2012-08-24 فلسفــــة الحــــدث عنــد ألان باديــــــو
|
| |
يعترف باديو بأننا نعيش في عصر
معقد إلى درجة أن لحظات التواصل والقطائع في الفكر تنسجم ولا تسمح لنا أن
نعبر عنها برؤية واحدة، لأن التعدد في الزمن يقتضي منا أن نقر بموقعنا..
ليس من السهل قراءة مشروع ألان باديو الفلسفي (ولد باديو في الرباط عام
,1937 درس الفلسفة في جامعة فانسان سان دوني بباريس منذ 1969 واشتغل مدير
برنامج في المعهد العالمي للفلسفة. روائي وكاتب مسرحيات وفكره الفلسفي
يتجلى في كتابه ”الكائن والحدث” الصادر عام 1988) لأن الأمر لا يتعلق
بموسوعيته الفكرية وإنما بمواقفه والتزامه ضد الحروب والاضطهاد والعنصرية،
وهو القائل في جريدة لوموند (العالم) الفرنسية بتاريخ 18 فيفري 2011 بأن
”تونس ومصر برهنا بأن ريح الشرق أزاحت كبرياء الغرب، فلنكن تلاميذ هذه
الحركات الثورية وليس أساتذتها الأغبياء”. وهذا النقد الذاتي مارسه على
الفكر الغربي عندما دعا إلى تفكيك علاقة الفلسفة بالشعر ليعبر عن خصوصية
الخطاب الفلسفي وتجاوز النزعة العدمية المعاصرة ، وحجته بأن أي حقيقة
تتكوّن داخل وضعيتها، وهذا السياق المعرفي جعل صاحب (الكائن والحدث) يتميز
عن فلسفات (الكائن والوجود) و(الكائن والعدم)، لأنه بالرغم إقراره بعالمية
الفلسفة فقد أكد على خصوصياتها الوطنية والثقافية، وهذا ما ينعته بلحظات
الفلسفة في المكان والزمان.
في تاريخ ألان باديو الفلسفي تحضر الرؤية الألتوسيريةـ نسبة لألتوسيرـ
فيثير ما يحرك الواقع من خلال إعادة اكتشاف ما بدا واضحا ومعروفا لدينا،
فعلى سبيل المثال في كتابه ”عظمة الحب”، ,2009 نجده على نقيض رولان بارت
(1980 – 1915) القائل بأن الفلسفة هي الحب، يتساءل: كيف نجدد علاقتنا
بالحب؟ هل من الممكن معرفة الفلسفة إذا لم تكن لدينا تجربة في الحب؟ أليس
الحب مهددا بالمواقع الإلكترونية؟ كيف يتموضع مفهوم الحقيقة في بناء علاقة
الحب؟
أما في ”بيان من أجل الفلسفة” الصادر عام 1989 يحدثنا عن العدد المحدود
للفلاسفة الأحياء في فرنسا، بل يعبر عن قلقه من المواقف المناهضة للفلسفة
وإدعاء البعض بأن زمنها ولى وانقضى، مثل لاكو لبارت (2007 1940 -) القائل:
”أبدا، لا ينبغي أن تكون لدينا رغبة في الفلسفة”، وفي هذا الصدد أيضا ذكر
ليوتار (1998 1924 -): ”الفلسفة كنظام هندسي سقطت”، فتساءل باديو: ”ألا
يمكن أن نحتفظ بفلسفة في سياق هندسة إلكترونية أو ككتابة عن الحطام أو
الأطلال أو كانفعال على الكتابة الحائطية؟” إنها صور المجاز عند ليوتار في
أسلوب التفكير المعاصر، فلم يجد فيلسوف الحدث ليدافع عن الفلسفة إلا
الاستنتاج بأن فلاسفة العصر (ليوتار ودولوز ولكو – لبارت وغادامير) لجأوا
إلى كتابة مقلوبة، ودعائم غير مباشرة، ومرجعيات منحرفة. وداخل هذه المراجعة
النقدية يظهر الإنذار العنيف فيما يخص الالتزام الوطني الاشتراكي للفيلسوف
هيدغر، وكأنهم وحدهم الفلاسفة يتحملون مآسي العصر وعليهم منذ أفلاطون
الإقرار بالذنب، مع العلم أن العلماء والعسكريون ورجال السياسة هم أصل
الدمار والحرب وكل انحراف ضد الإنسانية، في حين ترتفع قيمة علماء الاجتماع
والمؤرخين وعلماء النفس في البراءة، بينما يواجهون الفلاسفة بفكرهم الجرائم
التاريخية والسياسية. وبالتالي يكون من المفيد أن نتحرر من النزعة
الكليانية أو التوتاليتارية النظرية، فننظر إلى مثال هيدغر كتتويج لقرار
الشعب الألماني الذي جسده النازيون، فانتقل بالضرورة إلى فكر الأستاذ
المؤول، ولنتخيل ”النازية كما هي أليست موضوعا مقبولا للفلسفة، ألا توجد في
شروط الفكر الفلسفي كحالة تتشكل في نظام خاص؟ أليست حدثا بالنسبة لهذا
الفكر؟ وبالتالي نقول بأن النازية لا يمكن أن تكون موضوعا لا مفكر فيه”.
