الثورات العلمية ـ التقنية الكبرى
وتخومها الفلسفية والأخلاقية دخلت العلوم والتقنيات منذ منتصف
القرن العشرين مرحلة جديدة كلياً في تاريخها. ففي هذه الفترة حدثت ثورات
وقفزات معرفية هائلة ومذهلة، إذ تم تفجير قنبلتين ذريتين سنة 1945 وهبط
الإنسان لأول مرة على سطح القمر (1969)، وتم إنزال سفينتين فضائيتين على
سطح المريخ (1979)، ومرور سفينة الفضاء فوياجيرت عبر كوكب زحل (1981). وفي
هذه الفترة أيضاً توصل العلماء إلى تقدير عمر الكون (15 مليار سنة) ووصف
عملية تكونه (البيغ بانغ)، وتقدير مجموع المجرات السابحة في الكون
اللانهائي (100.000 مليون مجرة تضم كل واحدة منها على 100 مليار نظام
شمسي، وافتراض نهاية للكون (7,5 مليار نظام ابتداء من الآن) بعد انفجار
الشمس وابتلاعها للأرض وما من عليها.
وقد بدأت وتيرة هذه الثورات العلمية التقنية في التسارع
بشكل أعمق وأكثر هـولاً، مما جعل المعرفة البشرية اليوم تتضاعف كل عشر
سنوات، كما هو الأمر بالنسبة للثورتين العملاقتين الأخيرتين: الثورة
البيولوجية والثورة المعلوماتية.
تمثلت الثورة البيولوجية في مظهرين كبيرين أولهما ثورة
الاستنسال (أو الاستنساخ) الذي افتتح عصر دخول التقنية والصناعة إلى مجال
الحياة نفسها. الوجه الآخر لهذه الثورة الرهيبة يتمثل في فك شفرات الجينوم
وقراءة خريطة أو كتاب الحياة، أو خريطة الجينوم البشري.
أما الثورة المعلوماتية فهي في حد ذاتها جملة ثورات نوعية
أهم مظاهرها الأنترنيت كمكتبة كلية كونية تتفاعل وتتضافر فيها عدة مكونات:
الكمبيوتر، والهاتف، والتلفاز، والأقمار الصناعية، والمكتبات، ودور البحث
والنشر ومخازن المعلومات كما يتداخل فيها الصوت والصورة والحرف المكتوب
معبراً عنها كلها بنظام رقمي.
هذه الثورات العلمية ـ التقنية هي تحولات معرفية وفكرية
نوعية غيرت وتغير صورتنا عن العالم والأشياء، لكنها بنفس الوقت أحدثت
وتحدث تحولات عملية في سلوكنا وعلاقتنا بالأشياء وبالعالم، وذلك بسبب عمق
وضخامة هذه الثورات لدرجة يبدو معها وكأن تصورات الخيال العلمي هي مجرد
أفكار عقيمة أمام هذه الإنجازات، بل توحي لنا أحياناً وكأن العلـم ذاته
ضرب من السحر.
المحاور الكبرى لهذه الثورات هي المادة أو الذرة، والحياة
أو الجينات، والكون أو اللاّنهائي الكبر، والذكاء الصناعي أو الكمبيوتر.
وهذه المحاور تعكس تقدم العلم في فهم التكوين العميق للمادة والعقل وفي
استكشاف سر الحياة، كما تعكس قدرة العلم التقني في تحطيم نواة الذرة
وتطوير الكمبيوتر الإليكتروني وفك شفرة نواة الخلية.
مكاسب وامتدادات الثورات العلمية ـ التقنية: الثورات العلمية ـ
التقنية الحديثة والمعاصرة هي في عمقها التاريخي جماع وتركيب لتطور
ومساهمة الحضارات السابقة: العلم اليوناني والعلم الصيني والعلم العربي.
كل هذه الروافد صبت في نهر العلم التقني الحديث الذي تبلور في بدايات
العصور الحديثة منذ عصر النهضة في أوربا وتطور حثيتاً بخطى متلاحقة عبر
تحول نوعي حدث فيما يطلق عليه الإبستمولوجيون ومؤرخو العلم العصر العلمي ـ
التقني (L’âge scientifico-technique ) عند مفترق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ليحقق هذا المسار طفرة نوعية وثورية ابتداء أواسط القرن العشرين.
