حينما تفجرت الثورات العنيفة، بشكل متتابع، في تونس، ومصر، وليبيا،
واليمن، ثم سوريا، على الساحة العربية، كان الهدف الرئيسي لها، أيا كانت
الشعارات التي حملتها، هو إسقاط النظم الاستبدادية التي حكمت تلك الدول
طويلا. وبأساليب مختلفة، تم التمكن بالفعل من إسقاط أربعة من تلك النظم،
لتدخل الدول بعدها مراحل جديدة، تم الاعتياد على وصفها بـ
"الانتقالية"، التي يفترض أن تشهد الترتيبات الخاصة بإقامة النظم
الجديدة، على أسس مختلفة، تحقق أهداف تلك الثورات في "جمهوريات أفضل".
لكن ما حدث هو أن المخاوف النظرية، التي تشير -من واقع خبرات سابقة-
إلى أن الانتقال إلى نظم ديمقراطية حقيقية ليس سهلا، وأن أشباح عودة
الاستبداد، أو انتشار الفوضى، تمثل احتمالات قائمة، قد تصاعدت مع الوقت،
وأصبحت هناك أسئلة مقلقة بشأن المستقبل.
إن التاريخ سوف يسير في النهاية في الطريق الذي دفعت الشعوب ثمنا باهظا
له، لكن يبدو أن المسيرة تتعثر بدرجات تتفاوت من دولة إلى أخرى. فقد
تحولت المراحل الانتقالية في عدة حالات إلى ما يشبه "مصيدة"، يبدو
الخروج منها، بدون آلام إضافية، وفي وقت ملائم، في اتجاه الانتقال من
الثورة إلى "الدولة" التي تشهد بناء نظم سياسية ديمقراطية
"مدنية"، متعذرا، إلى حد كبير، في ظل تداخل غير منضبط بين مستويات
مختلفة من الصراعات، بين عناصر النظم القديمة والجديدة، وعناصر الثوار
المدنية والدينية، وارتباك أداء السلطات الانتقالية، مدنية أو عسكرية، في
ظل مصاعب سياسية واقتصادية وأمنية، تضغط على الجميع، وتؤثر في هياكل
الدول، بحيث ظهر سؤال حول "مستقبل الدولة" ذاتها، كما هو مطروح في
حالتي ليبيا واليمن.
مظاهر مقلقة للمرحلة الانتقالية إن المظاهر المقلقة التي تشهدها الفترات الانتقالية، في مراحل ما بعد
الثورات، بصفة عامة، من واقع تجارب تبدو بعيدة، لكنها لا تزال موحية، تتمثل
فيما يلي:
1- استغراق المراحل الانتقالية فترات طويلة، بفعل بطء أو ارتباك الخطوات
المتخذة، أو سيطرة الصراعات على أجنحة الثورات. ففي روسيا، استمرت
المرحلة الانتقالية ما بين ثورتها الأولي عام 1905، وثورتها الثانية
عام 1917، نحو 12 سنة. أما في فرنسا، فقد استمرت المرحلة
الانتقالية سنوات طويلة بعد قيام ثورتها، وكذلك إيران التي لا يزال النقاش
يتصاعد داخلها أحيانا حول الثورة والدولة. وفي حالة الثورات العربية،
يدور الحديث عن فترات انتقالية تستغرق ما بين عام ونصف عام وعامين، طبقا
لما اتفق عليه بين معظم الفرقاء، لكن يبدو أنها قد تستغرق أطول مما يمكن أن
تحتمل أوضاع الشعوب، بمعايير القرن الحالي.
2- إن الصراعات السياسية تبدو أعنف وأكثر عمقا وجذرية، مما كان
متصورا. فالقضية تجاوزت إقامة نظام ديمقراطي جديد محل نظام استبدادي
قديم، إلى صراعات على السلطة من ناحية، وصراعات على الدولة من ناحية
أخرى. حيث تسعي كافة القوى السياسية إلى إثبات وجودها، وحجز "حصتها"
في النظام الجديد، ليس فقط من خلال آليات التحول القائمة على المنافسة
السياسية، وإنما الاستمرار في الحشد الثوري أيضا، بل وأعمال العنف أحيانا،
والتي ربما يؤدي التمادي فيها إلى إجهاض الثورات ذاتها. ولا يبدو أن
إعمال الديمقراطية التوافقية التي أشار إليها المفكر الهولندي (آرنت
ليبهارت)، والتي تركز على حماية الأقليات والتمثيل الكامل لكافة فئات
الشعب، تحظي باحترام كاف، أو يبدو أن ذلك سيحدث بسهولة.
