هل نحن إزاء ‘بيان نصّ’ أم ‘بيان لصّ’؟
'حركة نصّ' أو انبعاث 'الكورس' من 'موت الكورس'
شوقي العنيزي
‘لا تبحثوا عن ردود لما أقول في أرشيف الجرائد ورشفات القهوة.
حاولوا أن تقولوا ما لم يُقل فأنا لا أردّ سوى على الأفكار’
الشاعر أنور اليزيديحين كتب الشاعران البحرينيّان قاسم حدّاد وأمين صالح بيانهما الشعريّ ‘موت الكورس′ سنة 1984 نسَجاه من لغة استعاريّة تعدل عن كلّ السنن المألوفة في كتابة البيانات الشعريّة قبلهما مثل بيان ‘لن’ لأنسي الحاج سنة 1960 وبيان الحداثة لأدونيس 1979 وبيان الكتابة لمحمّد بنّيس 1980 لقناعتهما بأنّ أسئلة الأشكال الشعريّة قد تهافتت بعد أن فُتح باب الشعر العربيّ للتجريب على مصراعيه، وبأنّ تسييج الشعر في جملة من الرؤى الثابتة قد غدا فعلا عبثيّا سرعان ما ستتكفّل الممارسة بنقضه ضاربة عرض الحائط بالكليّ من الأحكام والمُطلق من التصوّرات والمُشترك من السمات. وأطلقا على بيانهما اسم ‘موت الكورس′ حتّى لا يصير فخّا لجوقة أخرى تردّده من بعدهم وحتّى يخلّصا الشعر من أسره فلا يكون خادما لغير الجمال. وختم كلاهما البيان بعبارة ‘ينبغي إعادة النظر في هذه الرؤية. (قاسم حدّاد)’ و’يجب هدم بناء النصّ بعد اكتماله. (أمين صالح)’ خشية أن يتحوّل نصُّهما إلى وثن يعبده الباحثون للحداثة عن وصفة طبيّة جاهزة. ولم يكن الشاعران بمنأى عن النقد الّذي رشح به البيان فقد كانا يخاطبان به صورتَهما القديمة من جهة وكلَّ من يريد أن يجعل من الشعر مجرّد خادم للإيديولوجيا من جهة ثانية. لذلك مثّل البيان لحظة انشقاق عن ‘الكورس′ وهي كلمة مستعارة من المسرح الإغريقي تطلق على الجوقة التي تردّد الأناشيد وراء الممثّل. وليس ‘الكورس′ عند قاسم حدّاد وأمين صالح سوى الشعراء الّذين جعلوا من الشعر محض ترديد لشعارات جوفاء ومجرّد تكرار لقوالب ثابتة.
وددنا بهذا المدخل أن نضع بيان ‘موت الكورس′ في سياقه التاريخي، أمّا سبب العودة إلى هذا البيان تحديدا وقد مرّت على كتابته أكثر من تسع وعشرين سنة، فمرّده إلى الجدل المطروح اليوم في المشهد الشعريّ التونسيّ حول ‘حركة نصّ’ و’الحركة الشعريّة الجديدة’ واللّبس الّذي يداخله في كثير من التصوّرات والأفكار. وهو جدل سنعود إليه بالتفصيل في مقال آخر للخوض في تحوّلات التسمية وملابساتها، ولكنّنا نودّ أن ننطلق في هذا الإطار من مقالين لأمامة الزاير بشّرت فيهما بـ’حركة نصّ’ بوصفها ‘الحركة الشعريّة الجديدة’ نُشر الأوّل في ‘جريدة آخر خبر’ ونُشر الثاني في ‘جريدة المغرب’ في العددين 555 و556 وفيه تقول: ‘وقد أسّست هذه الأصوات حركةً شعرية جديدة أطلق عليها اسم ‘حركة نص’ وضمّت مجموعة من الشعراء من بينهم: زياد عبد القادر وعبد الفتاح بن حمودة ونزار الحميدي وصلاح بن عيّاد وأمامة الزاير وخالد الهدّاجي وشفيق الطرقي الّذين كتبوا بيانها التأسيسيّ’ فقد كتب هؤلاء الشعراء مجموعة من النصوص تطرح رؤيتهم للكتابة وسَمُوها بـ’بيانات حركة نصّ’ ونُشرت في مجلّة ‘الكتابة الأخرى’ المصريّة (الإصدار الثاني، أغسطس 2012، العدد الثالث) وبغضّ النظر عن الشاعر زياد عبد القادر الّذي زُجّ باسمه قهرا رغم انسحابه من هذه الحركة فإنّ في هذا القول مغالطة كبرى لأنّ بعض هذه النصوص نصوص شعريّة مثل نصّ خالد الهدّاجي ونصّ نزار الحميدي ولا يمكن أن تدرج ضمن البيانات فالبيان هو نصّ نثريّ يكتبه الشاعر ليطرح تصوّراته حول الشعر في مفهومه وجماليّاته ووظيفته ومآله وتعود التسمية وفق ما ذهب إليه الشاعر التونسي مجدي بن عيسى إلى ‘مجال السياسة والأحزاب والأعمال العسكريّة التي تتداول جميعها عبارة البيان للدلالة على خطاب مخصوص يقصد إلى شرح أهداف وتوضيح غايات والإعلان عن منجز جديد يحتاج إلى أن يستقرّ في الأفئدة والأذهان’.)العالم من ثقب إبرة( فالغاية من البيان مهما توسّل بلغة الشعر تبقى توجيه رسالة إلى القارئ لتقديم رؤية فنيّة للكتابة بينما تتراجع الرسالة في الشعر لصالح الوظيفة الإنشائيّة/الجماليّة لذلك اقترن تعريف البيان بكونه نصّا نثريّا غايته الأساسيّة توجيه رسالة، أمّا الحديث عن الشعر بالشعر فيدخل ضمن الخطاب الواصف أو ‘الشعر على الشعر’.
وأمّا اختيارنا لبيان أمامة الزاير قبل سواه فذلك لكونه تصدّر هذه البيانات فكان بمثابة العتبة المفضية إليها، وقد أرشدنا الصديق الشاعر محمّد العربي إلى جملة متطابقة فيه مع بيان آخر قرأناه خلناه رافدا يرفده ويغذّيه ولكنّنا حين عدنا إليه وأمعنّا النظر فيه وجدنا العلاقة بينهما أشبه بالصوت وصداه، ويمكننا أن نجمل مواضع الالتقاء أو ‘التلاصّ’ بين بيان أمامة الزاير وبيان ‘موت الكورس′ في نقاط عدّة اخترنا أن ننطلق في تناولها من المجمل العام إلى الخاصّ الذي يبلغ في أكثر من موضع حدّ التطابق الكلّيّ:
1/ أسلوب البيان ولغته:
جاء ‘موت الكورس′ محكوما بالصراع الذي كتب في سياقه البيان وتلبّس به على نحو خلع عليه جملة من السمات لعلّ أبرزها:
انبناء البيان على أسلوب النفي والإثبات فقد كُتب البيان في غمرة خلافات إبداعية اعتَرَت المشهد البحرينيّ في نهاية السبعينيات من القرن الماضي واستمرّت إلى أواخر الثمانينيات. وكان طرفا الخلاف ينتميان إلى المشهد الإبداعي المعاصر. أحدُهما يصرّ على وضوح الرسالة الفنيّة ولا يرى الإبداع إلاّ في خدمة القضايا العامّة بعيدا عن قيمته الجماليّة ذاتِها، في حين يرى الطرفُ الثاني ويمثّله قاسم حدّاد وأمين صالح أن الإبداع حر ولا ينبغي تقييده بأي قيد في المطلق. لذلك شاع النفي والإثبات في أكثر من موضع من البيان للتعبير عن رفض جملة من التصوّرات المكرّسة الثابتة وتقديم تصوّرات بديلة، وفي هذا السياق يقول قاسم حدّاد وأمين صالح: ‘لا يعنينا القارئ الّذي، مثل الأعمى، يسألنا بعد كلّ خطوة عن المعنى والمغزىô يعنينا القارئ الّذي يستجوب العالم، ويستنطق الأشياءô تماما مثل الطّفل’(البيانات، دارس سيراس للنشر تونس 1995. ص 132) وإذا كان هذا القول مندرجا ضمن رفض الكاتبين للتصوّر المكرّس في البحرين خلال السبعينيات من القرن الماضي الّذي يختزل