مكنة تطير – ليوناردو دافنشي
يخطر ببالي هذه الأيام أن أكتب عن اكتساب المهارات والمعارف. السؤال الأساسي في هذا الموضوع بالنسبة لي هو كيف هي الطريقة المثلى لاكتسابها بغية انتاج ما هو ذي قيمة. ولكي لا يكون الموضوع مغرقاً في العموم شبيها بفلسفة حبر على ورق، لنلق نظرة على عدة جوانب ونتلمس ما يظهر من واقعنا والمحيط الذي نعيش فيه.
المسألة ستكون سهلة لو كان المرء يعرف ما سيحب في حياته ويهوى باكراً دون تدخل الظروف، ثم يشرع في ذلك ولنقل أن عامل الوقت والمال والإمكانيات ليست في المعادلة :)، يحب المرء شيئاً واحداً، ويمضي فيه، ثم ليكن أمر ذلك الشئ سهلاً. الواقع ليس كذلك حتماً في العموم!
أختصر وأقول، يهمني الحديث عن أولئك الذين يريدون أن يطوروا من أنفسهم في مهارات ومعارف وينتجون، يهمني الحديث عنهم أكثر من أولئك “المشغولين بلا شغل” وغير المشغولين بتاتاً تسعفهم طمأنينتهم!
الذين يعملون على أنفسهم، تبرز منهم مجموعة، تقضي كثيراً من الجهد والقراءة والبحث والمراس بما يرجع عليهم ببعض السلبيات التي لا تحمد عقباها. من أخطارها أن يصيبهم مقدارُ الجهد والاهتمام الذي يكلّفون بهم أنفسهم، بالخمول وذهاب الهمّة أو تغيّر توجههم إلى شئ آخر أو التوقف. و قد يؤخرهم في الوصول لمبتغىً يرضيهم أو أن يرضوا بمبتغىً مزيّف وقعوا فيه بعد ضياع.
أما الفريق الذي يستعجل، فتراه ينتج ما ليس له قيمة في المجال ذات بال أو يغيّر استعجاله اعتباره للقيمة المفترض أن يتوخاها إلى قيمة أقل المستوى دوماً.
الحال أكثر تعقيداً عندنا مما اختصرت من توصيف، يتداخل فيه كثير من الأمور المتعلقة بهذا الانتاج إن كان هو الشغل الأول في حياة الفرد يعيش منه أو هو اهتمام أول بعد وظيفة أو غير ذلك. يتداخل مع ذلك الجمهور – من أي نوع – الذي يقّيم أو يستقبل المادة ويحدد قيمتها ويكون له رد فعل. يتداخل مع مقدار الاطلاع والمثل العليا والأثر المرجو.
لنقل أننا استبعدنا فريق الاستعجال واهتممنا بالفريق الآخر المذكور الذي يهتم بالتفاصيل وبأكبر قدر ممكن من التأني والمثالية و يواصل دونما ضمور في الجهد والحماس أو تغير في التوجه. ما هي مشكلة هذا الفريق؟
بالتأمل هنا والتقصي، يمكن أن استشف طبيعة تكوين هذه المشكلة. تبدأ المشكلة من نظام التعليم. ونظام التعليم، حتى لو افترضنا – جدلاً – أنه نافع مفيد ومخرجاته مرضية، فإنه في الوضع الحاضر يعلمنا أن المعرفة والمهارة موجودة بين دفتي كتاب أو فهرس مادةٍ هذا أولها وهذا آخرها. إضافة إلى ذلك، ينشئ عند الطالب انطباعاً أن الموضوع هو “هكذا” وهذه معرفة ومهارة مجموعة في مكان واحد لخبراء ومتمرسين، إن أردنا أن نكون مثلهم أو نصل لمراتب عليا، فما علينا إلا السمع والطاعة. هذه الحال هي تربية على التبلد و تخدير التساؤل وحسن الطاعة والإستماع. هذا لا يخلق منا أفراداً مبدعين ومجددين ولا شخصيات ذات قيمة. الذين استنفعوا من هذه المواد هم من تمردوا عليها وتجاوزها إلى جوهر الأشياء و معانيها وكيف كانت واخترعت ولِمَ هي هكذا إلى طريقة تفكير هؤلاء الخبراء ونتائجهم ولم هذه محتويات مناهجهم ومتونهم. كيف يمكن أن نتصور منهجاً شاملاً لا يتغير ولا ينموا كل يوم ولا يصاغ كل يوم من جديد محتوى وترتيبا؟
إن خرجنا من جو المناهج والمتون الدراسية، لاحقتنا هذه الظاهرة في الكتب الثقافية وفي حلقات مجالات الاهتمام ممن نعتبرهم أساتذة ورواداً ومثالاً أعلى. إنها حال السمع والطاعة.
