أبعاد أزمة الديون الأمريكية على العالم
د. حسن صنع الله
2011-08-07
أمريكا التي تعلن تأييدها المطلق للمؤسسة الإسرائيلية
تعاني اليوم من أزمة مالية خانقة، سيكون لها الأثر الكبير على المكانة
الأمريكية وقدرتها على التدخل في شؤون الآخرين مستقبلا. فبعد عقد من الزمان
على الحروب التي بدأها الجمهوريون في أمريكا وكلفت خزينة الدولة الأمريكية
"ترليونات" الدولارات، ها هم يراجعون حساباتهم، لصالح تأييد الانسحاب من
العراق وأفغانستان، وها هم يعتبرون أن ليبيا مشكلة فرنسية لا تخص أمريكا،
أما بالنسبة لإيران وسوريا فهم لا يريدون أن يسمعوا عن ضربات عسكرية توجه
لهذين البلدين.
إذا المال اثبت أن له تأثير هام على السياسات الأمريكية
سلبا وإيجابا، وعليه من المرجح أن استفحال الأزمة المالية إذا ما استمرت
سيكون لها تأثير أكبر على السياسات الأمريكية الخارجية، لصالح الانكفاء على
الداخل، وهذا يعني أن الولايات المتحدة لن تتغير مواقفها على سبيل المثال
من القضية الفلسطينية ولكن استفحال الأزمة المالية قد يخرج هذه القضية من
سلم أولوياتها، وحينها لن يكون لها دور أو تأثير سلبي ضاغط على الدول
العربية والسلطة الفلسطينية لصالح المؤسسة الإسرائيلية، وعليه قد يأتي يوم
ليس ببعيد تجد المؤسسة الإسرائيلية نفسها لوحدها في الساحة أمام الضغوطات
الدولية بعد خسارة المؤسسة الأمريكية نفوذها كدولة مؤثرة في العالم ومنطقة
الشرق الأوسط على وجه الخصوص.
هذا السيناريو قد يصبح اقرب للحقيقة إذا ما أفلست الولايات المتحدة، وليس
شرطا أن تعلن إفلاسها، فرغم التصويت على قرار رفع سقف المديونية الأمريكية
الذي سيتجاوز سقف الأربعة عشرة "ترليون" دولار، إلا أن هذا النجاح بحد ذاته
يشكل أزمة حقيقة، لان أزمة المديونية ليست في طريقها للحل، إذ انه لا يرى
في الأفق حل جذري للخروج من هذه المديونية. فما تحاول الإدارة الأمريكية
فعله حقيقة هو رفع سقف المديونية السيادية، ويقصد بها الديون المترتبة على
الحكومات ذات السيادة، وتتخذ أغلب هذه الديون شكل سندات، وعندما تقوم
الحكومات بإصدار سنداتها فإنها تسلك سبيلين لا ثالث لهما؛ إما طرح سندات
بعملتها المحلية، وغالبا ما تكون هذه السندات موجهة نحو المستثمرين
المحليين، وفي هذه الحالة يسمى الدين دينا حكوميا. أو تقوم الحكومة بإصدار
سندات موجهة للمستثمرين في الخارج بعملة غير عملتها المحلية، والتي غالبا
ما تكون بعملة دولية مثل الدولار أو اليورو، ويطلق على الدين دينا سياديا.
وبخلاف الديون المترتبة على الأفراد أو الشركات فإنه لا يمكن للدائنين
إجبار الحكومات على سداد ديون تخلفت عن دفعها، وبالتالي فإن ثمة طرقا
لمعالجة الديون السيادية كإعادة جدولة إلزامية لهذه الديون أو تخفيض معدلات
الفائدة. وهذه المغامرة الأمريكية برفع سقف المديونية قد يفقدها المصداقية
وعدم قدرتها على الاستدانة مستقبلا، ولا حتى سداد ديونها. فإذا ما استمرت
الإدارة الأمريكية بلعب دور الشرطي في العالم والمنطقة، فان الفارق بين
الإيرادات والنفقات سيزيد من حجم العجز وعدم قدرة الحكومة على سداد ديونها،
لذلك رغم نجاح التصويت على رفع سقف المديونية، فإن استمرار المؤسسة
الأمريكية في سياستها العسكرية سيؤدي إلى إفلاسها مستقبلا. فرفع سقف الدين
هو من اجل أن تتمكن الإدارة الأمريكية من الالتزام بسداد التزاماتها
المالية، ولكن بحسب المحللين، فانه من اجل الخروج من الأزمة، على الإدارة
الأمريكية إتباع سياسات جذرية تؤدي إلى خفض كبير في الإنفاق، بالإضافة إلى
زيادة إيرادات الخزانة العامة، مما يعني إثقال كاهل المواطن الأمريكي
بالضرائب. وفي الوقت الحالي رفع سقف الاستدانة عن مستواه الحالي جنب
الإدارة الأمريكية ارتفاع في أسعار الفائدة، الأمر الذي كان سيسبب انهيارات
بأسواق المال العالمية.
