بوزونات هيغز أم فيزياء جديدة؟
على الرغم من بعض الإخفاقات في البداية بدأ المصادم الكبير للهادرونات LHC
المبني قرب جنيف في مراكمة المعطيات في درجات عالية جدًا من الطاقة لم يسبق الوصول إليها. والهدف من ذلك هو ملاحظة ورصد بوزون هيغز. كان هيغز قد تخيل وجود هذا الجسيم عام 1964، وسرعان ما أصبح له مكانة مركزية في فهمنا لبنية المادة. مع ذلك، وفي الوقت الذي بدا فيه أن الفيزيائيين بدأوا يلامسون هدفهم، راح بعضهم يشكك بالمسألة برمتها، فماذا لو لم تكن بوزونات هيغز سوى محض خيال؟ لا شك أن ذلك سيؤدي إلى انهيار عدد كبير من النظريات المعاصرة. وفي المقابل، فإن ذلك سيفتح أمام العلماء حقلاً لم يسبق له مثيل من إعادة بناء التصورات والأفكار، ولعل ذلك هو الأكثر تحفيزًا وحماسة. تخيلوا أنكم فيزيائيون مختصون بالجسيمات الدقيقة وأن نحو 20 دولة وضعت بين أيديكم عدة مليارات من اليوروات لبناء جهاز ضخم الهدف منه هو سبر سر أصل الكتلة، هذا الشيء الذي لا يوصف والذي يبقى جسمًا في حالة حركة منتظمة طالما أن قوة خارجية لا تشوش على مسيرته. إن تعريفكم لمفهوم الكتلة يرتكز على وجود جسيم جديد، سمي "بوزون هيغز"، يفترض أن يستطيع جهازكم الكشف عنه. وبعد نحو عشرين سنة من التحضيرات يأتي النهار المنتظر. أفلا تشعرون أن الخوف يسيطر عليكم خشية أن تكونوا قد أخطأتم؟ وماذا لو كانت بوزونات هيغز غير موجودة أصلاً؟ في الحقيقة، هناك العديد من الفيزيائيين المختصين بالجسيمات الدقيقة يعترفون بخوفهم من أن الآلة الجديدة – مصادم الهادرونات الكبير LHC
الواقع في المركز الأوروبي للبحث النووي CERN
قرب جنيف – ستكتشف بوزونات هيغز لكن دون أي شيء آخر! لأن فيزياء الجسيمات في هذه الحالة يمكن أن تجد نفسها في نوع من الطريق المسدود. بل إن بعضهم يمضي بالقول إنه سيكون من المفضل ألا يكتشف المصادم شيئًا على الإطلاق. خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي طوَّر فزيائيو الجسيمات الدقيقة نظرية سميت النظرية المعيارية للجسيمات، وهي إضافة إلى أنها لا تأخذ بعين الاعتبار قوة الجاذبية فإنها تشتمل على نقاط ضعف أخرى، لكنها سمحت بتفسير مجمل الأرصاد التي تمت في مسرعات الجسيمات الدقيقة. ومع ذلك فإن هذه الأرصاد لم تقدم سوى القليل من المعلومات حول وجود نظرية كامنة غير ظاهرة بعد أكثر جوهرية من النظرية المعيارية. ومن جهة أخرى، وعلى المستويات من الطاقة التي تم الوصول إليها بواسطة LHC
فإن تنبؤات النموذج المعياري تقود إلى احتمالات رياضية ليس لها أي معنى من وجهة النظر الفيزيائية. ولهذا، لكي يتمكن العلماء من التقدم على المستوى النظري فإنه من الضروري والمنتظر أن يكشف الـ LHC
عن بعض الأشياء أو الجسيمات الأخرى غير بوزونات هيغز. فإذا لم يتم ذلك، فإن العصر الذهبي الجديد الذي أعلن عنه للفيزياء يمكن أن ينتهي بشكل مبكر جدًا بعد أن بدا أنه انطلق. يقول أحد النظريين العاملين في المركز الأوروبي للبحث النووي CERN
، جوناثان إليس Jonathan Ellis
