لتعايش مع فترات الانتقال الطويلة في الشرق الأوسط
د.محمد عبدالسلام في عام 2008، صدر كتاب بعنوان "أمريكا والعالم .. حوارات حول مستقبل
السياسة الخارجية الامريكية"، وكان الكتاب عبارة عن سلسلة من الحوارات
أجراها صحفي شهير هو "ديفيد إجناسيوس" مع مستشارين سابقين للأمن القومي في
الولايات المتحدة، هما زيجينيو بريجنسكي، وبرنت سكاوكروفت.وقد اختلفت آراء
الطرفين حول العديد من القضايا، لكنهما اتفقا علي أن العالم (وقتها) يتغير
بطريقة جذرية، وأن النماذج التقليدية لفهم دور الولايات المتحدة لم تعد
تعمل بشكل دقيق، وأن المشكلات التي تتعرض لها في العالم هي نتيجة مباشرة
لعدم قدرتها علي التكيف مع التفاعلات المتغيرة، مؤكدين أنها يمكن أن تتعامل
بفعالية مع "الواقع الجديد"، بشرط أن تري العالم كما هو، وليس كما ترغب هي
في أن يكون عليه.
إننا يمكن أن نجادل هنا فيما إذا كان العالم يتغير وقتها بالصورة التي
تحدثا عنها، لكن الواقع هو أن ما قيل في ذلك الحين، وفي أحيان قبله، حول
التغيرات الجذرية، قد بدأ يحدث الآن بالفعل، وبصورة تشير إلي أن التغيير لن
يتوقف، والأزمات لن تنتهي ببساطة، وأن علينا أن نتعايش مع هذا الوضع لفترة
طويلة. فهناك كما يوضح الملف الرئيسي للعدد تفصيلا، وبمستوي رفيع من
التحليل، عالم جديد يتشكل، عبر تحولات استراتيجية انتقالية تشير إلي نهاية
نظام وبداية نظام عالميين، عبر حالة سخط اجتماعي، وعجز ديمقراطي، وكساد
اقتصادي، ونظام مالي يواجه ضغوطا هائلة، ونهاية للقطبية، وعولمة للأقاليم،
وتوترات ذات أبعاد عسكرية، وتأثيرات تكنولوجية، مع انعكاسات لوصول سكان
العالم إلي 7 مليارات نسمة.وتتمثل المشكلة الحالية -بمنطق الشرق الأوسط- في
كيفية فهم ما يجري. وعلي طريقة د. علي جمعة، مفتي الديار المصرية
المستنير، الذي يكن احتراما حقيقيا لما يسميه "المنهجية" و "المعرفية"، فإن
"الوعي قبل السعي".
البحث عن العوامل الأخري: وتتمثل بداية الوعي في إعادة مناقشة مفاهيم تحليلية سابقة، في اتجاه أن
نكون أقل ثقة في أي شيء يبدو وكأنه يقدم تفسيرا بسيطا أو مؤكدا لما يدور.
فلعقود طويلة، بدا مثلا أن مصطلح "النظام" يمثل واحدة من الكلمات السحرية
في مجال العلوم السياسية، بتطبيقاته المختلفة في مجالات النظم السياسية
والعلاقات الدولية، إذ كان يبدو وكأنه يمثل واحدة من حقائق الطبيعة التي
تتيح للجميع تخيل أننا نعيش في واقع علمي، لدرجة يمكن معها فهم الشارع
نفسه، بكل ما يبدو عليه من فوضوية، علي أنه -كما كان أحد أساتذة العلوم
السياسية يؤكد مرارا- "نظام"، يمكن تحديد عناصره وتفاعلاته وقواعده وحدوده
بالطريقة نفسها التي يمكن أن نجزم بها بأن الماء سيتحول إلي بخار عند درجة
حرارة 100 مئوية، مع إضافة جملة روتينية يتم ترديدها دون تفكير، هي " بشرط
ثبات العوامل الأخري علي ماهي عليه".
فيما بعد، تم إدراك أن "العوامل الأخري" لا تثبت علي ما هي عليها أبدا.