هذه الطفرة النوعية التي أحدثها العلم في الفكر البشري،
والتي ظل الغرب هو رائدها الرئيسي، والتي جعلت منه إلى الآن القوة الأولى
في العالم، قامت على أساس تجديد فهم الإنسان للعالم، وعلى أساس الانفصال عن
التصورات والقيم التقليدية، كما قام على تحرير القدرات الذهنية والمعرفية
للإنسان الغربي وتخليصها من التصورات التقليدية ـ المكبلة للتجديد
والآسرة لروح الإبداع الفردي والتجديد المعرفي، وبتواز بين التجديد
المعرفي في مجال العلوم والتقنيات ـ التي أصبحت محول كل المعارف وموجه
الثقافة برمتها ـ والتجديد التنظيمي في المجال الاجتماعي والاقتصادي
والسياسي، والتجديد الفكري والثقافي في مجال الإنسانيات (العلوم
الإنسانية) والتصورات الفلسفية، أصبح العلم التقني الحديث بتجديداته
المعرفية والعملية بمثابة بؤرة مولدة لحيوية معرفية وعملية طالت كل حركية
المجتمع الغربي، ثم انتشرت في العالم كله، إما عبر التجارة والتبادل أو
عبر الاحتلال والغلبة.
يمكن رصد التحولات المعرفية الكبرى التي حققتها الثورات
العلمية التقنية الكبرى المعاصرة مع التركيز على المكاسب والجوانب
الإيجابية لتأثيرها ثم ملامسة الحدود القصوى لهذا التأثير في جوانبه
السلبية الصادقة في لحظة لاحقة، ذلك أن المعنى الفلسفي الأساسي، الذي هو
بمثابة أرضية وخلفية فكرية للموقف من العلوم التقنية الحديثة هو أنها نتاج
للجهد الإنساني، وللإدارة الإنسانية، وللعقل الإنساني في حدته القصوى وفي
تعبئته من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها وتسخيرها لصالح الإنسان. وكل
رصد للسلبيات بعيداً عن هذه الأرضية الإيجابية هو تجن على عطاءات ومكاسب
هذه الثورات في كل قطاعات الحياة الإنسانية، وعلى الطفرات النوعية التي
أحدثتها في واقع الإنسانية الحديث وفي طريقه إدراكها وفهمها للعالم.
يمكن أن نجمل، على وجه الاختزال، التحولات النوعية التي
أحدثتها الثورات الثلاث التي اتخذناها في هذه الدراسة نموذجاً للثورة
العلمية ـ التقنية المعاصرة: ثورة العلوم البيولوجية، وعلوم المادة والكون،
وعلوم المعلوماتية بما هي تطوير ومضاعفة لقدرات العقل البشري، في النقاط
التالية:
1 ـ تقليص الأمكنة والأزمنة وربط نقط العالم في اتجاه المباشرة L’immédiateté
والتجاور والتآني؛ فنقط الأرض أصبحت متقاربة كما أصبحت وسائل المواصلات
أسرع. فالطائرات الحربية تحاكي سرعة الصوت، والطائرات المدنية ضاعفت
سرعتها (طائرة الكونكورد) كما أن أحدث قطار تم تصنيعه في الصين في الشهر
الأول من سنة 2003 يسير بالطفو المغناطيسي ;magnetic leistation بسرعة تفوق 400 كلم/ ساعة.
وهذه السرعة لا تقتصر على نقط الكوكب الأرضي بل تطال
الكواكب البعيدة ذاتها إما عبر المركبات والمكوكات الفضائية كما أن هذا
التقريب بين المسافات الكونية اللاّنهائية يمكن أن يتم من خلال المشاهدة
المباشرة عبر المناظرات الهائلة المقربة كمنظار هابل. لقد أصبحت الكواكب
والمجرات البعيدة عنا بملايين السنوات الضوئية وكأنهـا على مرمى حجر من
الإنسان.
2 ـ تسهم الثورة الإليكترونية في مجال
المعلوماتية والإعلام في إحداث ثورة في مجال التواصل وتبادل الأخبار
والمعلومات والمعارف بين كل نقطة على الأرض وكل نقطة أخرى مهما كانت
بعيدة.
إن الثورات المعلوماتية الآن تخطو خطواتها الأولى، والبشرية
لم تستوعب بعد عمق التحولات الفكرية المصاحبة لها. لكن مع ذلك يمكن
محاولة ملامسة بعض المعالم الأولية لهذه التحولات.