، أن ذلك "سوف يكون أسوأ السيناريوهات". وهو سيعني بطلان وفراغ البحث في كل فيزياء جديدة حتى مستوى طاقة بلانك – وهي طاقة مرتفعة بشكل لا يصدق حيث تصبح كثافة قوة الجاذبية مكافئة لكثافة التفاعلات الأساسية الثلاثة الأخرى في الفيزياء: القوتان النووية الضعيفة والشديدة والقوة الكهرمغنطيسية. ومن جهة أخرى، إذا لم يكتشف الـ LHC
أي جسيم جديد، ولا حتى جسيمات هيغز، فإنه لا بد عندها من إعادة النظر في قوانين الفيزياء الكوانتية والنسبية الخاصة لأينشتين على حد سواء. "فكل ما اعتقدنا أننا نعرفه حول قوانين الفيزياء سوف ينهار عندها" كما يؤكد هارفي نيومان Harvey Newman
، الذي يعمل في الحقل التجريبي في معهد التكنولوجيا في كاليفورنيا. ويضيف إنه من المستحيل بشكل أساسي ألا يرصد الـ LHC
شيئًا جديدًا. لكافة هذه الأسباب يشكل الـ LHC
نوعًا من التحدي، حيث يأمل كثيرون أن يستخصلوا منه أعظم النتائج في محصلة هذا البحث الطويل نحو معرفة البنية الجوهرية الأدق للمادة. وفي هذا الاتجاه، تشكل جسيمات هيغز بلا أدنى شك أشهر الجسيمات التي يجب اكتشافها ولم تكتشف بعد، وقد سماها ليون لدرمان Leon Lederman
، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء عام 1988، "جسيمات الله"، الأمر الذي يعبر عما يراه فيها العلماء كلبنات أولية لبنى الوجود والمادة. وفي الواقع، فإن هذا الجسيم يمثل حلاً لمسألة طرحها النموذج المعياري: كيف تكتسب الجسيمات الكتلة التي تميزها؟ تحمل هذه المسألة بشكل خاص على أصل كتلة جسيمين يسميان "بوزون W
" و"بوزون Z
"، وهما ينقلان القوة الضعيفة. ووفقًا للنموذج المعياري، فإن القوتين الكهرمغنطيسية والضعيفة تشكلان وجهين للظاهرة الفيزيائية نفسها. وبالطبع فهما ليستا قابلتين للتبادل (متعاوضتين): فالأولى يمكن أن تُلحظ نتائجها على مسافات ما بين النجوم، في حين أن تأثير الثانية محدود بنوى الذرات. ويفسَّر هذا الاختلاف في مدى التأثير بواقع أن الفوتونات، التي تؤلف الحقل الكهرمغنطيسي، تملك كتلة معدومة. بالمقابل، فإن الجسيمات التي تشكل حقول القوة الضعيفة، البوزونات W
وZ
، لها كتلة أعلى بـ 86 و97 مرة على التوالي ضعف كتلة البروتون. وللأسف فإن النموذج المعياري لا يعود صحيحًا إذا حاولنا إعطاء كتلة للبوزونات W
وZ
، كما وللجسيمات الأخرى. فبشكل أو بآخر، يجب أن تنتج هذه الجسيمات من تفاعل بين جسيمات لها هي نفسها كتلة معدومة. في الستينيات من القرن السابق وضع النظري البريطاني بيتر هيغز Peter Higgs
فرضية وفقها يجب أن يكون الفراغ الذي تسبح فيه كافة أنماط المادة مليئًا بحقل قوة. ويستطيع هذا الحقل أن يتفاعل بشدة مختلفة مع الجسيمات، مكسبًا إياها عطالة معينة بحسب شدة التفاعل، وبعبارة أخرى كتلاً ذات قيم مختلفة. ويتألف هذا الحقل من جسيم جديد، هو بوزون هيغز، المختبئ بشكل افتراضي في كامل الفضاء "الفراغ". وقد استطاع الفيزيائيون بالارتكاز على هذه النظرية التنبؤ بكتلتي البوزونين W
وZ
