“إن الهدف البعيد للأنتروبولوجيا البنيوية، يقوم على إعادة إدماج
الثقافة في الطبيعة وفي النهاية، في الحياة، في مجموع شروطها الفزيائية
والكميائية”. كلود ليفي ستروس، الفكر المتوحش.
رحل كلود ليفي ستروس عن عالمنا عن عمر تجاوز المائة سنة بشهور قليلة،
ولذلك ارتأى منبر الحرية تقديم هذا المقال تخليدا لذكرى مفكر عظيم أغنى
الفكر السياسي العالمي، وترك وراءه إرثا ثقافيا وفكريا كان ولازال محل
نقاشات واسعة داخل الأوساط الفكرية.
ويعد كلود ليفي ستروس أحد رواد الأنتروبولوجيا في عالمنا المعاصر، أثر
في المناخ الفكري الفرنسي والعالمي. ولد يوم 28 نونبر 1908 ببروكسل لأبوين
فرنسيين، تلقى تكوينا قانونيا في بداياته حيث حصل على الإجازة في الحقوق،
ليدرس بعدها الفلسفة في جامعة السوربون بفرنسا.
وكانت سنة 1934 سنة متميزة في حياة ليفي ستروس حيث تلقى خلالها عرضا
لتدريس علم الاجتماع في جامعة ساو باولو البرازيلية، وهي الرحلة التي مكنته
من القيام بدراسات هامة للسكان الأصليين، حذر خلالها من توسع المجتمعات
المتطورة وتهديدها للطبيعة ولخصوصية بعض المجتمعات القائمة.
وأطرت هذه الرحلة نظريات ليفي ستروس فيما بعد، وخاصة أطروحته لنيل
الدكتوراه بعنوان ” البنى الأساسية للقرابة” والتي حصل عليها سنة 1949.
بعد عودته من البرازيل سنة 1939 اشتغل مدة زمنية بالتدريس بفرنسا لكنه
قرر الهجرة بعدها للولايات المتحدة الأمريكية خوفا من التهديد النازي
لليهود بعد سقوط فرنسا في أيدي الألمان، وهناك قابل عالم اللسانيات رومان
جاكبسون الذي اثر في التوجه الجديد لستروس حيث استعار منه المنهج البنيوي
ليطبقه على كل الوقائع الإنسانية فيما بعد، ويصبح بذلك أحد رواد البنيوية
في عالمنا المعاصر.
بعد عودته لفرنسا أسس معهد الأنتروبولوجيا بباريس، وترك إرثا كبيرا في مجال
الانتروبولوجيا والبنيوية، كالطوطمية اليوم(1962) حوارات حزينة(1955)
الانتروبولوجيا البنيوية (1958) العرق والتاريخ (1952) من العسل إلى
الرماد(1967) الفكر الوحشي(1962).
ولقد أصبحت البنيوية مع ليفي ستروس أحد أسس مناهج البحث الحديث وهي تقوم
على مرتكزات أنتروبولوجية وتهدف إلى إبراز أو إظهار البنيات الكامنة
اللاواعية التي تتحكم في الظواهر الاجتماعية وقد تأثر بكانط عندما اعتبر
أن الإنسان له بنية عقلية موحدة تتعالى على الزمان والمكان.
ويمكن القول أن البنيوية ساهمت في القضاء على الاتجاهات الوظيفية التي
سادت وهيمنت على الحقل الثقافي الغربي حتى الخمسينات من القرن الماضي.
وبنيت مرتكزات ليفي ستروس البنيوية على معارف وعلوم متعددة تراوحت بين
الفلسفة وعلم النفس والفن وأيضا الأدب، ويبدو هذا واضحا من إيمان ليفي
ستروس بضرورة خلق تعاون وتواصل بين مختلف ميادين العلوم الاجتماعية
والإنسانية، والاستفادة من كل النظريات.
ولعل هذا ما جعل البنيوية محل اتهام، خاصة من مفكري ما بعد الحداثة
كالفيلسوف جاك دريدا وفلاسفة مدرسة فرانكفورت كهابرماس وغادامير والذين
تأثرو بفكر ما بعد البنيوية والذين اعتبروا أنها نظرية شديدة الإغراق في
اليقينية العلمية والإطلاقية وتسعى إلى الشمول، وتهدف إلى تقديم تفسير موحد
لمجموعة من المشكلات الفكرية، وهو طبعا ما عارضه التيار الجديد الذي يؤمن
بنسبية العلوم الاجتماعية وعلى استحالة تمكن الباحث من كشف الطبيعة الباطنة
للظواهر والوصول إلى أعماقها كما أكد على ذلك ليفي ستروس.
لكن ليفي ستروس برر فكرته بكون البنيوية عندما تمارس وتطبق بكيفية
سليمة لا تهدف إلى تبليغ أية رسالة ولا تملك أي مفتاح قادر على حل جميع
المشاكل، كما أنها لا تدعي صياغة تصور جديد عن العالم وعن الإنسان.
ويمكن التأكيد على أن المنهج البنيوي يبقى مذهبا متميزا داخل حقل العلوم
الانسانية، يضم مجالات معرفية متعددة في إطار نظرة واحدة إلى العالم و إلى
طبيعة الأشياء، ومما لا شك فيه أيضا أن اسم كلود ليفي ستروس سيظل مرتبطا
ارتباطا وثيقا بما يسمى اليوم الانتروبولوجيا البنيوية.