقية تفرض صناعاتها المعطيات السالبة او الموجبة في تحقيق الوجود الانساني برمته ضمن لعبة مدارها العقل مرة ومدارها العاطفة مرة اخرى من جهة ثانية.
يحرص الناقد ايّما حرص في امتصاص ذاته ، تجريد الذات من محاولة التغلغل والانتشار في اختبار الاشياء واختبار الذات ، لذا افترض ارسطو نموذجا للناقد يكون فيه اوسع من نموذج المواد التي ينبغي له اختبارها فهو يمحص وجوده او وجود الاشياء تبعا لروح الموضوع المتعالي في النموذج ، لذلك يشهد ارسطو على الشر بوصفه افهم من يقدر على تحديد اندفاعاته او نتائجه وعلى الخير بنفس المعيار.
بقي الغائب عند (ارسطو ) الصق بفهم تداعيات وجود الانسان ، عبر التراجيديا، من ذلك الحاضر ، لكون ان الذات ، وهي المتشبهة بالموضوع والتي تتوازى في التشبيه مع الخارج ، منسحبة من التأصيل او الهيمنة ، ومتقوقعة في الاكتفاء بظلها المسكوت عنه لأجل ذلك الموضوع / الخارج الذي شيّد من بنيان العقل على حساب ممارسة تهديم بنيان العاطفة ، وهو ما وقع به ارسطو فنيا وفكريا ، في تراتب مكونات التراجيديا على اساس من التفاضل الذي يقدم طرفا على حساب طرف اخر، مما انسحب هذا التراتب على تقييم العناصر في حدود اقترابها من المثال وابتعادها عن المادة.
وحالة الاقتراب او الابتعاد عن المرجع / المثال ، اشكلت على احوال الناقد في ممارسته النقدية امام نوع او شكل او ثيمة المسافة الفاصلة بين ذلك الدال اللعوب في المسكوتات ، وبين ذلك المدلول الاساس ، الفصل ، النهائي ، المعلن ، الحقيقي ، الاول .. إن مدّ او جزر الاقتراب او الابتعاد وضع الناقد في تأطرة ملزمة ان يميل ميلا واضحا قاصدا بالدرجة الاولى الى المضمون / الغائب ويهجر علنا ضمن تراتبيات ارسطو الشكل الحاضر .
مما يعني ان سلطة الكل في المشغل النقدي زادت من حضورها امام الجزء ، وهذا الحضور اشكل على الناقد بمزيد من تبعات الخارج الذي افرط في افشاء سلطاته واهمل ، عن عمد ، ذلك الداخل في حقول التجربة والذات . الاهمال الذي صيّر المرئيات في تراجيديا ارسطو في بؤس وشقاء ومسكوتية ومرحلة اخيرة في تعداد المكونات واصالتها قدّام الكلام / الخطاب / الفكرة / صوت الروح.
ومن تفاضل الى تفاضل يرقى الشعر عند ارسطو على التاريخ ، ذلك لأن التاريخ يكون اذ يكون اميل الى قول الجزئيات منه الى قول الكليات ، بينما الشعر ينحى في مقولاته بالعكس من مقولات التاريخ لإعتقاده ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، ان تراجيديا ((اوديب ملكا)) هي محاكاة لأحداث لم تقع ولكنها ممكنة الوقوع ، مما ينسب الى الشعر بلاغته الكلية في تصور الاشياء ، بينما ينحسر التاريخ في الحدث التاريخي حسب ، وفي هذا التبويب مغالطة واضحة تبدو من حيث اهمية الذاكرة والماضي (ما هو كائن) في المثالية اذ تتعارض تلك الاهمية مع المستقبل (ما يمكن ان يكون).
وبإفتراض ان الشاعر يروي ما يمكن وقوعه ولا يروي ما حدث مثلما يفعل التاريخ . اقترب الشعر من الفلسفة من حيث:
1ـ الكل الذي ينطق به الشعر .
2ـ التنبوء الذي يقدّمه لنا .
ان المغالطة تعظم اكثر حين يتحول المصدر العاطفي بذلك الدافع الثانوي/ الظل في مساحة الوجود الى (كل) لأن الكل هنا موضوع في تسمية الفيلسوفين افلاطون وارسطو ، فكيف لما هو ذاتي ملتصق بالإنسان الارضي ان يفقد جزئيته فجأة ويتحول الى كل . ومن ثم كيف له وهو الذاتي الذي يتميع بإستمرار وينزلق ازاء مرونة ذاته في انفعالاتها ان يخرج من دائرة لحظته المنفعلة والمتصلة بمراهنات ما اختلج عنده سابقا بالماضي الى برّ المستقبل البعيد . ان تعارضا بينا بين انموذجين متفاوتين لا يمنح نفسه فرصة التلاقي ابدا ، الذات تعارض الموضوع ، والماضي يعارض المستقبل ، وبالتالي يكون القول بأن ما هو ارضي كان سماويا في اجراءاته قولا موهوما تفنده منطلقات النظرية بمتعالياتها من حيث جوهرها الاساس.
لطالما جرى التركيز على العقل ولطالما جرى التهميش على العاطفة ، فأذا كان الشعر بجميع مريداته سيؤدي الى الخوف او الشفقة فإن محمولات هذه المفردات من اصل عاطفي ، وبذلك يمكن انسحاب العقل من فعل اداء الشعر اولا ، وانسحاب العقل منه ثانية ، وسيظل في ابداء المزيد من المتعة التي تقف بالضد من المنفعة ، وهذه الضدية ستشرع ابوابها اكثر حين يجمع ارسطو بوظيفة الشعر وينطقها بمركب المنفعة اذ يجمع ، بمعادلة ضمنية ، بدافعين متضادين : دافع العقل ودافع العاطفة .
ولو نزلنا عند مطلب افلاطون في الوظيفة الشعرية وميزانها الاخلاقي يتعنون بالمنفعة ، فإن تلك المنفعة ستشمل بشكل اكبر ، الجانب العقلي على الجانب العاطفي وستنسحق او ستضرب فكرة المثال المجرد الخالص من الجوهر حين نبادل الخارج بمسمّى العاطفة والداخل بمسمّى العقل ، وسيكون الناقد هنا في تخبط وعشواء تتقاذفه اضطرابات الرؤية يمينا وشمالا ، وسيرى نفسه في عمياء حيال المشهد بكليته التي آمن بها مثالا ، موضوعا ، خارجا ، غائبا ، وجزئياته التي كانت مادة / ذاتا ، داخلا ، حاضرا ، وهذا التخبط يتضح اكثر في لعبته الاجرائية على فرض لعبته التنظيرية .
وسواء آمنّا بأن (مادة) التطهير ذات تمايز ملحوظ ونوع متغاير يختلف فعلها وتأثيرها عند المبدع ، وعند الناقد ، وعند المتلقي فأنها ستظل مادة مركبة من شفقة او خوف وسيكون مؤدى هذا المركب بالنتيجة عاطفة ، الاولى هي عاطفة الانسان تجاه الاخرين والثانية عاطفة الانسان تجاه ذاته .. وهكذا نرى ان العاطفة اساس التكوين والوظيفة والناتج . وبغض النظر عن تبريرات الفيلسوفين فهي مادة التطهير وتباينها الا ان موضعة سيتحلى بها الناقد في حالة توافر كيانه ، تشهر قدرا من الاتزان وتفريغ الشحنات العاطفية لأصل فرض امكان النظر بالعقل وامكان غلق نافذة العاطفة في فعل تراجيدي عظيم .