. وفي عام 1983 تم التحقق في المركز الأوروبي للبحث النووي من أن هاتين الكتلتين كانتا موافقتين لتنبؤات الفيزيائيين، وذلك بفضل المصادمات ذات الطاقة الكافية لإصدار البوزونين W
وZ
من الفراغ. غمامة من الجسيمات ثمة جملة من المعطيات اليوم تأتي في صالح وجود بوزونات هيغز. فعلى سبيل المثال، إن مدة حياة بوزون Z
كما وخصائص أخرى له يبدو أنها ترتبط بوجود غمامة من الجسيمات الافتراضية التي تحوم حوله. وتوحي التجارب التي تمت على بوزون Z
بوجود جسيم هيغز تصل كتلته في حد أقصى إلى مائتي ضعف كتلة بروتون، يختفي في هذه الغمامة. وتشير المقارنة لكتلة بوزون W
ولكتلة جسيم أولي معطى هو "الكوارك أعلى" إلى الأمر نفسه. "ويشكل ذلك عنصرا برهانين منفصلين أنه يوجد شيء ما يتصرف بطريقة أو بأخرى على أنه جسيم هيغز"، كما يشرح غوردون كان Gordon Kan
، من جامعة ميشيغان. ويضيف: "في الظروف التجريبية في LHC
ثمة يقين مطلق من إمكانية إثبات وجود جسيمات هيغز". من المؤكد أن هذا الاكتشاف إذا تحقق يتمم النموذج المعياري. لكنه يظل غير كاف وحده للإجابة على أسئلة أكثر جوهرية، مثل معرفة إذا كانت التفاعلات الأربعة الأساسية في الطبيعة لها أصل مشترك، كما يشرح لنا ألدو دياندريا Aldo Deandrea
، وهو نظري في جامعة ليون الأولى: "إذا اكتشفنا جسيم هيغز، وفقط جسيم هيغز، متجانس مع النموذج المعياري، فإننا لن نعرف عندها ما الذي سنفعله وكيف سنوجه أبحاثنا بعد ذلك". وبالنسبة لمعظم الباحثين فإن مثل هذا الوضع لن يحصل، لأنهم يرون أن LHC
سوف ينتج العديد من الاكتشافات الأخرى. وكثيرون منهم ينتظرون مثلاً أن يكتشف المصادم العملاق جسيمات تنبأت بها نظرية تسمى التناظر الفائق – supersymétrie "SuSy"
– التي تقول بوجود "جسيم شريك فائق superpartenaire
" أكبر كتلة لكل جسيم معروف. يمكن أن يبدو مثل هذا الطرح معقدًا بشكل مدهش. لكنه يسمح بحل العديد من المسائل المتعلقة بالنموذج المعياري، ويفتح الطريق إلى نظرية أكثر جوهرية. وبشكل أدق، فإن نظرية التناظر الفائق تحل مشكلة طرحها وجود بوزون هيغز نفسه. فمثل بوزون Z
، فإن جسيمات هيغز يجب أن تكون مغلفة في الواقع بجسيمات افتراضية تزيد من كتلتها بشكل كبير. إن نظرية التناظر الفائق تفسر لماذا يكون جسيم هيغز خفيفًا بالدرجة التي يبدو عليها ما أن تميل للانعدام الآثار على كتلة جسيم هيغز للجسيمات ونظرائها الفائقة. تساعد نظرية التناظر الفائق أيضًا بتوحيد القوى الأساسية الأربع في الفيزياء، في حين أن النموذج المعياري لا يأخذ سوى ثلاث قوى بعين الاعتبار: القوة الكهرمغنطيسية، والتفاعل الضعيف والتفاعل الشديد. إن كثافة هذه القوى الثلاث تزداد مع مستوى الطاقة الذي تطبق عليه. أما في إطار التناظر الفائق فإن هذه القوى تمثل الكثافة نفسها على مستوى مماثل من الطاقة، قريب من طاقة بلانك. وبفضل نظرية التناظر الفائق فإن القوة الضعيفة والقوة الكهرمغنطيسية تتحدان بسهولة أكبر مع قوة الجاذبية في إطار نظرية تسمى النظرية الموحدة الكبرى كما يفسر فرانك ويلكزك Franck Wilczek
الحائز على جائزة نوبل عام 2004. المادة السوداء وأخيرًا، فإن SuSy