ففي كتاب آخر صدر أخيرا (عام 2011)، لماثيو هانكوك ونادين زهاوي، بعنوان "
المسيطرون علي لا شيء"، يتم التحذير من أن الانهيارات والأزمات قد تتكرر
مرة أخري، أو مرارا، إذا لم يتم فهم " الطبيعة الإنسانية"، أو بصورة أكثر
تحديدا، كيف يتصرف الناس، (أو التيارات أو الأحزاب، وغيرهما)، وليس ما
نعتقده بشأن الطريقة التي تحكم سلوكهم، أو ناهينا عما نرغب في أن يقوموا
به، أو حتي ما نرغب نحن في القيام به، قبل أن نجد أنفسنا نتصرف أحيانا،
بعيدا عما نسميه "الرشادة"، أو نشاهد، دون أن نفهم السبب، قيام بعض "أوباش
الناس" -حسب تعبيرات الجبرتي- بإحراق المجمع العلمي في ميدان التحرير
بمصر. وليس أمامنا -وفقا لمنطق الكتاب- إلا أن نفهم أن ذلك يمكن أن يحدث،
وأن نتعلم درسا.
كان الدكتور حامد عبد الله ربيع، أحد أساتذة النظرية السياسية الكبار، في
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، الذي توفي عام 1989، واحدا ممن حاولوا فهم
"الطبيعة الإنسانية". وفي هذا الطريق، كان عليه أن يحصل علي 7 شهادات
دكتوراه و 6 دبلومات، مع تعلم الإيطالية واللاتينية. وكانت النتيجة هي
مارصده أحد تلامذته علي صفحته الخاصة في الويكيبيديا، وهي أنه أصبحت لديه "
قدرة غير سيئة علي التكهن السياسي". لكن النتيجة الأهم هي أنه أصبحت لديه
آراء شديدة الخصوصية، سيئة للغاية، حول فكرة الديمقراطية كإطار لإدارة
التحول السياسي، وفي توجهات الرأي العام، كمصدر للسلطة والشرعية.
إن الدكتور ربيع لم يتقبل ذلك ببساطة، مثلما فعل تشرشل، عندما قال عن
الديمقراطية "إنها أسوأ أنواع نظم الحكم، لكن لا يوجد ما هو أفضل منها"،
وظل يفكر وكأنه يعيش في روما القديمة، مثل كثير من المفكرين المحافظين. ومع
ذلك، قام في نهاية حياته باتخاذ خطوات لإقامة مركز لاستشارات صنع واتخاذ
القرارات، ولو كان قد قدر له أن يفعل ذلك، لتابعنا فصلا آخر يتعلق بـ "قوة
الواقع"، أو بالعوامل الأخري. وبصورة ما، قد نشهد ذلك في مصر.
السير خلف التحولات الاستراتيجية: لقد واجهنا مواقف موحية، ترتبط بذلك، في "السياسة الدولية"، عدة مرات،
فيما يتعلق بموضوعات ملحق "تحولات استراتيجية" تحديدا، وهو الملحق المسموح
له بأن يحاول المغامرة برصد بدايات التحولات الإقليمية، قبل أن تتبلور،
فيما يشبه التوقع. ففي يونيو (2011) الماضي، كان المطلوب هو رصد ما سمي
"البجع الأسود"، أي السيناريوهات المستبعدة، الأقل احتمالا والأكثر تأثيرا،
في حالة وقوعها في الشرق الأوسط.
وبالنسبة لمصر، كان علي هيئة التحرير أن تختار بين احتمالات قيام دولة
دينية أو دولة مدنية، كسيناريو مستبعد، يجب التفكير فيه، لكي لا يفاجأ أحد،
لو حدث، علي سبيل الحسابات المبكرة، وتم اختيار "الدولة الدينية" كسيناريو
مستبعد. ويقينا، فإنه لو عقد مثل هذا الاجتماع الآن (ديسمبر 2011)، لكنا
قد اخترنا " الدولة المدنية"، رغم قناعتنا بأن النماذج قد خلقت لتظل نماذج.
لكن الأهم هو ما يمكن أن نختاره في اجتماع افتراضي يعقد في مارس 2011، أي
بعد ثلاثة أشهر فقط. فإلي هذا الحد، يمكن أن تتغير الأمور بسرعة، وبشكل
جذري.