تطور الثورة المعلوماتية تصوراً جديداً للمكان قوامه
التداخل بين المكان واللاّموقع (أو اللاّمكان) أو ما يطلق عليه بعض
الباحثين: نزع الطابع المكاني أو الانقلاع المكاني la deterritorialisation . فالنص الكبير Hyper texte ،
أي المحتويات المعلوماتية في الشبكة العنكبوتية، ليس له مكان موقعي محدد
ونهائي وكأن ليس له مكان. فهو موجود في كل مكان وفي أية نقطة من الأرض دون
أن يكون مثبتاً أو مركّزاً في مكان ما هنا أو هناك. هذا النمط الجديد من
الوجود المكاني هو نمط الترحل أو الوجود الانتشاري الدائم في كل نقطة على
وجه الأرض. وعدم مثوله في هذه النقطة أو تلك لا يعني أنه غير موجود بل هو
موجود وجوداً إضمارياً أو ضمنياً أو افتراضياً Vivtuel . إنه ضرب من الوجود يندغم فيه المرئي باللاّمرئي، والداخل بالخارج، والحضور بالغياب، والوجود باللاّوجود، والمكان باللاّمكان.
هذا النمط من الوجود المضمر la virtualité يصبح نمطاً جديداً للتمكن spacialisation والتزمن Temporalisation أي للحضور المكاني والمثول الزماني للموجات الضوئية الرابطة والفاعلة
لكن غير المرئية. وباستعارة التشبيه بالجذمور الذي طالما استعمله بعض الفلاسفة فإن النموذج هو الجذمور le Rhizome الذي يوجد مركزه في كل مكان ومحيطه في لا مكان (hor là-non repeable ).
من المؤكد أن هذا النمط الجديد من الوجود يتجاوز مقولاتنا
الذهنية البسيطة المتوارثة ويغير كلياً تصوراتنا عن الزمان، والمكان،
والمادة، والهوية …
إلخ. ويقلب العلاقة التقليدية بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل فيجعل
الانتقال العكسي من الفعل إلى القوة أمراً وارداً بجانب الانتقال المتداول
المعروف من القوة إلى الفعل.
إن الواقع الافتراضي واقع أنطولوجي جديد، واقع مرئي لكنه غير ملموس، واقـع »يقع « بين الخيال المحض والواقع الفيزيائي الصلب (1
).
3 ـ إذا كان العلم التقني الحديث قد
توصل إلى استكشاف اللاّمتناهي الكبر من حيث المسافة والحجم (الكون)
والبنية والزمن، فإنه من زاوية أخرى قد توصل إلى استكشاف ثنايا
اللاّمتناهي الصغر في الزمن والبنية والحجم والمسافة، وذلك في ميدان المادة
الجامدة والمادة العضوية.
كان منطلق اكتشاف بنية المادة الجامدة وديناميتها الداخلية
مع تطور الكيمياء، لكنه ازدهر مع تطور الفيزياء وبخاصة مع نظرية الكونتا
في العشرينات من القرن الماضي. فقد مكنت هذه النظرية من فهم ووصف دقيق
لبنية المادة ولديناميتها إذ اختزلت التنوع الظاهري اللاّمتناهي للمادة
إلى عدد قليل من الجسيمات التي تمتلك بشكل مزدوج صفة الجسيمات
اللاّمتناهية الصغر وصفة الموجات في نفس الوقت أي جسيمات موجية أو تموجية(2
). ومعنى ذلك أن العلم الفيزيائي الحديث قد كشف عن الوجه الدينامي للمادة في بنيتها الصغرى.
4 ـ التقدم في اتجاه استكشاف سر الحياة على عدة مستويات. أ ـ في الأصول الأولى
لتكون الحياة عبر عملية تشكل العناصر الأساسية التي تولدت منها الحياة:
الكربون، الهيدروجين، الأزوت، الأوكسجين، الفوسفور، الكبريت، وكيف تفاعلت
هذه العناصر منذ ما يقارب 4,5 إلى 4 مليار سنة، ونتج عن هذه التفاعلات
الكيميائية الأولية هذا المركب الحي المعقد المتطور الذي هو الكائن العضوي
المزود بالحياة، والذي نتج عنه بالتدريج إلى الآن تريليونات الأنواع
الحية ابتداء من البكتيريا إلى الدناصير والفيلة
.
