2011-09-18 دراما الاتصال في المجتمع المعقّد
|
| |
يتميز المجتمع المعقد – والمقصود به المجتمع الغربي المعاصر – بالتقسيم
الشديد للعمل الاجتماعي. وهذا التقسيم أدى إلى اختلاف أفراد المجتمع في
خبراتهم واهتماماتهم، ذلك أن التخصص (المفرط) أصبح عالم الفرد ككل والذي
يتعذر الانفلات من دائرة نفوذه وتأثيره في قيم الفرد وسلوكياته، أي حياته.
ويكون التضامن العضوي على النحو الذي حلله بإسهاب دوركهايم محل إشكال في
غياب نظام أخلاقي فاعل يدفع المجتمع إلى التشبث بالعقد الاجتماعي المعنوي.
فقد تفككت الروابط العائلية إلى حد كبير، وتقلصت سلطة الكنيسة والقيم
الدينية ولم تعد القيم الموحدة ذات جاذبية، كما أن النخبة المثقفة لم تعد
تشكل آراء المجتمع وأذواقه. وقد شبه بلومر هذا المجتمع (الجماهيري) بجمهور
العرض السينمائي، إذ يتكون من أفراد (منفصلين عن بعضهم البعض ولا رابطة
بينهم ومجهولين)، فهو (أي المجتمع) (لا يحتوي على تنظيم اجتماعي ولا ثقافة
ولا قواعد من الطقوس ولا بنية للأدوار ولا قيادة).
ويرتبط المجتمع المعقد أيضاً بسيطرة الآلة والتقنية على مختلف مظاهر
الحياة، وأساساً السلوك الاقتصادي. فالآلة تجعل الحياة رياضية دقيقة ويذوب
الفرد في الوظائف التقنية ويتخذ الوجود، في نظر بال، (طابع القناع). وفي
هذا المجتمع، يكون الفرد مبرمجاً وفق متطلبات الآلة من دون روابط (أو
عواطف) مع الإنسان الآخر. ويقوم هذا المجتمع على التنظيم البيروقراطي
الشديد في إطار منطقة الحياة (Rationalization) إذ يتوجه هذا التنظيم إلى
الفعالية والامتثال لنظام تسلسل السلطة واحتكار إصدار القرارات، وهو ما
ينزع المبادرة خارج هذا الإطار ويؤدي بالتالي إلى السكون والسلبية.
وتمتد خصائص هذا المجتمع إلى وسائل الاتصال التي تتصف بالاحتكار ونشر
دراما اتصالية في شكل ثقافة جماهيرية تسعى إلى توفير القاسم المشترك من
الأذواق والأفكار وسط واقع شاسع من القطائع والتشتت في مجال الاتصال.
وكانت الثقافة الجماهيرية محل نقد في الأدبيات الغربية يتعلق بعملها في
المجالات التالية:
1- ترسيخ قيم الامتثالية، إذ تعمل هذه الثقافة على إنتاج نمط من الإنسان الذي يؤدي دوره في المجتمع بصفة ساكنة.
2- القضاء على التنوع الثقافي في المجتمع.
3- إنشاء مجتمع استهلاكي بترويج بضاعات مرتبطة بالإنتاج الاحتكاري المربح... إلخ.
يتضح من هنا أن المجتمع المعقد يعمل على إقامة الحواجز البنيوية والثقافية
التي تحول دون قيام الاتصال المتبادل، خصوصاً في ما يتعلق بصيرورة التأثير
في مسار الأحداث الاجتماعية بالشكل الذي يحقق أهداف المجتمع ومصالحه. ويتم
تدعيم، بل تثبيت هذا اللاتصال، باللجوء إلى الدراما في قالب بضائع ثقافية
إعلامية تعمل على إنشاء وبناء حقائق مسرحية وهمية تحجب واقع المشاهدين من
الجمهور في الوقت الذي تقدم على أنها الحقيقة ذاتها.
ويمكن أن نحدد مجالات الدراما في المجتمع المعقد في الاقتصاد (ترويج السلع
والخدمات) والحياة السياسية (تسويق الأفراد أو الجماعات) والمؤسسات
الصناعية والبيروقراطية (عرض الصور الذهنية المقترنة بعالم العلاقات
العامة) والأنظمة التعليمية والفنون والآداب (نشر الأفكار
والايديولوجيات)... إلخ. وفي هذه الميادين، فإن الأداة الأساسية في تقديم
الدراما تتمثل في التلفزيون. وتتمثل الآليات المستخدمة في الصور واللقطات
الإشهارية والبرامج التشهيرية لأنماط الاستهلاك وقيمها، والتي عادة ما
تندس اندساساً لا شعورياً في ثنايا الدراما الترفيهية والأفلام والمسلسلات
والحصص الخاصة بعرض المنتوجات والأزياء... إلخ. وتشمل أيضاً النشرات
الاخبارية والتصريحات والندوات والزيارات الرسمية والاستقبالات والحفلات
والأشرطة الوثائقية.. إلخ. كما تتضمن العديد من الاشتقاقات الرمزية
والرومنسية، ومن تلك الدراما التي تعد على المستوى المكبر خلف الستار.
ويتم تقديم هذه الدراما من أجل إنشاء الانطباعات الذهنية والنفسية الموجبة
التي تربط الأفراد أو المؤسسات بخصال النوعية والفعالية وما هو أفضل. إن
الطابع الدرامي الذي تتسم به المواد الثقافية الاستهلاكية التي تقدمها
وسائل الاتصال تعمل على إقناع الجمهور بحقيقة الحقيقة التي يتم ترتيبها
وتحضيرها خلف الخشبة بمخرجين ونصوص وجيش من الممثلين، وذلك دوماً بغرض
التحكم في علم إدارة الانطباعات، إن صح هذا التعبير، واضفاء الشرعية على
المؤسسات والقائمين عليها بالاعتماد على ايديولوجية المصلحة العامة
للجمهور. ويمتد هذا العالم الذي تؤسسه وسائل الاتصال إلى العلاقات
الاجتماعية في عالم الحياة، والتي بدورها تنتج وتعيد إنتاج علاقات درامية،
وتتقمص أدواراً مسرحية، وتمتثل لما هو متوقع لتحقيق أغراض المسرحية في
المجال الامبريقي الذي يميز الأفراد في علاقتهم الاتصالية الاستعمالية.