غاية الكتابة في الإبانة والوضوح ويختزل وظيفة المتقبّل في مجرّد الاستهلاك فإنّ أمامة الزاير تستدعي مخاطَبا وهميّا مستعملة القول نفسه دون أيّ إشارة إلى مصدره مُجتثّةً له من سياقه اجتثاثا لتغرسه بعد تسع وعشرين سنة في تربة جديدة غريبة عنه لم تعد قضيّة الوضوح فيها مطروحة أصلا فتقول: ‘لا يعنينا الأعمى يقترب من نصّنا.. ولا يفقه شيئا.. يعنينا فقط من يأتي النصّ مثل جناح حمامة بيضاء’ (بيانات حركة نصّ، مجلّة الكتابة الأخرى، ص 338. وانظر أيضا: العالم حزمة خيالات، دار زينب للنشر، تونس 2013. ص20).
انبناء البيان على أسلوب الإجمال والتفصيل ويعود هذا الأسلوب إلى طبيعة القضايا المطروحة وإلى طبيعة السجال الّذي يحرّك النصّ فجاءت الأفكار الأساسيّة في البيان مفصّلةً موغلة في التدقيق فيما اكتفى الكاتبان بطرح بعض الأفكار بشكل مُجْمَل إمّا لكونها ثانويّة أو لأنّها من قبيل المعلوم، وقد انتهجت أمامة الزاير الأسلوب ذاتَه في بيانها ولكنّها أجرته بشكل معكوس فجعلت المُجمَل في ‘موت الكورس′ مفَصّلا، وقلبت المُفَصّل مُجمَلا، فحين يقول الكاتبان: ‘ما أن يتأطّر النصّ حتّى يتجمّد ويصير عرضة للانكسار. لن يكون هذا…’ (البيانات ص 134) تقول ‘الكاتبة’: ‘لن ندخل حيّز الكادر’ (الكتابة الأخرى. ص 337./العالم حزمة خيالات. ص 13) فلم تتجاوز بذلك تلخيص الجملة ووضع كلمة ‘الكادر’ بصيغتها الأعجميّة cadre بدلا من يتأطّر/إطار، وسنعود إلى هذا الأسلوب في مقال مفصّل في قراءة لكتابها الشعري ‘العالم حزمة خيالات’. وحين يقول الكاتبان: ‘نعلن موت الكورس، وبأنّنا: ضدّ الإرهاب الّذي يمارسه القارئ (والكاتب والناقد والناشر وبقيّة المؤسّسات) حين يفرض تصوّرا أو مفهوما، محدّدا وثابتا، ويطلب من كلّ كتابة أن تخضع له. (…) لا شأن لنا بالناقد الّذي يلج النصّ بأدوات لا تتجانس مع النصّ ذاته…’ (البيانات ص ص 132- 133) تقتفي ‘الكاتبة’ آثارهما ببراعة فتقول بشكل مجمل: ‘لن نصغي إلي صوت المخرج-الناقد يأمرنا ويُملي علينا خطواتنا..’ (الكتابة الأخرى. ص 337./العالم حزمة خيالات. ص 13) وتستمرّ لعبة اقتفاء الآثار ومعها تستمرّ لعبة القلب والتحويل، فيأتي قول قاسم حدّاد وأمين صالح مُفصّلا: ‘نجرّب، نلملم شظايا الذاكرة التي اختزنت الإبداعات الإنسانيّة، ونجرّب’(البيانات ص 131) وتبرز أمامة مرّة أخرى قدرتها على التلخيص: ‘نُسرف في التجريب’ (الكتابة الأخرى. ص 338./العالم حزمة خيالات. ص 17) يقول الكاتبان: ‘الكاتب ليس عبدا للأشكال، بل خالقا وخائنا لها في آن. كلّ شكل يصير قفصا في اللحظة التي يَثْبُت فيها ويستقرّ. جئنا لنلهو بالأشكال. نبتكر شكلا لنحطّمة في اليوم التالي: هكذا نبارك حريّة الكاتب الداخليّة، ونمجّد سطوته على مخلوقاته. نسعى إلى شكل يكون بديلا، أو عدوّا، لما سبق ابتكاره وترسيخة’(البيانات ص 131) فتلخّص ‘الكاتبة’: ‘لا نقنع بالأشكال المرسومة سلفا. النصّ خروج الشكل عن الشكل..’ (الكتابة الأخرى. ص 338./العالم حزمة خيالات. ص 17).