لم نتعلم الدرس. ففي يوم 28 نوفمبر 2011، بدا من حجم الإقبال علي التصويت،
في بداية المرحلة الأولي من انتخابات مجلس الشعب، أن المجتمع سيتوازن،
وأنه سيفرز خريطة لنظام سياسي تعددي قادر علي وضع مصر علي بدايات مرحلة
الانطلاق، حسب تعبيرات جوزيف شومبيتر. وتم عقد اجتماع لمجموعة عمل الملحق
لتغيير محور تركيزه مما كان قد تم تحديده سلفا إلى "النموذج المصري"،
باعتبار أن مصر قد تفرز نموذجا سياسيا واقتصاديا وثقافيا. يمارس نفس
تأثيرات ثورة 25 يناير علي أوضاع الإقليم. وتقبل الزميل مالك عوني، المسئول
عن الملحق، الموقف بصعوبة بالغة، فقد كان عليه أن يقوم ببلورة مفهوم
مختلف، وإعادة التكليفات من جديد، قبل أن تبدأ نتائج المرحلة الأولي في
الظهور، لتلقي بتساؤلات علي طبيعة ذلك النموذج الذي قد تفرزه مصر، وما إذا
كنا قد فكرنا علي طريقة "مثقفي مكاتب المدن" أم لا، لكننا في النهاية
تقبلنا الواقعية كفلسفة، رغم أنها توشك علي التبدد كإطار أكاديمي. وكان
السؤال يدور حول عدد الصدمات التي يمكن تلقيها، قبل أن يتم إدراك أننا
نتعامل مع حقائق جديدة.
والآن، فإذا كنا قد تعلمنا الدرس فعلا، فإن علينا أن نعتقد أن مصر قد تفرز
نموذجا جيدا أو قادرا علي تجنيب مجتمع كبير الحجم سيناريوهات "الدولة
الفاشلة"، وربما أيضا وضعها علي بدايات انطلاق من نوع ما، وأن تفاعلات
السياسة والمجتمع قد تقود الجميع نحو مساحة آمنة. فالنماذج التي اعتقد
البعض أنها تمثل "نهاية التاريخ" لم تكن كذلك، بل قادت إلى أزمات حادة، ولم
يعد للمستقبل طريق واحد. فقد توجد صيغة ما، علي نمط الصين أو تركيا
أوماليزيا، في مجالات الاقتصاد والسياسة والعلاقات الخارجية، خاصة أن خبرة
تاريخ مصر تشير إلى أن حكامها قد يتمكنون من تغييرها، لكن شعبها يتمكن أيضا
من تغيير حكامه، بقسوة في الحالتين، إذا كان مفهوم "الحكام" مقابل الشارع
المتوحش نافذ الصبر -الذي نحاول الاقتراب منه في هذا العدد أيضا- سوف يستمر
كما كان عليه أصلا. وهكذا، يجب أن نفكر طوال الوقت، قبل أن نعيد التفكير
فيما توصلنا إليه، مرة أخري، مع كل تطور جديد، وأن يصبح ذلك هو "المنهج"،
فقد انتهي عصر الثوابت طويلة المدي علي الأقل.
