الفلسفة..الحقيقة وتعدد أنماط التفكير
كامل شياع
ملاحظة المقال منقول من موقع جيران كوم- منتدى الفلسفة
لم
يظهر ، حتى وقت قريب ، ما ينازع الرأي القائل إن الفلسفة نتاج غربي خالص ؛
نتاج توفر على أسلوب متميز في التفكير وعلى لغة ومفاهيم تقنية محددة، وعلى
نصوص مرجعية لفلاسفة أعلام مثل افلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وهيغل
وفيتغنشتاين.
تستند الفلسفة الغربية، وفق هذا الرأي، الى تقاليد متصلة
ومتواترة منذ ألفين وخمسمائة سنة جرى تحقيبها إلى قديمة، وقرون سطية
وحديثة، وتقسيمها إلى حقول ومباحث تشمل قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق
والجمال.
تتشعب هذه التقاليد أيضا إلى اتجاهات متصارعة كالواقعية
والاسمية ، المثالية والمادية، التجريبية والعقلية، والوضعية والتحليل
اللغوي؛ بل وتتخذ صيغة الجمع فتصبح فلسفات عند الإشارة إلى المنظومات التي
أشادها فلاطون وارسطو، ديكارت وسبينوزا، شوبنهاور أو هيغل. أخيراً، رغم ما
يقال أن الفلسفة الغربية بكل تاريخها هي مجرد شروح وهوامش على ما كتبه
افلاطون، وأنها تدور حول قضايا أزلية مثل العلل الأولى والغايات القصوى
والمعرفة المثلى، فأن مسيرتها عكست أطوارا من التحول والتطور بالاقتران مع
التطورات في المعارف والعلوم. في اهتمامها المتواصل بإثارة أسئلة كبيرة
وتقديم إجابات عقلية عليها، سعت الفلسفة من أجل فهم العالم وليس من أجل
اكتشافه، وظل مفهومها للحقيقة ذا طابع تاريخي ونسبي مقارنة بالحقيقة
المطلقة التي تأسست عليها الأديان السماوية .
ضمن هذا المنظور ، فإن
الاعتراف بتحقيب الفلسفة إلى مراحل وبتعدّد ألوانها ومباحثها وتباين
منظوماتها وتطور قضاياها يؤكد أكثر ما ينفي انتماء الفلسفة إلى نوع واحد أو
جنس فريد من التفكير اختصت به الحضارة الغربية وميزها عن سواها من حضارات
العالم .
لهذا لا غرابة أن تذكر الفلسفة بصيغة المفرد ، بينما توسم
الآداب والفنون والأديان بصيغة الجمع ، أو أن يستبعد أغلب مؤرخي الفلسفة
الغربيين مساهمات الحضارات الأخرى كالهندية والصينية على اعتبار أنها لم
تنتج إلا أشكالا أولية وفجة للتفكير الفلسفي . ولم تشذ عن قاعدة النظر هذه
إلا الفلسفة العربية الإسلامية التي لا يدنو شك المؤرخين من أصالتها ؛ إذ
يندر من يحاجج في فضل ابن سينا في إبداع التمييز الحاسم بين الوجود
والماهية في الميتافيزيقا ، أو في فضل ابن رشد في إظهار عدم تعارض
الحقيقتين ( العقل والوحي) وشرح كتب أرسطو وإحياء النـزعة الأرسطية
العقلية. بالطبع، ما كان ممكنا لهذا الاعتراف أن يتحقق دون فهم الفلسفة
العربية الإسلامية كجزء من التاريخ العام للفلسفة الغربية ومن تاريخها في
القرون الوسطى حصراً ، وكتنويع على بعض مشكلاتها الدائمة عن أصل الوجود
ومسالك المعرفة وحدود العقلين النظري والعملي وسبل التوفيق بين العقل
والنقل
الفلسفة اليونانية : معجزة أم مصادفة تاريخية ؟
يرتكز القول
بأن الفلسفة هي نتاج غربي خالص على أطروحة أساسية هي أطروحة المعجزة
اليونانية التي تفيد بأن الأغريق ، دون شعوب العالم القديم ، حققوا ، نتيجة
عوامل عرقية أو ثقافية ، نقلة نوعية رفعت التفكير من مستوى الأسطورة إلى
مستوى العقل المجرد. من صفات المستوى الأخير اندماج العقل في المعقول وليس
في قوى الطبيعة العمياء كما كان حاصلاً من قبل ، والجمع بين وظيفة إدراك
العالم عقلياً وبين ارتداد العقل على نفسه مفكّرا في عدته ومفاهيمه بصورتها
المجردة .
لا ريب في أن البعد التقني المتمثل في المنطق والتحليل
النقدي للمفاهيم والأسئلة يشكّل أهم سمة للفلسفة اليونانية والغربية ،
والتقليل من قيمة هذا البعد قد يكون مفيداً لبلورة مفهوم أوسع للفلسفة يشمل
التفكير النظري المتحقق في الحضارات الأخرى من هندية وصينية وأفريقية .
لكن نكرانه ، كرد فعل على المركزية الأوروبية وما ينجم عنها من تفوق
واستعلاء ، يرتقي إلى سلب الفلسفة اليونانية ، التي تشكل واحدة من دعائم
الحضارة الغربية ، من أبرز عناصر اختلافها عن نظيراتها في العالم .
وسندخل
حينئذ في تقييمات اعتباطية لما هو أصيل ومميز في هذه الحضارة أو تلك .
لذلك لا بد من تعيين اختلافات التفكير من حيث درجة التعقيد والتجريد ، على
أن يتم تفسيرها بطريقة سياقية تتجنب الأحكام المسبقة والتعميمات غير
التاريخية . إن أطروحة المعجزة اليونانية تؤدي ، من ناحية ، إلى مغالطة إذا
ما أريد لها أن تكون دليلا لتمييز جوهري ثابت وقاطع بين التفكير التحليلي
العلمي والتفكير التركيبي الأدبي أو الأسطوري . ووجه المغالطة هنا لا يكمن
في القول بأن فلاسفة اليونان قبل سقراط وبعده حاولوا فعلا التفكير بمباديء
الكون وأسبابه بحثاً عن المبدأ الأول والعلة الأولى المحرّكة لنظام العالم،
وإنما جعل في ذلك حكراً خاصا بهم ، ولمن اقتفى خطاهم حتى يومنا هذا ، دون
سواهم من مفكّري وحكماء الصين والهند وبلاد فارس .
حقاً أن العقل والعلم
شكلا السمة الغالبة للحضارة اليونانية ، وأن الحكمة والتنظيم شكلا السمة
الغالبة للحضارة الصينية ، وأن التأمل والدين شكلا السمة الغالبة للحضارة
الهندية ، لكن ، بجانب نقاط التمايز هذه ، كانت هناك نقاط تشابه. ينبغي
للمرء أن لا ينسى ، مثلا ، أن سقراط وكونفوشيوس وبوذا ، الذين عاشوا في
فترة متقاربة نسبياً بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد ، جمعهم همّ
واحد هو الاشتغال على موضوعات الحكمة والفضيلة والأخلاق العملية . وهذه
موضوعات فلسفية تعادل، إن لم تفق ، في أهميتها الموضوعات التقنية والتخصصية
الدقيقة في الجامعات الغربية .