ب ـ محاولة استكشاف أسرار الحياة في
مكونات الخلية الحية، وبخاصة الخلية الإنسانية، وذلك عبر عملية فك رموز
الجينوم البشري، أي مجموع الجينات البشرية. وقد شبه علماء البيولوجيا
عملية فك رموز وشفرات سلاسل الجينات بقراءة كتاب. وهذا الكتاب هو كتاب
الحياة نفسها، كما شبهوا فك رموز هذه السلاسل من الجينات بقراءة خريطة هي
الخريطة الجينية للإنسان، أي فك رموز حوالي 100 ألف جين موجود ضمن 23
زوجاً من الصبغيات في خلايا الإنسان. كما شبه العلماء عملية القراءة هاته
باختراق سر الأسرار(3
).
حـ ـ حصول نقلة نوعية في العلاقة مع
الكائن الحي وذلك بالتحكم في الخلايا الحية، وتربيتها خارج الرحم أي في
حواضن من زجاج أو استزراعها في أرحام مكتراه. وقد بلغت هذه العملية أوجها
في تقنية الاستنسال الحيواني ثم البشري.
وعلى الرغم من أن هذه العملية ما تزال في بداياتها الأولى فإن العلم يتجه الآن إلى تحسين شروط الاستنسال أي »صناعة «
كائن حي بتلقيح واحتضان خلية مستعارة من كائن حي آخر. وهي أخطر عملية قام
بها العلم الحديث ولا يكاد يعدلها أي اكتشاف علمي آخر كما أن نتائجها
خطيرة جداً على كل المستويات، لأنها تكاد تلامس وتحاذي الحدود القصوى
وتدخل البشرية في مرحلة صناعة الحياة وصناعة الإنسان ذاته في المعامل
والمختبرات كما يعبر عن ذلك مصطلح »الهندسة « ، »الوراثية « .
د ـ أذكت التحولات النوعية الحادثـة
في مجال التكنوبيولوجيا نظرية تطـور الأنواع الحيـة، واستكمال الحلقات
المفقودة في تطور الأنواع الأولى من الكائنات البشرية (Les hominidés )، وبيان القرابة القائمة بين الحامض الحيوي (
AND ) للكائن البشري وجينات الحيوانات الأخرى في شعبة الحياة بل التقاطع الوراثي بين الفئتين(4
).
كما أعادت هده التحولات إلى الصدارة مفاهيم الوراثة
والحتمية البيولوجية. فقد أعطت التكنوبيولوجيا أساساً بيولوجياً قوياً
للوراثة بل قدمت الجينات وكأنها مخزونات وراثية مبرمجة قبلياً من حيث
الذكاء والتذكر والعاطفة، والمرض، والوزن والطول والشهية وشكل الأعضاء
والسلوك وغيرها من السمات البيولوجية والسيكولوجية.
5 ـ المنجزات التي حققتها العلوم
الطبيعية والفيزيائية ـ والرياضية والسبرانية هي بالتأكيد منجزات عظيمة،
لكن هناك نوعاً آخر من التقدم حققته العلوم الإنسانية والاجتماعية
والفلسفة وذلك في فهم الظواهر الإنسانية. فقد حققت العلوم الأخيرة تحولات
كبرى في فهم الواقع الاجتماعي والواقع الاقتصادي للإنسان وفي فهم بنيته
النفسية السليمة، وفي فهـم الأمراض النفسية والعقلية واللغوية، وفي فهم
الذكاء والوجدان واللغة والبنيات الذهنية والأطر والبنيات المعرفية.
والمنجزات المتحققة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية،
على الرغم من طابعها الجدلي، ومن حيوية النقاشات الدائرة فيها بين مختلف
المدارس والتوجهات والانتماءات المدرسية والمذهبية والإيديولوجية، هي
منجزات لا تقل أهمية عما حدث في ميدان المـادة والطبيعة والحياة والكون.
وعلى وجه العموم فقد حقق العلم الحديث معجزات كبرى في فهم
الطبيعة والكون والمادة الجامدة والمادة الحية، وفي استكشاف اللاّمتناهي
الكبر، واللاّمتناهي الصغر، وارتياد المسافات الكونية الهائلة، كما حقق
معجزات كبرى في الاستنسال وعلاج الأمراض، وتمكين المشلولين من المشي
والعميان من الأبصار، والطرش من السماع، ودخل في مرحلة صناعة العظام
وصناعة الدم، وإفسال الأعضاء وغيرها من المنجزات التي كانت تندرج إلى عهد
قريب في عداد الخيال العلمي وفي باب المستحيلات، كما حقق العلم إنجازات
كبرى في فهم طبيعة المجتمع والتاريخ ونفسية الإنسان السوي وطبيعة الأمراض
النفسية والعقلية وبنية اللغة والمعرفة والعقل.