إن باديو يرفض التضحية بالفلسفة على حساب الأنانية، لأن محاكمة هيدغر
تحيلنا إلى إبادة اليهود في أوروبا، وهذا المأزق الفكري يدفعه إلى تجاوز
هذا الأمر بقوله: ”إذا كانت الفلسفة غير قادرة على أن تفكر في إبادة اليهود
في أوروبا، فإن ذلك ليس من واجبها وليس من صلاحيتها أن تفكر في ذلك. إنها
مهام نظام فكري مغاير يجعل ذلك الفكر فعالا وحقيقيا، فنذكر على سبيل المثال
الفكر التاريخاني بمعنى التاريخ الممتحن بواسطة السياسة”، وبهذا التحليل
العميق لا يفصل القول عن الفكر، لأن باديو لا يراهن على فلسفات النهاية
ويفكر في شروطها أو بالأحرى في وضعياتها، لأن ”الشفقة الأساسية تجاه
الضحايا لا يمكنها أن تبقي ذهول الفكر في تردد الإقرار بالذنب أمام مواجهة
الجريمة. إنها تظل باستمرار في صيرورة عند أولئك الذين قدموها كمثال
للإنسانية في عيون الجلادين”، وبهذا الفهم تخطو الفلسفة خطوة إيجابية في
تشكيل الوعي الحديث من خلال تقاطع مفاهيم الكائن والحقيقة والذات. صحيح لم
توجد الفلسفة في جميع مراحل التاريخ لأن طبيعتها قامت على الانقطاع في
الزمان والمكان، وهذا يلزمنا بالقول بوضعياتها الخاصة، وندرك ذلك من خلال
الفواصل التاريخية بين المدن الإغريقية والملكيات المطلقة في الغرب
الكلاسيكي والمجتمعات البورجوازية والبرلمانية، وهذا الأمر يعيق حصر الفكر
الفلسفي في نمط واحد أو صيغة واحدة كالقول مثلا بدورها في التكوين
الاجتماعي أو من خلال الخطابات الإيديولوجية والدينية والأسطورية، لأن
الثابت في الفلسفة هو الحقيقة في إطار وضعيات ما تجعلنا لا نعتقد في نصوص
يتغنى أصحابها بأصالتها ومصيرها: ”نحن نعلم بأن الأولمب ليس إلا جبل،
والسماء مليئة بالهيدروجين أو الهيليوم، ولكن المتتالية الحسابية العددية
الأولية هي متناهية تبرهن اليوم مثل عناصر إقليدس، بأن فيدياس كناحت عظيم
لا يشك بأن الديمقراطية الإثينية هي اختراع سياسي وموضوعها يشغلنا إلى غاية
اليوم، وأن الحب هو اتفاق بين طرفين أين ترتعد الذات، ونحن نفهم هذا عند
قراءة سافوس أو أفلاطون مثلما نقرأ كورناي أو بكيت”.