ستقدم تفسيرًا لطبيعة هذه "المادة السوداء" الغامضة، التي تساهم جاذبيتها الثقالية في تماسك المجرات. يعتقد الفيزيائيون أن المادة السوداء مؤلفة من جسيم، مستقر وحيادي الشحنة، لا يتفاعل إلا قليلاً جدًا مع المادة العادية. ويمثل حل الجسيم الفائق التناظر الذي يملك كتلة ضعيفة نسبيًا حلاً مناسبًا لتمثيل جسيم المادة السوداء. ومع كافة هذه العناصر التي تأتي في صالح SuSy
فإنها تبدو جميلة جدًا إلى درجة أنه لا يمكن أن تكون خاطئة. "إن كافة هذه المؤشرات يمكن أن تقودنا إلى الخطأ. لكن في هذه الحالة فإن علوم الطبيعة تكون قد مازحتنا مزاحًا ثقيلاً وسيئًا جدًا"، كما يقول ساخرًا فرانك ويلكزك. إن LHC
يمكن أن يؤكد ظاهرات فيزيائية أكثر غرابة أيضًا من التناظر الفائق. ومن بينها نذكر وجود عناصر مشكلة للإلكترونات ولجسيمات أخرى تعتبر مع ذلك أنها أولية غير قابلة للانقسام. بل وكذلك ثقوبًا سوداء دقيقة بل وحتى أبعادًا جديدة للفضاء، لا يمكن أن تكون آثارها محسوسة إلا على مستويات عالية جدًا من الطاقة. فيزياء غريبة جدًا إن هذه الأبعاد الإضافية ستسمح بشكل خاص بتفسير لماذا كثافة قوة الجاذبية أضعف بكثير من كثافة القوى الثلاث الأخرى. يقول مخائيل تاتس Michael Tuts
من جامعة كولومبيا: إن الحظوظ بأن يستطيع الـ LHC إثبات وجود هذه الأبعاد الإضافية هي حظوظ ضئيلة، ومع ذلك، فإن الاكتشافات التي سوف تتم من خلال هذا المصادم فائقة الأهمية من حيث كمونها، وكثيرة جدًا، بحيث تعطي للـ LHC طابعًا فائق الإثارة بالنسبة لنا نحن الفيزيائيين. وكما بالنسبة للإبعاد الإضافية، فليس ثمة أي ضمان بأن يكشف الـ LHC
عن ظواهر "غريبة". وهو أمر لا يمثل مشكلة بالنسبة لبعضهم، في حين أن اكتشاف جسيمات هيغز يمثل بذاته نجاحًا هائلاً. "إذا كان جسيم هيغز يمثل فعلاً ما يتوقعه النظريون الفيزيائيون، فإننا سوف نجده" كما يؤكد بيتر جني Peter Jenni
، وهو فيزيائي تجريبي في المركز الأوروبي للبحث النووي. ويضيف: "ولن يكون لدينا عندها أي سبب لكي نشعر بخيبة الأمل". ذلك أن الفيزيائيين يتفقون على الأقل على أمر واحد: فبعيدًا عن الجدل الذي سيثار في حال الغياب الكلي لأي اكتشاف من الاكتشافات الهامة المتوقعة، فإن مثل هذا الوضع سوف يكون بذاته مصدرًا للمشاكل، وخاصة لدى الجهات الحكومية التي مولت الـ LHC
. يقول جوناثان إليس: تخيلوا أننا نقف أمام مجلس المركز الأوروبي للبحث النووي ونقول له: شكرًا جزيلاً. لقد أنفقنا مليارات اليورويات لنتوصل إلى أنه ليس ثمة ما نكتشفه في هذا الطيف من الطاقة. إن الإحباط سيكون كبيرًا... من جهة أخرى، فإن اكتشاف الهيغز، إنما الهيغز وحده، سيعقد كثيرًا جهود الفيزيائيين الذين كانوا يحاولون إقناع حكوماتهم ببناء مصادم الجسيمات الكبير المستقبلي، وهو مشروع يسمى المصادم الخطي الدولي، أو ILC
. سيكون هدف هذا المصادم الذي سيكلف نحو 6.5 مليار يورو تحديد مضمون الفيزياء الجديدة التي سوف يعلنها المصادم الحالي LHC
. وتقضي الخطة بأن يقوم الـ ILC