تجسيم المجرّد وتخصيص العام: وهنا تتغيّر استراتجيا ‘التلاص’ إذ يطرح الكاتبان فكرة بشكل مجرّد عام تجعلها أقرب إلى الهيكل العظميّ فتأخذ ‘الكاتبة’ ذلك الهيكل وتكسوه لحما فحين يقول الكاتبان: ‘نلهو: بالحبكة، بالسرد، بالضمائر، بالشخصيّات، بالأحداث، بالمكان، بالزمان، بالتاريخ، بالتضاريس، بالتعاليم، بالوثائق، بالنصوص، بالقارئ، بالناقد، باللغة، بالطبيعة، بالأشياء، بالمواد، بالأسماء، بالأطر، بالأوصاف، بنا’ (البيانات ص 135)، تتلبّس حمّى النسج على المنوال بـ’الكاتبة’ فتتعامل مع هذه الجملة بوصفها قالبا مفرغا وتملؤه إذ تقول: ‘نتورّط مجّانا في اللهو بكلّ المتاح.. وبما لا يُتاح.. بجرار الزّيت والعسل في الغرفة الجنوبيّة التي تحرسها جدّاتنا.. بكُرات الضوء نعلّمها حيلة الإيقاع.. وبالتراتيل فإذا هي صراخ داعر..’ (الكتابة الأخرى. ص 337./العالم حزمة خيالات. ص 13. مع تغيير في كلمة ‘بما لا يتاح’ التي تصبح ‘باللاّمتاح’). وهي في هذا المثال تأخذ عبارة عامّة مثل ‘بالموادّ’ فتجسّمها ‘بجرار الزيت..’ أو عبارة مثل ‘بالطبيعة’ فتغدو ‘بِكُراتِ الضوء’ مع التأكيد على اللهو بها وتستمرّ في ملء ما تقدر عليه من القالب المُفرغ، وفي موضع آخر تغيّر من تقنية الاستيلاء فحين يقول الكاتبان: ‘مهمّتنا أن نشير إلى الخلل، أن نفضح، أن ندلي بشهادتنا ونمضي..’ (البيانات ص 129) تأخذ الجملة بوصفها قالبا فتشير إلى الخلل وتفضح فيما هي تفصّل تصوّر قاسم حدّاد وأمين صالح للنصّ بوصفه شهادة: ‘شاهدنا كلّ شيء../لمحنا القتلة في ثوب القدّيس يوحنّا وفي سبحة شيخ الحضرة../رأينا يهوذا يسترق السمع.. رأينا مسيلمة يبول على النصّ../النصّ شهادة’ (الكتابة الأخرى. ص 338./العالم حزمة خيالات. ص 18).