ويبدو أن البشرية قد دخلت منذ منتصف القرن العشرين بفضل
التطور الهائل للعلوم والتقنيات في مرحلة نوعية جديدة من تاريخها تمكنت
فيها من فهم أعمق للكون والمادة والحياة، واللاّمتناهي في بعديه، كما
تمكنت من فهم أعمق لطبيعة المجتمع والنفس والعقل والتاريخ. ولعل البشرية
الآن لم تستوعب بعـد كل أبعاد هذه الثورات العلمية ـ التقنية العنقودية،
ولم تستوع بعد كل زخمها ودلالاتها وكل آثارها المحتملة.
التقدم العلمي التقني بين الإيجابيات والسلبيات العلم التقني من
حيث هو معرفة كاشفة وقدرة ساحرة في نفس الوقت، طافح بالإيجابيات لكنه لا
يخلو من نتائج يمكن إدراجها في باب السلبيات. فالمعرفة العلمية هي كالضوء،
طرد للجهل والظلام واللاّأدرية. وهي، من الناحية العملية تجسيد للقدرة على
التحكم في ظواهر الطبيعة وتسخيرها لصالح الإنسان، لكنها بنفس الوقت الذي
هي فيه تحريـر للإنسان، هي أيضاً تسخير وترويض له في إطار علاقات القوة
داخل المجتمع الواحد أو في السياق العالمي، هذا إضافة إلى بعض نتائجها
السلبية على نظام الطبيعة ذاته. وأكاد أجزم بأن الطبيعة العميقة للعلم هي
طبيعة مزدوجة تندغم فيها المعرفة بالتحكم، والتحرر بالسيطرة. وتلك في
تقديري هي السمة الأساسية للمعرفة العلمية الحديثة، والتي استشرفها
فرانسيـس بيكون بقوله »العلم قوة « .
وهذه القوة التي هي في نفس الوقت قوة محررة للإنسان والأذهان والثقافات،
قوة استنارة وشكل من أشكال المعرفة المبددة للأوهام، هي بنفس الوقت، وبسبب
من قدرتها بالذات، قوة سيطرة وتحكم مزدوج في الطبيعة والإنسان: تسخير
الطبيعة لصالح الإنسان وتسخير للإنسان في خدمة الإنسان. وبعبارة أخرى فإن
الإرادة المسيطرة على العلم التقني الحديث هي إرادة المعرفة كإرادة قوة
وقدرة بعيداً عن أية تقديرات أخلاقية.
هذه القوة هي التي مكنت أوربا في مرحلة أولى ثم الغرب عامة
في مرحلة ثانية من أن يصبح سيد العالم والمتحكم في رأس المال على المستوى
العالمي، وفي التقنية، وفي إنتاج تداول المعرفة ذاتها ناهيك عن السيطرة
السياسية، وذلك عبر المراحل الكبرى التي هي الاستعمار الكلاسيكي ثم
الإمبريالية، وأخيراً العولمة كشكل أخير لهيمنة لطيفة على العالم بموافقة
المعنيين وباندراجهم التلقائي في نظام السيطرة العالمي الكلي بتراتبية
وبدرجات متفاوتة لا يكاد ينفلت منها أحد بما في ذلك القوى الاستعمارية
القديمة ذاتها.
لا جدال اليوم في أن العلم ضاعف قدرات الإنسان وحقق للنوع
البشري مكاسب لم يحلم بها من قبل فقد وحد العالم وقرب المسافات ويسر
التنقلات بين أطرافه ويسر أشكال التواصل والاتصال بين الناس، كما أكثر
الإنتاج، وحقق وفرة الغذاء، واللباس، والمسكن، والأدوات، ونمط العيش،
وتحسين نسل الحيوانات والنباتات والفواكه؛ وهو بصدد تحسين النسل البشري
ذاته، كما قضي بالتلقيح على العشرات من الجوائح المرضية التي كانت تفتك
بالبشرية، وحقق معجزات للمقعدين والمشلولين وذوي العاهات، وحل مشاكل العقم،
وأطال عمر الإنسان، وهو بصدد تطوير إمكانية الشباب الدائم، كما حقق إفسال
واستبدال أدق وأعقد الأعضاء، وطور طاقات جديدة، ومواد بديلة، ونباتات
وحيوانات مركبة ومهجنة جديدة لم يعهدها نظام الطبيعة (فئرات ملقحة بجينات
بشرية، وطماطم بالموز وماعز/خروف … إلخ)، وسيوفر لكل فرد إمكانية الحصول على قرص خريطته الجينومية بجانب بطاقة الهوية إلى غير ذلك من الإنجازات.