عبر مصادمة الإلكترونات بمضاداتها من البوزيترونات بإنتاج آثار تصادم أكثر "وضوحًا" قابلة كما يعتقد العلماء لأن تكشف خصائص الجسيمات الجديدة، وهي خصائص سوف تظل محجوبة نسبيًا من خلال مصادمات الـ LHC
. لكن أن يكون الهدف الوحيد من الـ ILC
هو فقط دراسة خصائص الهيغز، فإنه سيكون مكلفًا جدًا وسيكون من الأصعب تسويقه لدى الممولين من الحكومات. من جهة أخرى فإننا ننسى عادة في خضم مناقشاتنا لما سوف تسفر عنه التجارب أننا لا نعرف كل شيء يمكن أن تسفر عنه حقًا. ويرى جوس أنجلان Jod Engelen
المدير العلمي في المركز الأوروبي للبحث النووي "أن ما سوف نكتشفه سيكون متجاوزًا لكل آمالنا". ربما ما هو أكيد هو أن الجميع يأمل بألا تكون الهيغز آخر الأسئلة والكلمة الأخيرة في المعرفة الفيزيائية! اختراع فيزياء جديدة من جهة أخرى ثمة فيزيائيون يتخيلون منذ عدة عقود نظريات أخرى غير تلك المقترنة ببوزونات هيغز. وهم ينتظرون أيضًا تجارب الـ LHC
ليضعوا حلولهم على محك التجربة. وفي هذا الإطار وجه السؤال التالي إلى كريستوف غروجين: - إن الهدف المعلن من LHC
هو اكتشاف بوزون هيغز. لكنكم تعملون على نماذج لا توجد فيها هذه الجسيمات. ألا تشعرون قليلاً أنكم معزولين عن المجتمع العلمي للفيزيائيين؟ فأجاب غروجين Christophe Grojean
: على الإطلاق. صحيح أن أعمالي تتعلق بنماذج تتجاوز بوزون هيغز – هذا الجسيم "الإعلامي" الطابع منذ عدة سنوات، وخاصة منذ البدء بمشروع الـ LHC
. لكن الهدف الأساسي من هذا المصادم الضخم ليس اكتشاف جسيمات هيغز بحصر المعنى. بل يتعلق الأمر بإثبات وجود وأنماط الرابط الذي يوحد اثنين من التفاعلات الأساسية للفيزياء: القوة الكهرمغنطيسية والقوة النووية الضعيفة. تبدو هاتان القوتان للوهلة الأولى مختلفتان جدًا عن بعضهما بعضًا. إن التفاعل الكهرمغنطيسي ذا المدى البعيد بل واللانهائي ينتقل بواسطة جسيمات كتلتها معدومة – هي الفوتونات. أما التفاعل الضعيف فهو ليس محسوسًا إلا على المستوى ما تحت الذري، والجسيمات الناقلة لهذه القوة، أي بوزونات W
وZ
فلها كتلة مرتفعة جدًا. مع ذلك يقول النموذج المعياري لفيزياء الجسيمات أن لهاتين القوتين أصل مشترك. ولكي يُفسِّر كيف انفصلت أو تمايزت القوتان خلال مرحلة بعيدة من تاريخ الكون قام بيتر هيغز Peter Higgs
وفرانسوا إنغلرت François Englert
وروبرت بروت Robert Brout
في عام 1964 ببناء آلية سميت انكسار التناظر الكهرضعيف. ووفقًا لنظريتهم فإن بوزون هيغز، وهو جسيم أولي كبير الكتلة جدًا، ينقل أو يحول أقل كمية من الطاقة من القوة "الكهرضعيفة"، كاسرًا بذلك التناظر الأصلي. غير أن فرضيات أخرى تظل ممكنة لتفسير هذا الشرخ في التناظر، وهذا ما يفعله كريستوف غروجين للبرهان على ذلك مع عدد من النظريين الآخرين. ويقول: أنا أشعر أنني أعمل على موضوع هو في قلب الاهتمامات الحالية للفيزياء. وأنا سعيد كون الـ LHC سوف يبدأ قريبًا بمراكمة المعطيات لإثبات أو نفي سلسلة من الفرضيات التي صيغت منذ نحو 40 سنة. كيف نفسر أنه بغياب إثبات تجريبي فإن غالبية الفيزيائيين يعتقدون بوجود بوزونات هيغز؟ هناك أسباب عديدة وراء ذلك. فثمة مجموعة من المؤشرات غير المباشرة التي تم الحصول عليها من المسرعات الأخرى. وهي تدعم أو تظل على الأقل متوافقة مع وجود جسيمات هيغز. إضافة إلى ذلك لا تزال جسيمات هيغز حتى اليوم مع الآلية المرتبطة بها هي الفرضية الأكثر بساطة لتفسير كيفية حصول الشرخ في التناظر. و"البساطة" لها ميزات من مستوى إبستمولوجي، حتى وإن كان من المهم أن نشير هنا إلى أن الآلية التي نحن بصددها صيغت بطريقة مناسبة من أجل جعل انكسار التناظر ممكنًا. إن بوزونات هيغز تقدم تفسيرًا لكتلة البوزونين W
وZ
، ثم إلى كتلة جسيمات أولية أخرى. ولهذا فقد استرعت هذه النظرية اهتمام الفيزيائيين بسرعة، لأنهم في الماضي كانوا يواجهون دائمًا صعوبات غير قابلة للحل. مع ذلك فهي ليست نظرية كاملة تخلو من نقاط الضعف، وجسيمات الهيغز تطرح من الأسئلة بمقدار ما تحل منها وتجيب عليها. مثال ذلك أن كافة الأجسام الكوانتية تتميز بخاصية جوهرية تسمى اللف الذاتي، حيث يأخذ هذا اللف قيمًا مختلفة كاملة أو نصف كاملة. ولطبيعته يجب أن يكون اللف الذاتي لبوزون هيغز معدومًا. غير أننا لا نعرف حتى الآن أي جسيم أولي يملك مثل هذه الميزة (رغم أنه ليس ثمة ما يمنع ذلك بالنسبة لجسيمات مركبة). إن مثل هذه النقاط النظرية الغريبة وغير المفسَّرة هي التي دفعت وتدفع اليوم أيضًا بعض الفيزيائيين لمحاولة التخلي عن بوزونات هيغز وطرح أفكار جديدة. ما هي أهم هذه المحاولات؟ تم تطوير إحدى هذه المحاولات أو الفرضيات في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، واعتبرت لفترة على أنها الحل الأكثر مصداقية، وكان وراءها ليونار سوسكيند Leonard Susskind
، من جامعة ستانفورد، وستيفن واينبرغ الحائز على جائزة نوبل للفيزياء في عام 1979. سميت النظرية technicouleur، وهي تستلهم من الكروموديناميكا الكمومية – أي النظرية التي تصف التفاعل الشديد – لكي تدخل قوة جديدة تظهر عند مستويات عالية جدًا من الطاقة. وتطرح هذه النظرية هي أيضًا وجود جسيمات مماثلة للكواركات: وهي تتفاعل بقوة شديدة فيما بينها بحيث تشكل مجموعة يفترض أن تلعب دورًا مشابها لدور بوزون هيغز. وعندها فإن هذا الأخير لا يعود مجرد جسيم أولي، بل جسمًا مركبًا مؤلفًا من techniquarks
– تمامًا كما أن بروتونات ونترونات النواة الذرية تتألف هي نفسها من كواركات. وكانت بعض تنبؤات هذه النظرية قابلة للتحقق، مثل وجود غمامة من جسيمات جديدة ذات طاقة عالية جدًا. ولكن في التسعينيات من القرن الماضي لم يكشف المصادم السلف للـ LHC
(وكان يسمى LEP
) عن أي أثر لهذه الجسيمات في طيف الطاقة المنتظر. وبعدها تم توسيع هذه النظرية في نماذج عديدة. وسميت إحداها هيغز الصغير Little Higgs
وقد طورت بدءًا من عام 2002 من قبل فيزيائيين في جامعة هارفرد مثل هوارد جيورغي Howard Georgi