التصويب نحو أهداف متحركة: إن الفكرة البسيطة حول "النظم" تبدو الآن وكأنها واحدة من الأفكار
العبقرية التي كانت وليدة عصر لم يعد قائما، أو علي وشك أن يتغير بطريقة
جذرية وسريعة. فنحن لسنا إزاء فترة أو مرحلة أو حقبة مختلفة، لكن ربما عصر
مختلف، يكاد أحد أبواب هذا "العدد" يقرر بشأنه "أننا علي وشك تجاوز عالم
العصر الصناعي" إلى عالم جديد. فهو يطرح أطر تفكير وعمل مختلفة تماما، تصعب
بشدة محاولات التوصل إلى تلك "الأنماط الثابتة"، أو لنقل "الأنماط
البسيطة" التي لا يمكن الحياة بدونها. إذ إن كل شيء أصبح معقدا، فالفاعلون
لم يعودوا الفاعلين أنفسهم، والتفاعلات أصبحت أكثر تركيبا، والقواعد علي
وشك التحول، وفكرة الحدود بين المجالات المختلفة لن تصمد. فما هو اقتصادي
يؤثر فيما هو سياسي هناك، والعكس هنا أحيانا، ويأتي ما هو اجتماعي أو ثقافي
ليغير الكثير مما سندركه قريبا. لكن الأهم هنا هو مفهومان رئيسيان، علي
وشك أن يتغيرا بطريقة جوهرية:
الأول: مفهوم الاستقرار، ففكرة النظام تفترض أن الثابت
في واقع معين أكثر من المتغير، وأن عمليات التغيير في النهاية، سواء اتخذت
شكل ثورة أو إصلاح، سوف تقود إلى وضع مستقر علي أسس مختلفة. لكن لا يبدو أن
ذلك يمكن أن يحدث في المدي المباشر، فقد أصبح المتغير هو الأساس، والثابت
هو "الثانوي"، وبالتالي أصبحنا نعيش في واقع يتغير، ثم يتغير، وعلينا ألا
ننتظر استقرارا مقيما، مع التفكير -حسب التعبيرات العسكرية- بمنطق "التنشين
من وضع الحركة". فنحن نتحرك، والهدف يتحرك، ويفترض أن نجري الحسابات
اللازمة لتحقيق إصابة من نوع ما، في أقرب الدوائر إلى منتصف الهدف، علما
بأن قاعدة التنشين هي التصويب نحو أسفل منتصف الهدف، لكي تصل إليه، بفعل
العوامل الأخري.
الثاني: مفهوم التوقع، فقد كانت حالة النظام في "الزمن
الإقليمي الجميل" تتيح حدا معينا من القدرة علي التوقع، فيما يتصل بالأوضاع
الداخلية أو العلاقات الإقليمية، أو حتي التهديدات الأمنية، وما جري فعليا
هو فشل ذريع في التنبؤ بما يجري في المنطقة حاليا. ورغم أن كثيرين يمكن أن
يزعموا بأنهم كانوا يتوقعون ما يجري، وبعضهم علي صواب، فإنهم أنفسهم لم
يكونوا علي ثقة بأن ما كانوا يتوقعونه يمكن أن يحدث فعليا إلا كاحتمال.
ورغم ذلك يوجد طلب هائل علي التنبؤ، فلدي الجميع عشرات الأسئلة حول
المستقبل، في مصر، وسوريا، واليمن، وليبيا، والعراق، وإيران، وتركيا،
والخليج، في ظل صعوبة شديدة في الجزم بأي شيء، يتجاوز مجرد الاحتمالات، كما
توضح بعض "التقارير" المنشورة في العدد، والتي تحاول أن تتعامل مع تطورات
متحركة.
ماذا ستفعل التيارات الدينية؟ هنا، تأتي الفكرة الأساسية التي تتعلق بتحليل التحولات الإقليمية الداخلية
في المرحلة الحالية. فهناك تحول رئيسي -علي سبيل المثال- أطلقت عليه معظم
الدوريات الدولية، الصادرة أخيرا، تعبير التحول "من الربيع العربي إلى المد
الإسلامي". وبالفعل، تشير نتائج العمليات الانتخابية، أو التغيرات
السياسية التي تجري في المنطقة عموما، إلى صعود التيارات الإسلامية إلى
مؤسسات الحكم، بحيث يمكن القول إنه "نمط إقليمي".
وتطرح أسئلة داخل الدول حول مواقف تلك التيارات من الشئون السياسية،
والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، كما تطرح في الخارج أسئلة موازية حول
مواقفها من الدول المجاورة، والمعاهدات الدولية والقوي الكبري والآخر
عموما. ولا توجد إجابات نهائية، لكل ذلك، حتي لدي تلك التيارات نفسها، وهذه
هي المشكلة، وهذا هو مدخل حل المشكلة أيضا.