قد يكون الوقت المناسب الاطلاع على المجال بكل التفاصيل عمقاً و اتساعاً هو وقت سؤال البحث عن منجز الآخرين وماذا نريد أن ننجز مختلفاً عنهم أو جديداً على ما قدموا. وهنا لن يكون الحال حال سمع وطاعة.. إنها حال سؤال واستقصاء وانتباه تام.
وليست هذه دعوة للتجاهل والتسرع والقفز إلى الانتاج الفارغ. نحن هنا نفترض ثقافة وفكراً يسبق الانتاج وليس الانتاج عملاً سحرياً معاجزياً. ربما كان ذلك سهلاً في عصور البدايات في مجالات الإبداع هذه. أما وقد مر كل هذا الوقت وكل هذا المنجز، فلا بد من النظر والحكم ثم البدء في العمل على جديد نقدمه.
إذن ماذا نفعل؟
الحل هو أن تعرف بكل معنى الكلمة .. بجهد وسؤال وتقصٍ وعمل يليه تمرد وبحث. التفكير النقدي لا ينفك عن التفكير الأبداعي – بعيداً أي زيف كان. الحل مع ذلك في أن تبنى المهارة لبنة لبنة ثم يعمد الماهر على ما اكتسب وينتج من هذا الأخير الذي بناه منتجاً ثم يتقدم إلى غيره ثم يبني منه شيئاً أو يبني منه ومن سابق اكتسبه في مجال أو عدة مجالات إبداعاً جديداً وليكن ذلك في
صيغة مشاريع. هكذا كانت سيرة
ليوناردو دافنشي المتعدد المهارات والمعارف معلم نفسه حدّ الكمال والجدة وهذا هو حال الموسيقار محمد عبدالوهاب والكتاب العظام والروائيين والمثّالين والعلماء والمخترعين في زمن يتعلم في الفرد بكل شكل من التعليم ذاتياً ومن استاذ يعيش معه ثم يفوقه. كان ذلك قبل أن تأتي المدارس والجامعات التي أوهمتنا وأمرضتنا .. المدارس التي إن لم يتمرد عليها المرء سحقته وإن تركها خسر في زمن طغت فيه على كل بديل – ربما كانت كذلك قبل عقد من الزمن؟ الجامعات المختلفة والمعاهد المميزة هي تلك التي توفر مناهج متسعة حرة تعلم على التمرد والسؤال و الاطلاع والتجاوز وتنزل بالمرء من البروج العاجية إلى الواقع الملموس ومن ثم إلى واقع لم يك موجوداً، يوجده المبدع ويصيغه مع أمثاله من منافسيه.
خذ ما يكفيك الآن لتنجز جديداً ذا قيمة، ثم خذ ما بعده وتقدم، سخّر لك المكتوب والمسموع والمرئي ومن تعرف قريباً وبعيداً وتتلمذ وعش الإبداع والسؤال والبحث و واضب على الانجاز، وإذا أنجزت فليكن الكمال ملئ بصرك .. في هذا العمل المحدود. لن تندم عليه ما بقي خالداً.
نسبة سكان اليوم على هذه المعمورة أكبر بكثير من ذي قبل، ونسبة المبدعين في زمن ماض كبيرة ونتوقع نسبة أكبر من المبدعين اليوم، وهم يصبحون أكثر مما هم عليه لو عرفنا كيف هي سنن الامور بتسخير كل الوسائل المتقدمة وخبرات الأمس وذكاء اليوم وسنصل حتماً وسنكون مثالاً نحتذى كما احتذينا من سبقنا من العباقرة ثم تجاوزناهم .. ثم يأتي من يتجاوزنا.
ننظر في سير العباقرة ونتبناها في عصر ثورة المعلومات والإمكانيات والثروات البشرية والطبيعية وتحسن في الحال والاقتصاد .. ونقول لا ينقصنا شئ غير أن نعود حقيقيين وننزع عنا لباس السمع والطاعة ونعود يقظين سائلين باحثين مفكريين نقديين ونجدّ ونعمل ونتقن .. نعرف ما كان ونصنع ما يكون.