إن قراءة فيلسوف الحدث تجعلنا نتذوق إنسية المعاني الفلسفية وراهنيتها، لأن
”الحدث ليس حالة داخلية للتحليل المتعدد. بشكل خاص، دوما يمكن تحديد وجوده
في العرض، ليس كما يقدم لنا باعتباره غير صالح للعرض. إنه ـ ليس إلاـ ما
فوق الدفع النقدي. في العادة، نرفض الحدث في أسوأ حالاته التي يؤول إليها،
ونحتفظ بالبناء المفهومي للبنى، وعليه منهجي معكوس. الحساب بالنسبة للواحد
والنسبة لي هو بداهة العرض. إنه الحدث الذي يغير بناء مفهوم وفق مدلولين
بحيث لا نستطيع التفكير فيه إلا بتقديم شكله المجرد. ولا نستطيع توضيحه إلا
من خلال مراجعة لممارسة واعية”. ومع ذلك نراه يقف عند حدث أزمة الفلسفة في
وجودنا المعاصر بعد تحطيم نيتشه لنسقيتها ولمفهوم الحقيقة، ودقة التفكير
الميتافيزيقي لدى هيدغر من خلال التمثيل الفلسفي بأشكال جانبية من الخطاب
كالشعر والرسم وغيرهما من آليات التفكيك المختلفة للذات.
إن هذه الأزمة لا تلغي إمكانية وجود الحدث، فيعود باديو إلى أفلاطون الذي
نشر نتائج الديالكتيك في (برناميدس) كممارسة للفكر الخالص، لأن القرار
الأنطولوجي في أصالته يكمن في عدم كينونة الواحد”، فوجدنا أفلاطون يستند
إلى ”فكر السوفسطائية الذي نجده في كتاب جورجياس، عندما يعلن عن عدم القول
بأن الواحد لا يوجد، فنسمح بالمشاركة المحدودة للكائن في وجود لا ـ كائن
ككائن”. ومثل هذا الدرس يحيلنا إلى القول بأن لا واحد هم الأخرين في صورهم
المختلفة والمنسجمة التي ترجمها باديو بالأخرين، هم الأخرون لأن ا الغيرية
البسيطة (الأخرون) تدلنا هنا على الغيرية التأسيسية (الأخرون)، بمعنى فكر
الاختلاف الخالص، والتعدد ومثل هذا الدرس يحيلنا إلى القول بأن لا واحد هم
الأخرون في صورهم المختلفة والمنسجمة التي ترجمها باديو بعبارة: ”الأخرون
هم الأخرون”، لأن ”الغيرية البسيطة (الأخرون) تدلنا هنا على الغيرية
التأسيسية (الأخرون)، بمعنى فكر الاختلاف الخالص، والتعدد كتفريق منسجم
وليس كتنوع مكرر”، إنها استراتيجية الحقيقة بمعطياتها الثابتة: ”الرياضي،
والشعر، والاختراع السياسي، والحب.. ونسمي هذه الشروط بالمعطيات الأولية
التي سأعود إليها لاحقا، لأنها في صميم الكائن والحدث”. وهذه الرؤية تقف
عند مشاكل الفلسفة لأن رهان الحقيقة فيها يدل بأنها لا تنتج الحقائق،
وعندما نتحدث بأن طبيعة الفلسفة واحدة، فكيف يستقيم القول بتعدد وضعياتها؟
يجيبنا باديو بدعوته إلى الانقلاب على التشخيص النتشوي، نسبة إلى نيتشه،
وبضرورة العلاج من مناهضة الفكر الأفلاطوني. إن الأمر لا يتعلق بثبات
الحقائق أو بتعريف مكرر لمعنى الحقيقة، لأن إعادة الاعتبار للفلسفة، اليوم،
هو اقتراح مرحلة جديدة في مقياس الزمن وفي تاريخ مقولة الحقيقة. وهذا
السياق المعرفي كشف عن أسباب أزمة الحداثة من خلال نسيان مهام الفلسفة في
طرح إمكانيات الحقائق وتواصل معطيات الحقيقة، لأن أزمتها تكمن في الاعتماد
على معطى واحد من المعطيات الأربعة، وهذا ما يعرف بجرح الفلسفة، حسب باديو،
لأن القرن التاسع عشر بين هيغل ونيتشه عانى من هذا الألم، والذي نعت بغروب
الفلسفة، خاصة في مرحلة النزعة الوضعية أو الاتجاه العلموي الذي مايزال
يهمين بريقه القائل بأن العلم وحده المسؤول عن إقرار الحقائق. ولعل الفلسفة
الأنجلوساكسونية توضح هذا الموقف عندما تختزل المعطيات الأخرى من مكانتها
الحدثية، نسبة للحدث، فتدافع عن النظام الليبرالي البرلماني، مع العلم أن
السياسة لا يمكن أن تكون مرجعيتها تعود إلى الفكر، وتضع الشعر في هامش
الثقافة، وفي أرقى مراتبه يقترح موضوعا للتحليل في اللسانيات، أما معطى
الحب فغائب، وهذه الملاحظة تعود إلى جون لوكا نانسي لأن ”جوهر الولايات
المتحدة الأمريكية كبلد يكمن في تعايش العاطفة والجنس على حساب الحب”، وهنا
يظهر جرح الفلسفة عندما تختزل بالمعطى العلمي، فينتصر التحليل العقلاني
الذي يقتصر على ما تدفعه اللغة من حساب أو ثمن، يتكيف مع تدين غامض يستعمل
القطن الطبي لعلاج عدوانية الرأسمالية.