ولكن العلم التقني بنفس الوقت أحدث خللاً في نظام الطبيعة
وسبب التلوث البيئي للعديد من الأنهار والبحار والأجواء بفعل الآثار
المدمرة للمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية التي تسمِّم الأغذية وتلوث
المياه والهواء، أو بفعل انبعاث الكبريت من المحطات الكبرى لتوليد الطاقة
أو انبعاث غاز ثاني أكسيد الكاربون من عوادم السيارات وما صاحب التطور
التقني من إحراق وتلف للغابات مع ما يؤدي إليه من اختفاء دورها في الحفاظ
على الأوكسيجين في الغلاف الجوي وتلطيف حدة التغيرات المناخية.
ولعل أحد أكبر الأخطار الناتجة عن التقدم التقني هو اخترام
طبقة الأوزون المحيطة بالأرض نتيجة انبعاث غازات الكلورو فلوروكربون، مما
يسمح بنفاذ قدر كبير من الأشعة البنفسجية الضارة إلى سطح الأرض(5
)
وهو ما يقود إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض ويؤثر على مقدار خصوبتها ويؤثر
بالتالي في الإنتاجية الزراعية والمخزون الغذائي للبشرية، كما يقود إلى
ذوبان الغطاء الجليدي القطبي وارتفاع مستوى مياه البحر وغمرها للمناطق
المأهولة في الشواطئ.
إن مثل هذه المؤشرات المتمثلة في اخترام طبقة الأوزون،
وجنون البقر، والدم الملوث هي دلالات على رد فعل الطبيعة على العنف
الممارس عليها من طرف التكنولوجيا والعقل الإنساني. هذا ناهيك عن دور
العلم في إنتاج الأدوات الحربية الرهيبة من مختلف أصناف الصواريخ والقنابل
والطائرات والمواد الكيميائية والبيولوجية والنووية المبيدة للنوع البشري
(Hominicides ).
ويجب ألاّ نغفل عن ذكر الآثار السلبية للتطور العلمي
التقني وخاصة في مجال البيوتكنولوجيا على الحد من الحرية الفردية كما بين
ذلك هبرماس في كتابه الأخير "
مستقبل الطبيعة البشرية"، وكذا تكنولوجيات التحكم في السلوك الإنساني، وغسيل الأمخاخ وبرمجة الأفكار، وتشريط الكائن... إلخ.
التخوم الفلسفية والأخلاقية للتقدم العلمي كانت التقنية
البدائية شيئاً في مكنة الإنسان وتحت تصرفه وطوع يديه، لكن التكنولوجيا
الحديثة، بتطورها المهول، تكاد تفلت من سيطرة الإنسان أي من سيطرة المؤسسات
والقوى المسخِّرة لها. فالعلم خاضع لأطره الاجتماعية والسياسية والبحثية
لكنه مندرج أيضاً ضمن قانون التطور الذاتي التلقائي أي ضمن منطقه الداخلي
الذي يدفعه نحو المزيد من التطور الذاتي والمزيد من الأداتية ومراكمة
القوة والقدرة. فتطور العلم هو أشبه ما يكون بانحدار سيل يمكن توجيهه لكن
لا يمكن إيقافه.
هذا التنامي اللاّمحدود للقوة الذي تراكمه العلوم التقنية
المعاصرة، والذي يبدو كما لو كان استجابة لقدر قوي مجهول وغير قابل
للإيقاف، والذي يبدو أن البشرية اليوم إنما دلفت إلى عتباته الأولى
المجهولة المئال، يصادم كل الحدود المألوفة لحد الآن، الحدود الأنطولوجية،
والحدود الميتافيزيقية، والحدود المنطقية، ناهيك عن اختراقه للحدود
القانونية والأخلاقية المألوفة، واضعاً البشرية على مشارف عهود جديدة تجب
ما قبلها.