. وهي تحل المسائل الناجمة عن وجود هذه الغمامة من الجسيمات وهي إحدى النظريات التي يجب أن يمكن التحقق منها في الظروف التجريبية للمصادم LHC
. أما كيف توصل كريستوف غروجين إلى بلورة نظرية لا وجود فيها لبوزون هيغز، فيقول: أنهيت أطروحتي في عام 1999، في وقت كانت تجري فيه أبحاث كثيرة حول الأبعاد الإضافية الافتراضية للزمكان، والتي أدخلت من أجل حل سلسلة من المسائل التي واجهت الفيزيائيين. وتضاف هذه الأبعاد للأبعاد المكانية الثلاثة والبعد الرابع الزمن. ويمكن أن نشبه ذلك بالمثال التالي: يظهر طريق من السماء بشكل خط في بعد واحد. ولكنه عندما يقترب نلاحظ أن كل سيارة عليه تنتقل في بعدين، طولاني وعرضي لكي تتحقق إمكانية التجاوز على الطريق. وينطبق الأمر على هذه الأبعاد الإضافية. فهي تكون مرصوصة أو منطوية على نفسها، وتصبح محسوسة فقط على مستويات فائقة الصغر وعند مستويات من الطاقة فائقة الارتفاع. وكان الفيزيائيون الذين التقيتهم في بركلي خلال دراستي يستخدمون هذه الأبعاد من أجل محاولة توحيد كافة القوى الأساسية. وعند عودتي إلى فرنسا، جاءتني فكرة عملت عليها مع عدد من زملائي الأمريكيين القدماء، وهي استخدام بعض الأدوات النظرية الناجمة عن هذه الأعمال في دراسة انكسار التناظر الكهرضعيف. وهكذا بدأنا في عام 2003 بوضع نموذج أصيل لا وجود فيه لبوزون هيغز. ومذاك ونحن نعمل على صقل هذه النظرية، التي لاقت قبولاً في المجتمع العلمي على الأقل على المستويين الفيزيائي والرياضي. يتابع كريستوف غروجين قائلاً: إننا نفترض وجود بعد خامس مدمج في الزمكان. وهو يمثل هندسة قطعية حيث تنتقل على امتدادها جسيمات كوانتية. كان أينشتين قد بين في صيغته المعروفة E = mc2 أن الطاقة والكتلة والدفع هي قيم مرتبطة فيما بينها. وبالتالي فلا شيء يمنع أن نترجم حركة جسيم على طول بعد إضافي كجزء من كتلته، تمامًا كما يظهر في زمكاننا الرباعي الأبعاد. وبشكل أدق، فإن هذه الكتلة تكون محددة وفق الطريقة التي يسلك فيها الجسيم على أطراف البعد الخامس. إذ يمكن مثلاً أن يقفز بشكل عنيف فوقه أو يمكن أن يتم "امتصاصه"، إلخ. وأشكال السلوك هذه عندما ننظر إليها من منظور الفيزياء الكوانتية تشكل تكميمًا لطيف الكتلة عند قيم محددة. وهكذا مع حفاظنا على مكتسبات النموذج المعياري فإنه من الممكن إعطاء كتلة للبوزونين W وZ كما وللجسيمات الأخرى دون اللجوء إلى الجسيم الافتراضي المسمى هيغز. كيف يمكن اختبار هذه النظرية تجريبيًا؟ لسنا ننتظر أن يكشف المصادم LHC عن وجود البعد الخامس الافتراضي، لأن مستوى الطاقة الذي سيصل إليه المصادم، مهما كان عاليًا، سيظل غير كاف. بالمقابل، فإن أحد تنبؤات نظريتنا هو أنه ستوجد جسيمات تملك الخصائص الكوانتية نفسها للبوزونين W وZ، إنما كون أكثر ثقلاً بكثير وأكثر طاقة، حيث تقاس بين 500 و1000 مليار إلكترونفولط. إن هذه الجسيمات تحتل مكانة مركزية في هذه النظرية طالما أنها تلعب دورًا مماثلاً لدور جسيمات هيغز. وقد يمكن اكتشاف هذه الجسيمات، إذا كانت موجودة، بعد مضي سنتين على إقلاع وعمل الـ LHC. لقد حاولنا أن