إن الموضوع بالنسبة لماركس واتباعه يبدو أكثر تعقيدا، لأنهم استندوا على
هيمنة الجرح الوضعي أو الاتجاه العلمي عندما جعلوا من السياسة الثورية في
مرتبة العلم، واحتفظوا بالالتباس القائم بين علم التاريخ المادية
التاريخيةـ وحركة التاريخ من خلال السياسة، لقد ميزوا منذ البداية بين
الاشتراكية العلمية ومختلف الاشتراكيات اليوتوبية، وبذلك نستطيع القول بأن
”الماركسية تقاطعت مع الجرحين في السياسة والعلم”، وفي هذا المشهد وجدنا
ستالين يسمي الفلسفة بالمادية الجدلية التي تعرض في شكل غريب ينعت
بالقوانين وبالتحديد قوانين الجدل التي تطبق على الطبيعة والتاريخ. وفي هذا
السياق، سنّ ستالين تشريعات حول علم الوراثة والليسانيات وفيزياء النسبية
باسم البروليتاريا وحزبه، فانتهت هذه الوضعية إلى شلل فلسفي استمر إلى حدود
الستينيات عندما قام لويس ألتوسير (1990 1918 -) بتجديد الخطاب الفلسفي من
خلال إعادة النظر في مفاصل الجرحين لصالح العلم، وبناء فلسفة ماركسية
اعتمادا على ابستيمولوجيا المادية التاريخية.
إن هذا الجهد البطولي، حسب باديو، لدى التوسير في مراجعة جرح الماركسية
الفلسفي نحو العلم، كلفه التشكيك في تمثيله السياسي بالنسبة للحزب الشيوعي
الفرنسي، فتجعل باديو يناصر الأطروحة التالية: ”إذا كانت الفلسفة في مغزل
التشويق، لأنها منذ هيغل تتحكم في مجموعة من الجروح ترتبط بوضعياتها
وبالتحديد وضعياتها العلمية والسياسية التي تمنع توضيح توافقها العام.
صحيح، شيء افتقدته من العصر أي عصرنا، وهذا ما جعلها تبدو في صورة سلبية
وضيقة”.
إن نقد فلاسفة فرنسا المعاصرين للفلسفة في شكلها النسقي بدا مسألة بديهية،
وفي مواجهة هذه الرؤية اللانسقية يصبح ذلك النقد قضية نسقية تعود إلى الخط
الفكري الذي اشتغل عليه السوفسطائي الإغريقي ونيتشه ويدغر وفيتغاشتين..
وهذا التشخيص لفهم معين للفلسفة، يسمح لفيلسوف الحدث بتحديد لحظاتها
كالتالي:
- لحظة هيدغر كآخر فيلسوف معترف به عالميا.
- لحظة العقلانية العلمية باعتبارها نموذجا هيمن في الفكر وبصفة خاصة
الأمريكي منه، عندما تابعوا تحولات الرياضيات والمنطق وأعمال حلقة فيينا.