إن أحد الأقوال الشهيرة التي يمكن أن تنطبق علي حالة التيارات الإسلامية،
في الوقت الحالي، هو "احذر مما تحلم به، فقد يتحقق". إذ إن الخيارات
كالتالي:
1- أن تقوم تلك التيارات بتطبيق ما قررته سلفا في
برامجها، لأنه هو ما تعرفه، ولديها قناعة به، ولأن الهدف الأول لكل قوة
سياسية هو أن تحافظ علي بقائها، وهو ما يعني الحفاظ علي كوادرها التي قد لا
تتقبل المرونة بعد حد معين، سيكون واضحا للعيان، ولأنه ربما انتخبتها نسب
كبيرة من المواطنين بفعل ما تنادي به، وليس بفعل ما يثار بشأن القدرات
التنظيمية، أو الخدمات الإنسانية، أو غياب المدنيين، أو حسابات الحكام،
وتكون النتيجة أزمات متتالية، لأنها ستمس هويات الدول.
2- أن تتجه تلك التيارات إلى تعديل توجهاتها، بفعل
اعتبارت الضرورة أو الواقع أو المصلحة، ولدي تيار الإسلام السياسي تحديدا
حلول فقهية، ولأن الهدف الثاني لأي قوة سياسية هو أن "تستمر في اللعبة"،
ولأنها ستواجه -حتي وإن تغلبت علي القوي السياسية المدنية في الانتخابات-
جماعات المصالح، والأغلبية الصامتة، والمعارضة الشرسة في الداخل، وموازين
القوي، وألعاب الطريق الدولي في الخارج.
3- أن ترتبك بشدة في مواجهة الواقع، وأن تترد بين
التيارين السابقين، وتخوض غمار تجارب تحالفات سياسية غير مستقرة، أو أن
تصطدم بالمؤسسات الأمنية داخل دولها، أو أن تبدأ في ممارسة أساليب سياسية
مفزعة، مستخدمة ما يمثل لديها ميزة كبري، ومشكلة قاتلة في الوقت نفسه، وهو
"الدين" في الحكم، حتي لو كان دستور الدولة يتيح لها ذلك، في خلق "جمهورية
خوف"، وبالتالي تبدأ الدول -وليس فقط التيارات الحاكمة- في مواجهة مشكلة.
إن كل ذلك يمثل بالطبع "نماذج"، والنماذج تستخدم في التدريس أو التحليل،
وليست للتطبيق كما هي عليه. فالأرجح أنها ستكون راغبة في تنفيذ الخيار
الأول، لكنها قد تضطر للسير في الطريق الثاني، وبعضها مستعد لذلك، إلا أنها
قد تنزلق إلى الطريق الثالث. وهكذا، فإن أمامنا ما نسميه عادة "مصفوفة"،
يجب معها عدم انتظار ذلك الاستقرار الذي يتيح العودة إلى نمط التفاعل
المعتاد، أو يتيح "التوقع" الذي يمكن في إطاره الإجابة علي معظم أسئلة
المستقبل، لأسباب عديدة، أهمها -كما تمت الإشارة- أن من يمتلك السلطة نفسه
لا يعلم ما الذي سيفعله بالضبط، وليست لديه سوي شرعية انتخابية تحت
الاختبار، وليست لديه أيضا الموارد الكافية لتحقيق برامجه بشكل سريع، ولأن
ثورة التوقعات المتزايدة، وعادة اللجوء إلى الشارع، لن تتوقف ببساطة،
وسيعمل معارضوه في الداخل والخارج علي استهدافه، وقد يواجه منطق "الطبيعة
الإنسانية"، الذي تمت الإشارة إليه في البداية، فالحكم لن يكون مهمة يسيرة.
الحياة في إقليم غير مستقر: أما بالنسبة للأوضاع علي ساحة الإقليم، فإن فكرة "النظام" قد تصدعت أصلا
منذ فترة، ولم يكن "الاستقرار" واحدة من سمات منطقة الشرق الأوسط، الذي ظل
يشهد انفجارات متواصلة للصراعات الإقليمية والداخلية، ومستويات متعددة من
الصراعات النظامية وغير المتماثلة، و"الأقل حدة"، وأعمال الإرهاب، وتعددت
فيه مشكلات الأمن التقليدي وغير التقليدي، وفشلت فيه معظم -إن لم تكن كل-
محاولات ترتيبات الأوضاع الأمنية، بمسمياتها المختلفة، سواء كانت شاملة أو
مشتركة. وقد أدت تلك الأوضاع إلى احتلال دول، وانهيار دول، وتقسيم دول،
وفشل دول، لكن نظما سياسية أخري تمكنت من الاستمرار في ظلها لأكثر من 30
سنة، قبل أن تهب عاصفة 2011 علي الخريطة بأكملها.
