يوم أمس عزيزي القارىء حلمت حلماُ ، لاأخفيكم ، مزعجاُ ومقلقاُ للغاية ، فقد حلمت إن مذنباُ هائلاُ كغول متوحش يرتطم بالكرة الأرضية ، ويفتتها ويشظيها شر فتات وشظايا . فماذا لو أن فعلاُ ، لاسمح الله ، ولسبب مجهول أو معلوم ألغيت الكرة الأرضية من ضمن المجموعة الشمسية .
فإذا ما أنمحت الأرض وأندثرت وذوت كأنها ما كانت ، فما الذي سيحدث في حال قناعتنا إن هذه الفرضية ليست وهمية ، وما هي النتائج التي من الممكن أن تظهر على السطح وتتمظهر في وقائع حدية وميتودولوجية تصارح ذاتها ، وهل من الممكن أن يتغير نمط طريقتنا في التعامل مع منطقنا الأرضي ، وهل ستبقى مشاكلنا الفلسفية وهمومها تعالج بنفس الطريقة التقليدية ، وماذا عن الأطروحات العقائدية أو الفلسفية التي أعتمدت في جوهرها – ودون أن تدري – على أزلية الكرة الأرضية ، وعلى أبدية كائنية الفرد الأنساني .
أعترف إن القضية معقدة جداُ ، بل قد تبلغ مستوى فاحش الصعوبة ، لكن أطمئنكم ، كلما ولجنا إلى غياهبها ، كلما أضطرت ، هي ، أن تنخضع للصيرورة وتنكشف على سطح الوعي العام ، لأنها ، مثلها مثل كل ما هو غائب في ذهننا ، إن نوقشت جادلت نفسها ، وباحت بمكنوناتها ومكوناتها .
فالقضية جدية وحدية ، والخطورة قائمة عملياُ ، والفرضية لايرتاب فيها أحد ، ولايمكن لكائن من كان ومهما كانت صلادة حججه وصلابة ذرائعه ومتانة منطقه وتماسك رؤياه الفلسفية ، أن يلغي هذه الأمكانية ، لذلك لن نعالجها من زاوية الأحتمال الرياضي ، إنما سنثقب حجابها من منظور البعد الفلسفي فقط . ولكي لانلبث في محيطها لامحيص ألا أن نقذف بأنفسنا مباشرة في لججها السحيقة ، لجج ما وراء المحيط ، ونقول إننا إزاء فرضيتين لاثالثة لهما .
الفرضية الأولى : إما أن تكون الكرة الأرضية ضرورة تاريخية في وجودها ، في كائناتها ، في جغرافيتها ، في مدارها ، في علاقتها بالمجموعة الشمسية وبالمجرات وما وراء المجرات .
الفرضية الثانية : إما ألا لاتتمتع بأي ضرورة تاريخية ، وليست في النهاية سوى جرم سماوي ، مثلها مثل بليارات الأجرام السماوية الأخرى ، لكنها تختص ، ربما على خلاف الأجرام السماوية الأخرى وربما لا ، بوجود كائنات لاتحصى ولاتدرك وظائفها ولاطبيعتها ولانوعيتها ولاأشكالها .
وأسمحوا أن أمايز ، في الحال الأولى ، ما بين ثلاثة أبعاد .
البعد الأول : هل ثمت سبب موضوعي بنيوي يجعل من الكرة الأرضية ضرورة تاريخية ، بمعنى هل هنالك سبب مؤسس مسبق يضفي عليها طابع الضرورة ، أم علة ( والعلة أقوى من السبب ) لايمكن الحياد عن كنهها .
البعد الثاني : هل الضرورة التاريخية تلحق بالكرة الأرضية لجهة معينة ( ولايقصد من ذلك جهة حية ، جهة ذات كائنية ) ، بمحتوى هل ثمت جهة ما تفرض نفسها عليها لأن ذلك من أسسيات سلوكها الحتمي .
البعد الثالث : هل الضرورة التاريخية تلحق بالكرة الأرضية لغاية معينة ، لهدف محدد ، لتصور يراد تحقيقه ، بفحوى هل ثمت بعد ما ورائي أو ما هو ورائي تستطيع الكرة الأرضية أنجازه أو تحقيقه دون الأجرام السماوية الأخرى .
هنا قد ينبري أحدهم ويزعم أن الأبعاد الثلاثة لها طبيعة واحدة ، فلماذا التمايز القسري ، في الحقيقة هذا التشابه ظاهري وشكلي ، لأن عند التدقيق والتمعن تتباين مجالات كل بعد على حدة ، بل أوشك أن أقول إنها تتضارب فيما بينها أشد التضارب ، فالأول هو سبب موجود يتصرف وفق منظور مفتوح ( الحتمية البسيطة ) ، والثاني هو جهة مجالها ما بعد الأول وأضعف سلوكياُ من الثالث ( الحتمية المقيدة ) ، والثالث هو جهة تملي عليها إرادتها أن تصادر إرادة الكرة الأرضية ( الحتمية المنغلقة ) .
الآن وبمجرد الأقرار بوجود أي نوع من أنواع الحتميات أو أي شكل من أشكال الضرورات التاريخية ، ينبغي ، إذن ، عندها أن نمتنع عن الأسترسال وأن نقف على عتبة عدم الدخول إلى المنطقة الغائبة ، لأن كيف سيتسنى لنا أن ندرك ماهو هذا السبب الموضوعي ، أو ما هي هذه الجهة المعينة ، أو ماهي هذه الغاية أو ماهو هذا القصد ، لأن لو أنكشفت تلك المعطيات لوسمنا القضية بالمصادرة على المطلوب ، أو تحديدأُ ، وعلى الأقل ، مصادرة التجربة نفسها وقيمتها التاريخية ، وبالتالي غدت كل الأسئلة عاقرة لاموضوعية فيها ، طالما أن الحيثيات تسير وفق ميكانيزم لاحياد عنه . مع أخذ جوهر الأعتبار إن ذلك الأقرار لايمت إلى مجال يمكن تصنيفه ضمن مؤسسات المنطق المشترك أو العقل العام ، وإن كان من الممكن أدراكه ضمن سياق نسميه تجاوزاُ إحدى خاصيات العقل الخاص .