- لحظة مذهب ما بعد الديكارتية في الذات في طريقها نحو الذيوع أو الانتشار،
والتي تعود إلى ممارسات غير فلسفية (السياسة أو العلاقة ذات الصلة
بالأمراض العقلية ) وفي تفسيرها نجد أسماء مثل ماركس (ولينين) وفرويد
(ولكان) وتّم تعقيد وتشويه خطابها بعمليات عيادية أو عسكرية.
إن هذه اللحظات الثلاث تشترك في إغلاق عصر كامل من الفكر ورهاناته: ”هيدغر
في تفكيك الميتافيزيقا، فكر في العصر كإدارة تشتغل بالنسيان الافتتاحي،
واقترح العودة إلى التراث الإغريقي. والتيار التحليلي الأنجلوساكسوني جرد
جمل الفلسفة الكلاسيكية من المعاني، وحصرها في لعبة اللغة. وماركس أعلن
نهاية الفلسفة وإمكانية تحققها في الممارسة وجاك لكان (1981 1901 -) يتحدث
عن مناهضة الفلسفة ويمنح المخيال للتأمل الشمولي”، وفي هذا السياق يعترف
باديو بأننا نعيش في عصر معقد إلى درجة أن لحظات التواصل والقطائع في الفكر
تنسجم ولا تسمح لنا أن نعبر عنها برؤية واحدة، لأن التعدد في الزمن يقتضي
منا أن نقر بموقعنا:
- نحن نعاصر المرحلة الثالثة للعلم بعد الإغريق وغاليلي.
- نحن نعاصر المرحلة الثانية من مذهب الذات، والذي لم يعد موضوعا مركزيا
كما كان منذ ديكارت إلى هيغل، ومع ذلك يظل ذا أهمية عند ماركس وفرويد إلى
هوسرل وسارتر، في حين أن الذات المعاصرة فارغة ومفصولة عن الجوهر وغير
قابلة للتأمل. إنها مجرد فرض في منظور صيرورة خاصة تتحكم فيها الوضعيات.
- نحن نعاصر منطلق مذهب الحقيقة بعد إخفاقها كبناء عفوي في المعرفة، وعندما
نتأمل ماضي الحقيقة نجدها هيمنت بمفردها دون أن تترك فرصة لظهور مبدأ
المصداقية.
وبهذا رأى باديو بأن الحقيقة كلمة جديدة في أوروبا وكذلك في أماكن أخرى،
وموضوعها يتقاطع مع ما تبقى من هيدغر، وعلماء الرياضيات (الذين انفصلوا مع
نهاية القرن مع الموضوع مثلما ما فعلوا مع المعادلة) والنظريات الحديثة
للذات (التي تعبر عن لا مركزية الحقيقة من خلال تعابيرها الذاتية). وفي ضوء
هذه المتغيرات أو الصيرورات يفسر لنا باديو منهجه في تحديد فترات العصر
بقوله: ”علم الكائن باعتباره كائنا يوجد منذ الإغريق، إنه يعبر عن مكانة
ومعنى الرياضيات، ولكن اليوم لدينا سواهما من وسائل المعرفة. ومن هذه
الأطروحة لا تصبح الأنطولوجيا في موقع مركزي في الفلسفةـ توجد كتخصص دقيق
مستقل ـ لأنها تتحرك في هذه الأنطولوجيا والنظريات الحديثة للذات وتاريخها
الخاص”. وداخل هذه الوضعيات المعقدة للفلسفة تتقاطع العلوم التالية: تاريخ
الفكر الغربي ورياضيات ما بعد كانتور والتحليل النفسي والفن المعاصر
والسياسة، وليس من مهام الفلسفة أن تتقاطع مع إحدى هذه الوضعيات أو تعبر
عنها جميعها، لأن وظيفتها تقتصر على اقتراح اطار مفاهيمي نفكر من خلالها
الانسجام المعاصر لتلك العناصر.