3- إن هناك مجموعة من الإشكاليات المعقدة التي تطرح نفسها في الفترات
الانتقالية، ولا يبدو أيضا أن هناك حلا بسيطا لها، على الرغم من أن هناك من
يقرر أنها ليست بالصعوبة التي يمكن تخيلها، كالمشكلة التي تخلقها عملية
صياغة الدساتير بين القوى الدينية والقوى المدنية، والأوضاع المتصورة
للجيوش في نظم ما بعد الثورات العربية، وشكل الاقتصاد الذي سيتم تبنيه أو
اتباعه في مراحل ما بعد الثورات، ثم شكل التعليم وملامح الثقافة، وغير ذلك،
كما يثار في مصر وتونس، ونوعية التحالفات الخارجية للدول في المرحلة
القادمة. فهناك مشكلات حقيقية تتعلق بمثل تلك الأمور، تدخل الثورات في
"أنفاق سياسية".
مشكلات من كل اتجاه يضاف إلى كل ذلك مشكلات لا تنتهي، تأتي من كل اتجاه، على نحو يمكن مشاهدته
بالعين المجردة، بدرجات متفاوتة، في الدول العربية، على غرار ما يلي :
- تثار في المرحلة الانتقالية احتياجات ومطالب فئوية وعامة لا نهائية،
وفي الوقت نفسه تواجه الدول حالة من تقلص الموارد، الأمر الذي يجعلها عاجزة
عن تلبيتها. فقد نتج عن الثورات ثورة هائلة من التطلعات، لكن حقائق
الواقع قد تحولها لثورة من الإحباطات، نتيجة عجز الموارد عن الوفاء بهذه
المتطلبات.
- تؤدي التعارضات الخاصة ببناء النظام الجديد، بكل مؤسساته التشريعية،
والتنفيذية، والقضائية والأمنية، في الحالات التي تنهار فيها تلك
المؤسسات بشكل شبه كامل، إلى الحاجة لوقت طويل، في ظل توقيت حرج، فيحدث
نوع من الاستقطاب الشديد في المجتمع، والارتباك من جانب الإدارة
الانتقالية، التي قد تفتقد الإمكانات والرؤية في اختيار السياسات المناسبة،
والقادة المؤهلين لقيادة المرحلة الانتقالية، وهذا ما يضاعف من حجم
الأعباء الملقاة على عاتقهم.
- كثيرا ما تجابه المراحل الانتقالية بتحد خطير، حيث يوجد قطاع كبير من
الثوار يرفض بالأساس فكرة الخضوع لأي سلطة، مثلما حدث في ليبيا، حيث تم
الامتناع عن الاستجابة لنداءات السلطة بتسليم أسلحتهم، فضلا عن تكرا حدوث
مصادمات بين بعض الميليشيات، وهو الأمر الذي قد يؤدي لانزلاق البلاد إلى
حرب أهلية.
- هناك تحديات أخرى تكمن في طبيعة العلاقة بين الثورة والتحول
الديمقراطي، أي العلاقة بين الشرعية الثورية، والشرعية الديمقراطية.
فهناك من ينظر إلى الثورة باعتبارها غاية، ومن ثم يعتقد أن الثورة
دائمة، بمعني ألا يكون للثورة حدود، فتسقط النظام ثم تسقط الدولة، ثم
تؤسس على أنقاضها دولة الثورة، التي تدعي تطهير نفسها من النظام القديم
والبشر القدامى، بحيث لا يعرف أحد أين يتم التوقف.
- تحديات أخرى تتمثل في السلبيات المزمنة التي تخلفها النظم السابقة في
كل مؤسسات الدولة الحيوية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا، على نحو
تتحول معه إلى عقبات هيكلية أمام الثورة، الأمر الذي يثير فكرة العجز
الانتقالي عن مواجهتها، خاصة في الجهاز البيروقراطي، الذي يناهض التغيير من
ناحية، ويفتقد روح الإنجاز والفاعلية من ناحية أخرى، وقد يفرز نفس نوعية
المحسوبيات والفساد، وقد يدفع في اتجاه ما يسمي "الثورة المضادة".