التراكيب: وهنا تبرز مجموعة من التراكيب متطابقة كليّا فحين يقول الكاتبان: ‘ويهدينا الحلم، نحن المخبولون بالكتابة، في غموض الملابسات..’ (البيانات ص 126) تردّد ‘الكاتبة’: ‘نحن المخبولون بالكتابة، نوقد حقل القمح ليتدفأ الفراش’ (الكتابة الأخرى. ص 338./العالم حزمة خيالات. ص 17). ولعلّ الطريف في فعل الترديد أنّ أمامة الزاير هنا وقد استبدّت بها حمّى محاكاة النصّ الأصليّ قد نسيت أنّها متخرّجة في كليّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة ونسيت أنّها درست اللغة العربيّة أربع سنوات فردّدت النصّ الأصليّ بخطئه اللغويّ لأنّنا لا نقول في الجملتين معا ‘… نحن المخبولون بالكتابة…’ بل نقول: ‘ … نحن المخبولين بالكتابة…’ فهي جملة اعتراضية قائمة على التخصيص والغريب أنّ درجة الحمّى ارتفعت ربّما لسرّ في هذا التركيب لم أفقهه بعد فنسجت على منواله جملة من التراكيب الأخرى ‘نحن الموعودون بالتيه.. نصعد تلك الأربعات’ أو ‘نحن المنذورون للوله ولهسهسة الغيب.. نورق من بتلات اللّيل’(الكتابة الأخرى. ص 338./العالم حزمة خيالات. ص 19) والصواب أن نقول: ‘نحن الموعودين بالتيه.. نصعد تلك الأربعات’ أو ‘نحن المنذورين للوله ولهسهسة الغيب.. نورق من بتلات اللّيل’ وفي مواضع أخرى تخفّ حمّى الترديد فتحافظ على المعنى ذاته وتغيّر التركيب ومن أمثلة ذلك في البيان الأمّ: ‘النصّ ليس متحفا، إنّه متاهة’(البيانات ص 133) فترمي الزاير شباكها على الجملة فتصبح فعليّة: ‘نلج مجازات النصّ ومتاهاته’(الكتابة الأخرى. ص 337./العالم حزمة خيالات. ص 15).
2/ بنية البيان وتوزيعه البصريّ:
قام البيان في بنيته على ترتيب مخصوص جعله أقرب إلى السلسلة المتكوّنة من مجموعة حلقات كلّ حلقة منها مبنيّة على طرح الفكرة أو الموقف ثمّ التعليق عليها أو الاستنتاج بعد طرح كلّ فكرة ما جعل الأفكار المطروحة فيه محكومة ببنية ثنائيّة: فكرة فاستنتاج أو فكرة فتعليق، وعلى المنوال نفسه نسجت ‘الكاتبة’ في ‘بيانها’ بصيغتيْه الأولى المنشورة في مجلّة الكتابة الأخرى والثانية المنشورة في مقدّمة ‘كتابها الشعري’ بشكل آليّ، ولسائل أن يسأل في هذا السياق: هل يعني ذلك أنّ كلّ النصوص التي قامت على هذا الترتيب في بناء أفكارها متأثّرة بـ’بيان موت الكورس′ أو هي تسطو عليه؟ والإجابة بطبيعة الحال : لا. فليست هذه البنية ملكا لأحد وهي متواترة في كثير من النصوص، ما يجعلنا نظلم ‘الكاتبة’ إذ ننزّل نصّها على قالب النصّ الأوّل تنزيلا رغم كلّ الأمثلة التي أوردنا والتي تؤكّد اقتفاءها المقصود لبيان ‘موت الكورس′، ولكنّ التطابق يصبح مقصودا حين يعضده التوزيع البصريّ ذاته للجمل في بيانها المنشور في مقدّمة ‘كتابها الشعري’ ‘العالم حزمة خيالات. ص20′ لا البيان المنشور في مجلّة الكتابة الأخرى لأنّ أسطُره جاءت مسترسلة متراصّة سطرا تحت سطر، في حين ورد التوزيع البصريّ في مقدّمة الكتاب بشكل يبرز البنية الثنائية فجاءت أسطره منتظمة بصريّا ما عدا الاستنتاجات فقد عمدت الكاتبة إلى التَفضية espacement فجعلتها بارزة أقصى اليسار وهي الطريقة ذاتها التي وزّع بها قاسم حدّاد وأمين صالح بيانهما بصريّا ما يجعل العلاقة بين البيان الأمّ ‘موت الكورس′ و’البيان الثاني’ أشبه بالنسخة photocopie لا بالصوت وصداه لأنّ الصدى يبقى أضعف من الصوت أمّا النسخة فتقارب التطابق. ويمكن أن نأخذ أيّ مقطع بشكل عشوائيّ لتوضيح التوزيع البصريّ لا غير:
(لا يعنينا الأعمي يقترب من نصّنا.. ولا يفقه شيئا..