إن باديو يلزمنا بقاعدتين قبل أن نتحدث عن الفلسفة، الأولى تكمن في امتلاك
التعيينات الحدثية للوضعيات، بحيث تكون إمكانية التزامن في منظومة واحدة من
مفاهيم تشمل على: الرياضيات والشعر والاختراع السياسي والحب، والثانية
تتعلق بنموذج المسار أو الصرامة القائمة في هذا الفكر، حيث تستقر المعطيات
الأولية، ومن هنا يستنتج الفيلسوف رؤية لعلاج الفلسفة، لأنها عندما يعلن عن
عدم نسقيتها، فهذا يعبر عن جرحها الذي اختزل الفكر في إحدى وضعيتها فقط.
وقد حرص على توضيح ظرفية كل فعل أو أثر مستقلا عن مختلف روابطه، فالعدمية
مثلا تكون عندما يسمح بقطيعة الصورة التقليدية للرابط والانفصال كشكل قائم
بذاته عن كل ما يشبه الرابط. وفي المقابل واحد الكل هو المرتبط، وما هو في
الحقيقة إلا حصيلة عمليات انتقالية، ومن هذا التفكيك للعلاقة، تظهر أهمية
ثنائية الحب – السياسة: إنه يفضح وهم الرابط ولا كائن التداخل مثل البديل،
ويمكن توضيح هذا التحليل الذي يوافق معارضة عالم النفس لكان بين المخيال
الذي يتحقق (في حقيقة ثابتة وصلبة) والواقع اعتباره فوضى خالصة
(اللاحقيقة).
وهذا الموقف الراديكالي عند باديو بالنسبة لعدم واقعية العلاقات، يجعل
القارئ في حيرة أمام ثبات تلك العلاقات ووضوحها ومدى انسجامها، والمشكل
نفسه وقع للفيلسوف دولوز في كتابه (اختلاف وإعادة): اختلاف الكثافة يتبع
اللامتناهي مكونا البعد الأنطولوجي، والصعوبة تختزل النوعية التي تولد
كوميض من خلال لقاء بين سلسلتين مغايرتين في الكثافة. وبالتالي لا تصبح
الحقيقة مسألة تراكمية بالمقارنة بتاريخ المعرفة، بل بالعكس نجدها تعبر عن
ثغرة لأن أصلها حدث في فكر، وحقيقتها تكمن في التصاقها بالكائن ذاته. إن
هذا التعبير يجعل قراء هيدغر ولكان يتكيفون دون مشكلة معهما، لأن البناء
الفكري قائم على أنطولوجيا التعدد، وعلى هذا الأساس يعرف المفهوم: لا توجد
إلا حقيقة واحدة: اللاحقيقة التي تتضمن كل حقيقة، لأن الحقيقة والكائن
ألفاظ متقاربة، ولهذا السبب يجب أن تكون الحقيقة وكينونتها تخضعان لعملية
الطرح، لأنه لا يمكنها أن تؤثر في التعدد في غفلة من التعددية.
إن السؤال الذي نثيره هو: ألا يمكننا اعتبار هذا التحليل شكلا من أشكال
الحقيقة أو على الأقل كيف يراد منه نصف الحقيقة؟ قد نجد الحالم بالحق هو
الذي يشهد على الحضور، ذلك الحضور الذي ينسى كما يذكر باديو وكذلك هيدغر،
فيكون من واجب الحقيقة أن تستقبله. إن بناء الذات دون الموضوع تكون خلال
مرحلتين، وهذا ما يستلهمه باديو من عصر الشعراء الذي يفتح من جهة المجال
أمام الكائن لأنه لا يستطيع تدعيم ذاته بالموضوع. فمثلا المسألة منذ
هولدرلين تظل حاضرة ولكن بعيدة عن علاقة متبادلة بين الذات ـ الموضوع، تلك
العلاقة التي أسست للحداثة بالمعرفة القائمة على الموضوعية، بعدما خففت
عليها ثقل مفهوم الحقيقة الذي محاها أو طمسها من خلال القول: ”الحقيقة دون
موضوع”، قد نشرح هذه الحالة من خلال منطق الجروح كما يبدو اليوم في صيرورة
الموضوع أو بلغة لكان ديزاتر أو فعل التحليل النفسي في الفلسفة المعاصرة.