فالثورة المعلوماتية بخلقها لواقع جديد، واقع افتراضي ذي
كيان بيني، تقود إلى مصادمة الحدود الأنطولوجية التقليدية بين الوجود
والعدم إذ تنشئ واقعاً جديداً يتداخل فيه الوجود واللاّوجود، الحضور
والغياب، والهنا والهناك، والمرئي واللاّمرئي.
والثورة البيوتكنولوجية مثلاً تسهم في مصادمة الحدود
الميتافيزيقية التقليدية بين الخلـق وإعادة الخلق والصنع والإنتاج، وتدخل
مجال المعجزات المتمثلة في الإشفاء من الأمراض المزمنة أو من الإقعاد،
والإبراء من الإعاقة المزمنة.
كما أن لهذه الثورات نتائج مباشرة على مجال المنطق بإنتاجها
لكائنات جديدة: فئر بشري أو ماعز خروف أو إنسان حيوان في مجال
البيوتكنولوجيا، وبخلق واقع جديد يتميز بالوجود واللاّوجود، بالمادة
واللاّمادة، بالحضور والغياب، بالتمكن واللاّتمكن، بالذاتية والآخرية حيث
تجد المقولات المنطقية التقليدية (الهوية ـ التناقض … ) نفسها متجـاوزة أو على حدود تفجر منطق الهوية التقليدي.
لكن التحديات التي تطرحها هذه الثورات تبلغ ذروتها في
المجالين الأخلاقي والقانوني، ولعل الثورة البيوتكنولوجية هي أكثر الثورات
مصادمة لهذه الحدود على كل المستويات.
فالاستنسال، وكراء الأرحام، والاحتضان في الأنابيب هي
تجارب علمية تخلخل علاقات الأبوة والأمومة والأخوة والبنوة والعمومة
والخؤولة وما يترتب عنها من مشاكل في المصاهرة والإرث والسلالة والاسم
العائلي. إنها تزلزل كل البنيات الأولية للقرابة التي عرفتها المجتمعات
البشرية إلى حد الآن؛ أي تعيد عجن وطرح العلاقات البشرية الأساسية في
أوجهها البيولوجية والقانونية والأخلاقية.
هذا فضلاً عن النقاش الفلسفي الدائر اليوم في الغرب حول دور
العلوم البيوتكنولوجية في الحد من حرية الطبيعة البشرية (هابرماس،
في الطبيعة البشرية)، وحول مشروعية النظر إلى السلالة الإنسانية باعتبارها »حظيرة بشرية « (Le parc humain ) بتعبير الفيلسوف الألماني سلوتردجيك، خاضعة لكل متطلبات التدجين والترويض وتحسين الجودة التي تمارس على الحيوان(6
®، وحول مشروعية وأحقية امتلاك براءة وصلاحية اختراع الجينات البشرية باعتبار اختراعاً كبقية الاختراعات، وحول حق »التنقيب البيولوجي « (Bioprospecting ) … إلخ.
من بين كل الثورات التي شهدها العلم التقني الحديث تحظى
الثورة البيوتكنولوجية بالنصيب الأوفر من الجدال القانوني والأخلاقي
والديني، فقد اتخذت اليونسكو موقف الرافض لتقنية الاستنسال حيث كانت قد
أصدرت سنة 1997 بياناً عالمياً حول النوع البشري وحقوق الإنسان ينص في فصله
الحادي عشر على أن الممارسات التي تتعارض مع الكرامة البشرية كالاستنساخ
بهدف إعادة إنتاج الجنس البشري هي ممارسات يتعين عدم الترخيص بها.
ففي الثقافة العربية الإسلامية ووجهت تقنية الاستنسال
البشري منه بالخصوص بالإدانة والرّفض. فقد اعتبرها البعض في تعارض مطلق مع
مبادئ الشريعة لأن الطفل المستنسخ أشبه ما يكون بابن سفاح لأنه آت من طرف
واحد، وليس وليد علاقة نكاحية شرعية، بل إن بعض الباحثين الإسلاميين
اعتبروا الاستنسال Clônage يندرج في صميم عمل الشيطان الهادف إلى تغيير خلق الله، ومن ثمة اعتبروه حراماً ومداناً(7
) هو نفس الموقف الذي اتخذته قطاعات واسعة من علماء المسلمين حيث اعتبروه ضرباً من الزنا وعبثاً شيطانياً بالخلق(8
).