يعنينا فقط من يأتي النصّ مثل ‘جناح حمامة بيضاء’
النصّ قدّاس في حضرة الجنون)
وبغضّ النظر عن جملة ‘لا يعنينا الأعمى يقترب من نصّنا.. ولا يفقه شيئا.. يعنينا فقط من يأتي النصّ مثل جناح حمامة بيضاء’ التي تعيدنا إلى جملة قاسم وأمين ‘لا يعنينا القارئ الّذي، مثل الأعمى، يسألنا بعد كلّ خطوة عن المعنى والمغزىô يعنينا القارئ الّذي يستجوب العالم، ويستنطق الأشياءô تماما مثل الطّفل’(البيانات. ص 132) فإنّ صورة: ‘النصّ قدّاس في حضرة الجنون’ التي جاءت في شكل استنتاج تحيل مباشرة على جمل الناقد التونسي محمّد لطفي اليوسفي في كتابة ‘لحظة المكاشفة الشعرية، إطلالة على مدار الرعب، دار سيراس، تونس 1998.’ في سياق حديثه عن اللغة أو النصّ أو الحدث الشعري، وهي: ‘قدّاس يُقام في حضرة الغياب. ص37′ و’قدّاس جنائزيّ يقام في حضرة الرعب. ص110′ و ‘قدّاس جنائزي ينشد في حضرة العدم. ص117′ أو ‘بمثابة القدّاس الابتهالي ينشد في حضرة طفولة أمعنت في الرحيل ص143′ وغيرها من الأمثلة كثير، بل إن اليوسفي صار موسوما بمثل هذه العبارات بعد أن كلّ في تخيّرها وكابد السنوات وهو يجاهد في نحت لغة مخصوصة به صارعها حتّى استوت وطاوعها حتّى لانت ليخلع عليها من روحه، ولكنّ حمّى الترديد لا تمنع ‘الكاتبة’، وهي الأسيرة لكلّ ما يُعجبها، من استعمالها دون أيّ إشارة لصاحبها أو اعتراف بالجهد الذي بَذل.
3/مكر الإحالة واستراتيجيات التضليل:
جاء ‘بيان’ الزاير في صيغتين صيغة أولى نُشرت في مجلّة ‘الكتابة الأخرى’ وصيغة ثانية نُشرت في مقدّمة ‘كتابها الشعريّ’: ‘العالم حزمة خيالات’ والفرق بينهما إضافةً إلى مسألة التوزيع البصريّ هو خلوّ ‘البيان’ في المجلّة من الإحالات والأظفار بينما داخلت ‘البيان’ في الكتاب بعض الإحالات وهي أربع: ‘نصعد تلك الأربعات’ ‘نحمل أدواتنا’(1) ‘السدّاية’(2) (العالم حزمة خيالات ص 19) ‘جناح حمامة بيضاء’(3) (العالم حزمة خيالات ص 20). في حين اكتفت بوضع الظفرين في جملة ‘نحن المخبولون بالكتابة’ بخطئها اللغويّ. ولكنّ الغريب في هذه الإحالات التي ظهرت فجأة في الكتاب أنّها وردت مدقّقة في الهامش بالإشارة إلى اسم المؤلّف وكتابه في حين بقيت جملة وحيدة بين ظفرين دون إحالة في الهامش لا على اسم الكاتب ولا على الكتاب وهي ‘نحن المخبولون بالكتابة’ أي جملة قاسم حدّاد وأمين صالح فإذا اعتبرنا كلّ ما وقع من تطابق أو تشابه بين جمل نصّ الزاير وجمل بيان قاسم وأمين وسلّمنا بأنّ تخاطرا روحيّا يربط وثاقهما أو بأنّ ‘الكاتبة’ قرأت البيان ونسيته فلماذا أحالت على كل مصادر كل الجمل الموضوعة بين ظفرين ما عدا الجملة المأخوذة من ‘موت الكورس′؟ بل إنّ الغريب أنّ ‘الكاتبة’ أحالت على جملة لم تفهمها من كتاب ‘تقرير إلى غريكو’ للكاتب اليوناني نيكوس كازنتزاكي وهي ‘نصعد تلك الأربعات’ وقد وردت في نصّ نيكوس على هذه الصيغة: ‘انزلقتُ وسقطتُ وأنا أتسلّق أربعات في صعودي الوعر الشاق إلى الله’ (نيكوس كازنتزاكي، تقرير إلى غريكو، ترجمة ممدوح عدوان، سوريا، دار سامي الجندي. د.