إن الفلاسفة المجروحين بالوضعية العلمية معيارهم الأول هو مقولتي الموضوع
والموضوعية، في حين المجروحين منهم بالوضعية السياسية أي بدائل الماركسية
القديمة يعلنون خروج الذات من الموضوع (انتقال الطبقة من ذاتها إلى الطبقة
من أجلها من خلال فضيلة الحزب) أو من خلال عزل لفائدة الموضوعية (بالنسبة
لألتوسير مادة الحقيقة تعود للصيرورة دون ذات) ويلتحقون في صورة مفارقة
بهيدغر الذي جعل الذات كعامل بسيط في خدمة الإيديولوجيا البورجوازية (الذات
عند هيدغر هي تطوير ثانوي لسيادة التقنية، قد نفهم منه أيضا هيمنة
البورجوازية).
أما الفلاسفة المجروحين بالشعر وبشكل عام بالأدب والفن أيضا، نجد الفكر
يعفى نفسه من الموضوع ومن الذات. فأتباع لكان يعترفون بمفاهيم قابلة
للاستيعاب بالنسبة لهذا وذاك، وكلهم يتفقوا على بديهية عامة من بديهيات
الحداثة الفلسفية: ”لا يمكن تعريف الحقيقة كتطابق الذات والموضوع”.
من جهة أخرى، وفي الوقت نفسه نجد باديو يحتفظ بالقول بأن الفلسفة لا يمكنها
أن تقوم بالاقتصاد مثل عامل مقولة الذات، وبهذا نتساءل: إن لم يكن عزل
مقولة الموضوع يتبعه عزل لمقولة الذات؟ فيقترح لنا طعنا في الإجراء العام:
”الذات لا يمكن – ولكن بهذا المعنى هي – إلا أن تكون قطعة بسيطة من حقيقة
حدثية”. وفي كل إجراء أو عملية تحقيق ما يضمن للحدث طبيعة الوفاء هو ما
يجعل الحقيقة ذات طابع نضالي، والذات تصبح لحظة ضرورية للإجراء الأولي
النادر والعشوائي مثل الحقيقة نفسها.
وهذه القضية هي أساس المشكلة في الفلسفة النسقية الجديدة لدى باديو عندما
تقول بالوجود النادر للذات مثل لكان عندما يتحدث بنفس الرؤية عن التحليل
النفسي وهيدغر عندما يشرح لنا الفكر الأصيل، فعالم النفس لكان لم يكن حارسا
للذات إلا بقدر إعادته لصياغة مقولة الموضوع كسبب للرغبة محددا في ذلك
الذات في كينونتها، بينما كائن هيدغر لا يمكن استقباله إلا من ذاته كحضور
ينتهي إلى الكلام، بينما الذات عند باديو تبدو في هشاشة عندما لا تأخذ ما
قد يوجهها في إجراءاتها، فتفتقد لشيء خاص بها، بعدما اعتبر الفلسفة بمثابة
العين التي تتجول في التعددية الفوضوية اللامتناهية تحت شروط الحدث، وحتى
يكون هذا الأخير أي الحدث، لا يجب أي شيء من الكائن أن ينقص من الذات
وبالتحديد من داخلها.
إن باديو لا يحدثنا عن إمكانية علاج الفلسفة من جراحها، بل يعتقد بوجودها
الضروري رغم عوامل تحطيمها المتواصلة من وضعيات: العلم (الوضعية) والسياسة
(الماركسية) والشعر (من نيتشه إلى يومنا هذا)، ويؤكد على ”مطلبه في تكوين
مذهب يعيد بناء الحقيقة من الوضعيات الأربعة لتحدث قطيعة مع الإعلانات
المكررة: نهاية الفلسفة، ونهاية الميتافيزيقا، وأزمة العقل، وتفكيك الذات،
بعودة جديدة إلى التأمل الديكارتي، وحتى لا تكون هذه العودة اعتباطية، يجب
أن تكتسب معنى بارتباطها بالحدث”، وعليه فإن أحداث الرياضيات والشعر وفكر
الحب والاختراع السياسي تسجل حضور الفلسفة كمكان فكري يستقبل تلك الأحداث
ويعلنها.