وقد اتخذ يوسف القرضاوي موقفاً وسطاً في الموضوع اعتبر فيه
الاستنسال الحيواني جائزاً بشرط أن يكون في ذلك مصلحة للبشر، وألا تكون
فيه مفسدة أو مضرة أكبر من هذه المصلحة، كما هو الأمر بالنسبة للنباتات
والفواكه المعالجة جينياً، وألاّ يكون في ذلك إضرار بالحيوان ذاته. أما
بصدد الاستنسال البشري فقد رأى أن منطق الشرع الإسلامي، بنصوصه المطلقة،
وقواعده الكلية، ومقاصده العامة يرفض تطبيق الاستنسال على بني البشر لما
يترتب عنه من المفاسد والمضار.
مجمع البحوث الإسلامية، وهو أعلى هيئة للإفتاء تابعة للأزهر
في مصر أصدر فتوى حرم فيها الاستنسال البشري ودعا إلى منعه بكل الوسائل
لأنه يجعل الإنسان، الذي كرمه الله، عرضة للعبث، وللتجريب والتشويه
والمسخ.
أما الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر فقد اتخذ موقفاً
معتدلاً ومتأنياً في الموضوع حيث أبرز أن الاستنسال مسألة علمية وطبية
معقدة ولم تتضح بعد بما يكفي وتحتاج إلى جهود أطباء وعلماء. وشيخ الأزهر
ليس طبيباً ومعلوماته عن الاستنسال ليست كافية للفتوى في الموضوع وبين أن
تخصص علماء الأزهر تخصص فقهي واعتبر "الفتاوى" الصادرة في الموضوع من طرف
بعض الفقهاء مجرد آراء شخصية.
لكن الشيعة اتجهوا نحو اتخاذ مواقف أكثر تفتحاً وقبولاً
للتطور العلمي. فقد رأى بعض الفقهاء الشيعة في الحوزة العلمية في قم
بإيران أن الإسلام لا يمانع من الاستنساخ لأنه لا يتناقض »مسألة الخلق ولا يحول الإنسان إلى خالق « ،
فهو ليس اختراعاً لقانون جديد في الخلق وإنما هو استهداء بالقانون
الإلهي. يقول الفقيه السيد محمد صلواتي عضو مجمع الباحثين والمحققين في
الحوزة العلمية في قم أن »الاستنسال موضوع علمي،
وإذا كان للعلم أن يتقدم إلى درجة خلق الإنسان فإن الإسلام لا يعارض ذلك،
ودعا إلى ضرورة مناقشة المستجدات الناتجة عن هذا التجديد العلمي، وإلى وضع
أحكام شرعية تضبط القضايا المتعلقة بالطفل المستنسخ « .
وفي لبنان ارتأى المرجع الشيعي اللبناني محمد حسين فضل
الله جواز عملية الاستنسال إن غلبت إيجابياتها على سلبياتها، لكنه شدد
تحريم استخدام أعضاء الجنين المستنسخ كقطع غيار بشرية. وقد وصف فضل الله
الاستنسال بأنه حدث علمي كبير يدل على عبقرية الإنسان في فهم واكتشاف
القوانين والنظم التي أبدع الله فيها خلق الكون والإنسان، وفي الاستهداء
بهذه القوانين في تجاربه العلمية(9
).
* * *
إن القانون الداخلي الأساسي الذي يحكم العلم هو قانون
التطور الذاتي. فالعلـم سيرورة معرفية خاضعة لمقتضيات وضرورات التطور
الداخلي وكأنه ضرورة حتمية. وهذه السيرورة يندغم فيها بشكل عضوي وحتمي
إرادة المعرفة بإرادة الحقيقة بإرادة القوة والسيطرة. ولذلك فإن من العسير
إيقاف حتمية التطور الذاتي للعلم أو معارضته بل يظل في الإمكـان محاولة
توجيهه وتأطيره أخلاقياً وقانونياً بما يخدم تطور الإنسانية ويحد من
السلبيات المترتبة حتماً عن تطوره، وذلك انطلاقاً من مبدأين فلسفيين
حددتهما الأخلاقيات الفلسفية المعاصرة وهما مبدأ المسؤولية، ومبدأ التضامن
بين الأجيال الحالية والأجيال القادمة، في إطار من التفهم الكامل لتقدم
العلم وتطوره باعتباره الأداة الأساسية لمعرفة نواميس الطبيعة والكون
ومكونات المادة الجامدة والحياة العضوية ولتسخير هذه المعرفة لصالح النوع
الإنساني.