نأخذ بعين الاعتبار مجمل الفرضيات المطروحة، وبينها عدم وجود جسيمات هيغز، ثم طورنا حلولاً بديلة. لكنني مع ذلك لن أصاب بالإحباط إذا ما أعلن عن اكتشاف جسيمات هيغز. والحقيقة أن هذه اللحظات من الترقب والانتظار التي يعيشها المجتمع العلمي لحظات لا تعوض، لأنها تكون عادة على تخوم الاكتشافات الجديدة. وهي لا تتكرر إلا خلال بضعة عقود. ما بعد الـ LHC يتفق مجمل فيزيائيو العالم على بناء المسرع المستقبلي للجسيمات المرجو إطلاقه في عام 2020. وهو يسمى ILC
، وهو مصادم خطي حيث ستصادم فيه الإلكترونات والبوزيترونات. فقد وقع 1800 فيزيائي من 325 مؤسسة علمية من العالم كله على ILC Reference Design Report
. وهو تقرير من أربعة مجلدات يحدد صفات المصادم الخطي الدولي المستقبلي International Linear Collider ILC
. يبلغ طول هذا المصادم 31 كلم. وعلى الرغم من أنه لم يقرر بعد بشكل رسمي ولم يمول، كما لم يحدد موضعه، لكن الفيزيائيين يأملون البدء بالعمل به في عام 2020. لا تتصادم البروتونات في هذا المسرع كما في LHC
، بل إلكترونات وجسيمات المضادة، البوزيترونات. وذلك بطاقة تتراوح بين 0.5 و1 ترا إلكترونفولط. ونعلم أن 1 تيرا إلكترونفولط تساوي 1000 جيغا إلكترون فولط، الذي يساوي مليار إلكترونفولط، وهي واحدة لقياس الطاقة والكتلة. وبالتالي فإن التصادمات فيه ستكون أقل شدة مما في LHC
حيث تبلغ 14 تيرا إلكترون فولط. لكنها بالمقابل سوف تكون أكثر خصوبة. فالتصادم بين بروتونين، وهما عبارة عن تجمع من الكواركات والغليونات، هو تصادم معقد جدًا. ومن بين العديد من التصادمات التي تتم بشكل متزامن فإن التصادم الذي يمكن أن يهم العلماء يكون مشوشًا بسبب التصادمات الأخرى بين الجسيمات. أما الوضع في الـ ILC
فسيكون أكثر "نظافة وترتيبًا" بكثير طالما أن الإلكترون والبوزيترون هما جسيمين أوليين. فالتصادمات تحصل الواحد بعد الآخر. من إشكاليات هذا المصادم الجديد أنه لن يكون على شكل حلقة مثل LHC
. ذلك أن الإلكترونات الأخف بكثير من البروتونات تفقد طاقة أكبر بكثير من الإشعاع السينكروتروني (وهو إشعاع كهرمغنطيسي يصدر وفق معادلات مكسويل من كل جسيم وفق حركة غير منتظمة) ما أن نجبرها على اتخاذ مسار دائري. لم يكن ذلك مزعجًا في بناء المسرع القديم LEP (Large Electron-Position)
بطاقة 200 جيغا إلكترونفولط في المركز الأوروبي للبحث النووي، لكن الخسارة في الطاقة تصبح أكبر بكثير عندما نريد الوصول إلى تصادمات بطاقة على الأقل 500 جيغا إلكترونفولط. ولهذا سوف يكون ILC
مجمعًا من مسرعين ضخمين مستقيمين ومتواجهين. وسوف تسرَّع فيه الإلكترون والبوزيترونات كل منها من جهة بواسطة حقول كهربائية في التجاويف المبنية الواحد خلف الآخر على امتداد أكثر من 15 كلم. ولكي يمكن الوصول إلى نسب من التصادمات كافية لدراسة الظواهر الأكثر ندرة بعدد مقبول من السنوات، فإن حزم الجسيمات يجب أن تكون مركزة بشكل فائق على نقطة التصادم: أي على عرض أقل من 1 ميكرومتر وسماكة 6 نانومتر. *** *** ***