ت. ص13) وقد وردت أربعات هنا على الحاليّة (حال) بمعنى نقفز كل أربع درجات في قفزة واحدة، ولكنّ الكاتبة عرّفتها وجعلتها مفعولا به بمعنى نصعد الجبل الذي يتكون من أربعة أقسام أو المدرج الذي يتكوّن من أربع درجات دون إشارة وكان يمكن عدم الإشارة إلى الأصل هنا لأنّ هذه الجملة تدخل في حيّز ‘التناصّ’ لا حيّز ‘التلاص’ لأنّ ‘التلاص’ يقوم على إجراء جمل متشابهة في كلّ شيء ضمن السياق نفسه والمعاني نفسها أمّا المثال الذي أحالت عليه أمامة فإنّه لا يتحرّك ضمن السياق الصوفيّ الواضح في جملة كازنتزاكي لذلك يدخل في مجال التناص، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الجملة الثانية التي أحالت عليها للكاتب نفسه ومن المصدر ذاته وهي ‘نحمل أدواتنا’ فهي لا تشير إلى طبيعة هذه الأدوات وبذلك ليس من الضروريّ الإحالة عليها أصلا لأنّها ليست ملكا لنيكوس كازنتزاكي فهي لا تتحرّك في السياق الذي أجراه فيه. وبمنطق أمامة حين يقول التلاميذ في آخر الحصّة ‘نحمل أدواتنا’ فإنّهم أخذوا الجملة من نيكوس، ومادامت حريصة إلى هذا الحدّ فلماذا لم تُحل على ‘موت الكورس′ مرّة واحدة. إنّ الإحالة تكون ضروريّة حين نستخدم النصّ الوافد بمعناه الأصليّ ذاته وفي سياقه نفسه، وبإمكاننا ها هنا أن نتوقّف عند جملة نيكوس: ‘أجمع أدواتي: النظر والشمّ واللّمس والذّوق والسمع والعقل. خيّم الظلام وقد انتهى عمل النهار. أعود كالخلد إلى بيتي الأرض. ليس لأنني تعبت وعجزت عن العمل، فأنا لم أتعب لكنّ الشمس قد غربت’ (تقرير إلى غريكو. ص13) بهذه الكلمات افتتح نيكوس الحديث عن سيرته في ‘تقرير إلى غريكو’ وقد كتب هذا الكتاب وهو على فراش الموت، لذلك فإنّ عمليّة تجميع أدوات الفنّان هنا هي عمليّة تجميع المُغادِر للحياة، وهذا ما يفسّر الجُملَ التي ستأتي بعد هذه الجملة ‘لمن سأقول وداعا؟ وإلى أيّ الأشياء؟ الجبال؟ البحر؟ العريشة المحمّلة بالعناقيد على شرفتي؟…’ (تقرير إلى غريكو. ص13) أمّا أمامة فلم تستعمل الجملة في سياقها ومعناها الأصليين ولم يكن هناك داع للإحالة عليها ولا اعتبارها داخلة في خانة التناصّ أصلا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قولها ‘مثل جناح حمامة بيضاء’ ثمّ إحالتها على محمود درويش في الجداريّة. وجملته هي: ‘ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى’ والفرق واضح بين القول ‘يأتي النصّ مثل جناح حمامة بيضاء’ أي تشبيهه بجناح الحمامة في حريّته وبراءته التي يحيل عليها البياض، وبين جناح حمامة بيضاء بوصفه وسيلة تعبر بالشاعر إلى عالم الموت وهو السياق الذي وردت فيه في الجداريّة. بهذا نفهم الفرق بين ‘التناص’ و’التلاص’ ونفهم وعي ‘الكاتبة’ بأنّ أيّ تشابه بغض النظر عن طبيعته، يتطلّب الإحالة على المصدر ولكنّها تحيل حين لا يقتضي الأمر ولا تحيل حين تكون الإحالة ضروريّة لأنّ الجملة الوافدة بقيت تحمل المعنى القديم ذاته. وبهذا تغدو النيّة المقصودة في السطو أمرا يكاد يكون واضحا حتّى تخفي المصدر الأساسي الذي استقت منه جُملها أو النهر الجارف الذي تنهل منه باستمرار دون خشية من أن يجرفها التيّار.