إن التوقعات الحالية بشأن مستقبل الإقليم، في المدي المباشر، لا تبدو
جيدة، إذا ما كان المعيار هو انتظار الاستقرار المقيم، أو عودة القدرة
-"ولو نفسيا"- علي التوقع. فمعظم التحليلات تشير إلى مصادر مباشرة لعدم
الاستقرار، و"عوامل أخري". فهناك دول لا تزال أوضاعها الداخلية مشتعلة وسط
سيناريوهات سيئة، والقادة الجدد في الإقليم سيبدأون في خوض تجربتهم الخاصة،
وأعمال التدخل في الشيءون الداخلية للدول الأخري تجري علي قدم وساق، ولم
تقرر أطراف كثيرة شكل سياستها الخارجية، وتواجه دول كالعراق أوضاعا جديدة
بعد الانسحاب الأمريكي، وتقترب المشكلة النووية الإيرانية من مساحة حرجة،
ولن يستمر جمود التسوية السلمية للقضية الفلسطينية بدون ثمن، وتئن بعض
المجتمعات تحت ضغط "الحمي السياسية"، والتدهور الاقتصادي، والانهيار
الأمني، في انتظار الرياح الثقافية، والنتيجة ظهور تعبيرات حادة لوصف حالة
الإقليم، منها أنه قد يعود للعصور الوسطي مندفعا نحو هامش الخريطة
العالمية.
لكن لن يكون علي أحد، رغم ذلك، أن يفكر في مغادرة الشرق الأوسط. فالأوضاع
داخل الدول لا تبدو بالسوء نفسه الذي تظهر عليه من شاشات الفضائيات خارجها،
وشكلت بعض المجتمعات ديناميكيات داخلية جعلتها أحيانا قادرة علي الحياة
بدون رؤساء جمهوريات، أو رؤساء وزراء، لشهور طويلة، كما حدث في لبنان
والعراق، وكيفت بعض الدول نفسها، عبر فترات سابقة، علي الحياة تحت الحصار،
وبدأت بعض الأفكار الخاصة بتحليل المخاطر في إفراز فرص في عالم الأعمال.
وفي كل الأحوال، يبدو المستقبل علي المدي الطويل، بالنسبة لشعوب مختلفة،
أفضل من الماضي، الذي لم يكن قابلا للاستمرار، حتي لو لم يتم تغييره عبر
ثورات عنيفة. وتتمثل المشكلة الحقيقية في كل ذلك في "ثمن" الوضع القلق
الحالي. وهنا، تأتي كل التعبيرات الخاصة بالرشادة المفقودة أو المطلوبة من
جانب القوي الفاعلة داخل كل دولة، مع تقليص خسائر إفرازات ما سمي في
البداية "الطبيعة الإنسانية".
في النهاية، فإنه عودة إلى أقوال بريجنسكي وسكاوكروفت حول إمكانية أن
تتمكن "دولتهما" من التعامل بفعالية مع الواقع الجديد، فهما يريان أن
المشكلة الرئيسية تأتي من أن عقلية "الحرب الباردة" لا تزال مسيطرة علي
تفكير صناع السياسة، والمؤسسات الرئيسية، بصورة جعلتهم غير قادرين علي رؤية
تغيرات موازين القوي حولهم، وهو تحد يتطلب قدرة رفيعة علي الفهم. والحل
-كما يريانه- هو المبادأة و"الاشتباك" بثقة مع اللاعبين الآخرين في كل
مكان، بشكل مرن ومنفتح، سواء كانوا حلفاء أو خصوما، خاصة قوي التغيير، بهدف
التواصل، وليس إلقاء الدروس، لإحداث التغيير علي الساحة العالمية، بدلا من
اتباع سياسة رد الفعل الدفاعية المرهقة التي لن تنجح. ولا أعتقد أن من
الصعب ترجمة تلك العبارات إلى اللغة الإقليمية، أو العربية، للتفاعل مع
التغيرات الحقيقية التي تجري داخل الدول أو داخل الإقليم، مع التحسب أيضا،
في منطقة يسكنها بعض الأشرار لـ "الطبيعة الإقليمية".