ومن زاوية معاكسة تماماُ ، كيف يمكن لنا أن نعي الضرورة التاريخية ، إذا كان لامناص من وعيها ، خارج السياق التطور العام ، أو التطور الخاص الطبيعي ، لأن القضية ، بخلاف ذلك ، ستكون لاقضية ، فلا مقدمات لها ، ولاعلاقات رياضية – فيزيائية ، ولا نتائج مستنبطة صحيحة . وهذا ما يفضي بنا إلى القول إن القضية ، هنا ، أنحصرت ما بين البعد الأول ، السبب البنيوي الموضوعي ، والفرضية الثانية ، لاوجود لأي ضرورة تاريخية .
إذن يمكن أن نختزل الطرح العام ما بين أمرين هما في الحقيقة أمر واحد ، هو أن لابد من مفهوم التطور العام لكي نؤسس عليه أما ضرورة تاريخية ، أو محتوى الموضوعية العامة أو الخاصة .
هنا قد ينبري أحدهم مرة ثانية ، ويؤكد طالما إن ثمت أقرار للمبدأ ، التطور العام أم التطور الخاص الطبيعي ، فما قيمة التفسير الذي يعد لاحقاُ . ليت الأمر كان كذلك ، فهو مشكل ويقتضي جملة من المفاهيم .
المفهوم الأول : من حيث المبدأ ، في حال الضرورة التاريخية تبرز الأرض كمفهوم / كوجود لايمكن إلا أن يكون ، ولايجوز النزاع في مستوى الأسباب الطبيعة المقصودة المنغرسة في داخلها ، لكن في الفرضية الثانية أي كونها جرم سماوي فوجودها كان يمكن ألا يكون ، ووجودها الفعلي الآن ليس إلا نتيجة تطور في العوامل الطبيعية الأساسية المكونة – للكائن – الجد الأول للكرة الأرضية ، والمجموعة الشمسية ، وغيرها .
المفهوم الثاني : من حيث المحتوى ، في الحال الأولى ، قد يفترض) بضم الياء ) زرع أو ألقاء تلك الأسباب الموضوعية في داخلانية الأرض والمجموعة الشمسية ، لكن في الحال الثانية ، فإن الكرة الأرضية هي التي أكتشفت نواميسها وقوانينها ، بل هي التي صنعتها ، وبالتالي فإن مفهوم التطور ليس واحداُ في الحالين ، في الحال الأولى ، التطور هو صعود وحركة ودوران ، وفي الحال الثانية ، التطور هو النمو ، والنشوء ، والأرتقاء تماماُ .
وهذا المفهوم هو الذي يتطابق جذرياُ مع حركة الكرة الأرضية فعلياُ في مدارها ، فالأرض لاتتحرك في الفراغ أو في مدار وهمي كما يزعم البعض ، إنما تتحرك في مدار فيزيائي فلكي قائم بالفعل ، تماماُ مثل طريق زراعي معد لحركة السيارات ، فالأرض في مدارها مثل السيارة في طريقها الزراعي ، لكن على خلاف في الطبيعة ، وخلاف في التكوين . وفيما يخص الخلاف في التكوين هو إن المدار يحتضن الأرض من كل الجوانب ويقودها ، وفيما يخص الخلاف في الطبيعة هو أنه ليس مستقراُ جامدأً صلداُ ، إنما هو نفسه يتكيف بل يتطور مع حركة الأرض بصورة عامة ، ومع الحيثيات المستجدة في – الكون – من عوامل فيزيائية رياضية .
وهكذا إذا ما أندثرت الأرض فالمدار يبقى كوجود حيوي ، وسيخضع للشروط الجديدة بل وسيتكيف معها ، أنطلاقاُ من مرونته ومن نفحته الداخلية ، وسيتغير شكله الداخلي أيضاُ ، وسيسعى بصورة طبيعة إلى إعادة التوازن في المنطقة المنكوبة بأندثار الأرض ، وهذا ما سيخلق شروط جديدة ليس في محيطه ، إنما في الأعماق كلها .
المفهوم الثالث : من حيث النتيجة ، كل ما يترتب على الحال الأولى من النتائج ، نقسمها ما بين مجالين ، المجال الأول هو التصور الفلسفي المسبق الذي يحدد إطاره وكأن الكرة الأرضية نتيجة له ، وبالتالي وكأن المنطق الأنساني هو خارجي . أما المجال الثاني : هو عدم التطابق ما بين جوهر ذلك التصور وروح وجوهر الفيزياء الرياضي . أما كل ما يترتب على الحال الثانية من النتائج ، هو عدم وجود نتائج خاصة أبدية بحد ذاتها كمفاهيم ، لإن التطور هنا مطابق ما بين التصور والواقع ، ولإن المجال الفيزياء الرياضي هو الذي يقود حيثية العملية الكونية ويحتضن الكرة الأرضية كجزء تابع لها ، تابع بسيط لكن حقيقي .
وهكذا ندرك إن الكرة الأرضية ليست إلا جرماُ سماوياُ مثل الأجرام السماوية الأخرى ، وتخضع لشروطها الخاصة في النمو والنشوء .