الضرر من الأزمة الحالية على المستوى الاقتصادي قد وقع، فبالنسبة لدول
العالم التي كانت ترى بسندات الخزانة الأميركية بمثابة إيداع آمن للغاية
على مستوى العالم، فالأمر لم يعد كذلك، وهذا قد يجعل هذه الدول، كالصين
واليابان، التي كانت تحرص على حيازة السندات الأمريكية إعادة حساباتها
مستقبلا، فعدم اتخاذ الإدارة الأمريكية إجراءات "اشفائية" في الإنفاق، فإن
رفع سقف المديونية لن يكون الضامن لعدم التخلف عن سداد أي مدفوعات مستقبلا.
والأزمة الأمريكية حاليا أثرت سلبا على أوروبا، حيث ارتفعت بقوة كلفة
تمويل الدول التي تعتبر أقل قدرة على الدفع ، كاليونان والبرتغال وأيرلندا
اللواتي اضطرت إلى خطط إنقاذ خارجية، وارتفعت قيمة قروضها من الأسواق
العالمية. وما قامت به الإدارة الأمريكية حاليا، لا يعتبر حلا جذريا، كونها
قامت بالاستدانة أكثر من أجل سداد ديونها. وفي الوقت الحالي تقترض الإدارة
كل شهر 125 مليار دولار، وتريد من الكونغرس زيادة سقف الاستدانة بأكثر من
تريليوني دولار لتلبية حاجيات البلاد في أفق 2012. وبحسب جريدة لوموند فإن
المشاكل الحقيقية لديون الولايات المتحدة هي مشاكل مجتمع عجوز لا ينتج أكثر
من 10٪ مما يستهلك، وينفق أكبر بكثير من أي دولة أخرى في المجالين العسكري
والصحي (وهذا الأخير يبقى أقل بكثير مما في بلدان مماثلة) ورغم ذلك فهذان
الموضوعان خارج النقاش العام.
بغض النظر عن الأسباب الأخرى لهذا العجز (فساد في التصنيف وفي سوق المال)،
المهم هو انه رغم التصويت على رفع سقف المديونية يرى العديد م المحللين أن
مكانه الولايات المتحدة كشاطئ أمن للاقتصاد العالمي قد اهتزت في عيون
العديد من دول العالم وخصوصا في أوروبا ودول كالصين واليابان، هذا ناهيك عن
أن صورة أمريكيا وتأثيرها على العالم قد انحدرت، فاعلان اوباما عن انه حان
الوقت للتركيز على بناء الأمة في الداخل سيكون له انعكاسات سياسية على
السياسة الخارجية الأمريكية مستقبلا. فالإعلان عن الخروج من أفغانستان
والعراق وعدم نيته التدخل في الشأن الليبي ومجمل الثورات العربية هي رسالة
واضحة من الرئيس الأمريكي الحالي أن زمن الهيمنة الأمريكية وأحادية القطبية
قد ولت إلى غير رجعة.
أمريكا اليوم في حالة تراجع وأفول، فهي دولة مدينة لا تملك استراتيجيات
لمعالجة أزماتها الاقتصادية المتلاحقة، ولا يوجد لديها خطط ناجعة لإنقاذ
البنى التحتية والتعليم. وبالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية فهي مدركة تماما أن
زمن الأفول الأمريكي قد بدأ، ولذلك فهي تبحث عن بدائل للحليف الأمريكي
المريض، ولذلك فهي تبنى الآن علاقات مع روسيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي
والهند، مستغلة تفوقها في مجالات "النانو تكنولوجي" وبعض الصناعات العسكري