في الرياضيات يظهر الحدث في تلك المسافة بين كانتور وبول كوهن، لأنه يؤسس
للمفارقات المركزية لنظرية التعدد، ويوضح لأول مرة بالبرهان من خلال
المفهوم المدرك التعددية غير المدركة، وبذلك ساهم في تجاوز اقتراح ليبتنز
القائل بأن المعرفة هي فكر عقلاني للكائن باعتباره كائنا سواء خضعت أو لم
تخضع لسيادة اللغة. وإذا كان مفهوم الحقيقة يشكل ثغرة في المعرفة، وباعتبار
أن المعرفة بالحقيقة لا توجد وإنما يوجد فقط إنتاج الحقائق، لأنها ”إذا ما
فكرنا فيها كحقيقة أولية للوضعية هي أصل المصداقية.. ولكن إذا كانت
المصداقية تتعلق باللغة بالمعنى العام، فإن الحقيقة لا توجد إلا إذا كانت
مختلفة، لأن طريقتها أولية بالنسبة لذاتها لتجتنب كل حمولة موسوعية
للأحكام”.
أما في منظومة الحب كفكر يعبر عن الحقائق، نجد أعمال جاك لكان تمثل الحدث،
لأنه مثل فرويد يمكن اعتبارهما فلاسفة كانا لهما شرف إعادة بناء مفهوم
الذات، بل إن لكان عمل من أجل العودة إلى الفكر الديكارتي، وعندما يكتب:
”الكائن كما هو، هو الحب الذي يتجلى في اللقاء”، يعترف باديو بأنه نظريته
في الحب عميقة لا نجد مثلها منذ مأدبة أفلاطون، لأنها تقوم على الثنائية
التي تنصهر في الواحد الذي يتحمل الصورة. وبهذا الاستنتاج المنطقي لثنائية
الجنس بين المرأ ة من جهة، والرجل من جهة أخرى، كتقسيم يشكل السلب ومحددات
الكمية لتعريف المرأة كذات مغايرة والقطب الذكوري كناقل للجميع، وبالتالي
فالحب هو فعالية هذه الثنائية المفارقة التي توجد في ذاتها منفصلا عن
العلاقات.
بينما في السياسة نجد الفترة التاريخية من 1965 إلى 1980 تمثل الحدث، لأن
التحليل التاريخي لأحداث ماي 68 والثورة الثقافية الصينية والثورة
الإيرانية والحركة الوطنية للعمال (تضامن) في بولونيا لا يهتم بنجاح تلك
الثورات أو فشلها، وإنما يتشوق لمعرفة ترشحها السياسي أو ما يسميه باديو
بالتدخل على الحدث، وعليه ميز بين الثورات التي انتهت صلاحيتها التاريخية
وتلك التي تمارس وجودها، وبعبارة أخرى بين تلك التي شاركت في جراح الفلسفة
وتلك التي تسمح للفلسفة أن تفكر في الانفتاح المعاصر لإمكانية السياسة من
خلال منهج التحليل التاريخي وليس باعتبارها أداة تشريع للتاريخ أو السياسة.
في حين نجد الحدث في الشعر تمثله أعمال بول سيلان الذي واجه بطريقة درامية
المعنى في لا معنى العصر وما آل إليه من إرباك عندما جعل الشعر مورده
الوحيد إلى درجة الانقطاع عن الفن، أو كما فسره باديو بأنه انقطاع عن الشعر
الذي تسلم له الفلسفة ذاتها، فاشترط نداء شعريا يستجيب لإعادة بناء دفتر
مشترك يزخر بمفاهيم العصر. فإذا كان اللقاء الأسطوري بين سيلان وهيدغر أثار
سؤال لاكو – لبارت بأن الشاعر لم يتحمل ولم يتسامح بأن فيلسوف الشعراء
التزم الصمت حول موضوع الإبادة، فإن سؤال هيدغر: لماذا الشعراء؟ يمكن أن
يتحول بالنسبة للشاعر: لماذا الفلاسفة؟ ولكن سيلان في هذا اليأس والقلق
يكشف في الشعر انتقال يعوض تجاور الوضعيات الأربعةـ الشعر والرياضيات والحب
والاختراع السياسي في الفكر فيحرره من طابعه التأملي فيكون بذلك حدثا