هذا إذن البيان الأوّل من بيانات ‘حركة نصّ’ التي يقول أكبر أفرادها السيّد عبد الفتّاح بن حمّودة حسب ما جاء في مقال أمامة: ‘نحن لا نقلّد أحدا بل ننجز طريقنا بالشكل الذي نراه’ (جريدة المغرب عدد 556) ويقول في موضع آخر ‘نحن أوفياء لبدر شاكر السيّاب وأدونيس في مُنجزه النقديّ خاصّة وأنسي الحاج في مقدّمة كتابه ‘لن’ ومحمّد بنّيس وقاسم حدّاد وأمين صالح في بياناتهم’ وهو قول يبرز اطلاع السيّد عبد الفتّاح على بيان ‘موت الكورس′ فلماذا يقول إذن عن شعريّة أمامة في تقديمه لكتابها: ‘ويكشف هذا العمل عن مهارات قلّما وجدت لدى أقرانها من الشعراء التونسيين والعرب المعاصرين’ (العالم حزمة خيالات ص 9). وقد يكون بن حمّودة يتحدّث عن هذه المهارة بالذات وفق تصوّره الببغائي للكتابة والكتابة عنده نثر أو لا يكون لأنّ التفعيلة قائمة على الوزن المكرّر فتجعل تصوّره الببغائي مضاعفا (ويمكننا أن نقول بغبغانيّ ما دام ابن منظور لم يتنبّأ بتسمية تليق به) ويبدو أنّ السيّد العميد ظلمها فلم يقل لدى أقرانها من الشعراء العالميين. ويمكن أن نكون إزاء فرضيّة أخرى مفادها أنّ مُطلِقَ الأحكام والتصوّرات لا يقرأ أبعد من قصائد الحركة وهنا قد نجد له عذرا بما أنّه يتحدّث عن بيان لم يقرأه: ‘موت الكورس′ وإلاّ لاكتشف بعينه المدرّبة سرقات ‘الشاعرة’ المتفرّدة بين أقرانها وقد نجد له عذرا آخر بما أنّ الهوس بحفظ العناوين ليس بالعادة الجديدة وهنا أملنا كبير في أن يكون لبعض الشعراء الجيّدين في ‘الحركة’ (والعبارة هنا حقيقيّة فهناك أصوات مهمّة في ‘الحركة’ من وجهة نظرنا التي تبقى دائما نسبيّة) تأثير في النهوض بنصوصه، ويبقى الاحتمال الأخير مفتوحا على القرّاء. أمّا نحن فلسنا هنا لمحاكمة أحد أو احتكار الحقيقة، نحن نحلّل نصوصا وقد نخطئ ونصيب ولكنّنا سنقلّب كتابات أفراد هذه الحركة لنبرز مواضع الفرادة فيها حسب رأينا النسبيّ ونفرز ‘الببغائيّ’ فيها من الأصيل. والأصيل كما سبق وعرّفه الشاعر أنور اليزيدي في تشخيص هذه الظاهرة هو: ‘الوقت الذي تلتقي فيه الحركة عادة لتحريك السكر في القهوة.’.