- وكذلك، فإن العلاقات الدولية والإقليمية تمثل مشكلة حادة تثير أزمات
طوال الوقت، من زاوية عدم وجود اتفاق على الطريقة التي تتم إدارتها بها،
والتخبط أحيانا، عندما تتم مواجهة مشكلة. بالإضافة إلى أن التدخلات
الدولية والإقليمية داخل دول الثورات تتصاعد إلى مستويات شرسة في فترات ما
بعد الثورات، بحيث قد تربك المعادلات الداخلية.
وهكذا، فإن المشكلة واضحة. فمراحل ما بعد الثورات تأتي بمطالب شعبية
ملحة تستدعي إجراء تغييرات جذرية في توزيع القوة والثروة داخل المجتمع.
ولكن تحقيق مثل هذا التغيير الشامل يواجه بعقبات متعددة، فالمؤسسات
بطبيعتها مقاومة للتغيير، والطبيعة المعقدة للمشاكل التي تواجهها النظم في
مراحل التحول تفتح الباب دائما أمام الدعوات للتمهل والتدرج في تنفيذ
التغييرات المطلوبة.
كما أنه كثيرا ما يكون هناك تضارب بين المطالب العاجلة للفئات المجتمعية
المختلفة، واختلاف بين القوى السياسية حول شكل النظام الجديد، بل
والإجراءات التي يتطلبها. كما أن القوى السياسية والاجتماعية التي كانت
الأكثر تنظيما على الأرض، عند اندلاع الثورات، غالبا ما يكون لها دور
كبير في توجيه مسارات فترات ما بعد الثورات لتحقق أكبر قدر من المكاسب.
وتلعب طريقة إدارة المرحلة الانتقالية والقوى المتحكمة فيها دورا محوريا
في تحديد نجاح أو فشل الثورات في تحقيق أهدافها. فقد يؤدي غياب الرؤية
الواضحة والمتفق عليها إلى التخبط والفشل، كما قد تنجح قوة سياسية
أومجتمعية، أو تحالف بين عدد منها، في تحويل مسار المرحلة الانتقالية إلى
ما يخدم مصالحها، معيقة بذلك حدوث تغييرات جذرية أو ثورية.
إن كل ما سبق يمثل أشكالا لما يعرف بمصيدة المرحلة الانتقالية، والتي
تتسبب في امتداد مرحلة التحول بشكل يقوض فعليا من فرص تحقيق التغيير الثوري
المنشود، بل من الزخم الثوري نفسه، و لو إلى حين. فالمجتمعات تفقد
الثقة في فعالية الثورة كأداة للتغيير، كلما طالت المدة بين الفعل
الثوري، وتحقيق مكاسب ملموسة على الأرض.
"السياسة الدولية" تحاول في هذا الملف، من خلال مجموعة من الخبراء،
الإجابة على تساؤل رئيسي، مفاده: لماذا تتعثر الدول العربية في
المراحل الانتقالية بعد الثورات؟ وذلك من خلال ثمانية محاور، الأول يتناول
المسارات المضطربة للثورات العربية، والثاني يتناول سوء إدارة تفاعلات
المرحلة الانتقالية في الدول العربية، والثالث يشير إلى ثبات الفاعلين
وثبات الأدوار بعد الثورات العربية، والرابع يتعرض للتحديات الاقتصادية
التي تواجه دول الربيع العربي.
المحور الخامس يتناول الخلخلة القيمية التي حدثت على المستوي الثقافي -
الاجتماعي، والسادس يتناول معضلة الأمن وإعادة هيكلة وبناء المؤسسات
الأمنية، بينما يعرض المحور السابع لمواقف الفاعلين الإقليميين غير العرب
تجاه الثورات العربية. وقد جنحت بعض تلك الكتابات، لسبب أو آخر، نحو
التعامل مع الحالة المصرية، رغم التشديد في التكليفات على محاولة التفاعل
مع كل الحالات المطروحة عربيا، وهو أمر له دلالته أيضا.
على أي حال، يتناول المحور الأخير مسارات التحول في المراحل الانتقالية
للثورات في كل من إيران وإندونيسيا وأوكرانيا، في محاولة للخروج منها
بخبرات مقارنة، تفيد في فهم طبيعة وحدود التعثر الحالي، في التجربة
العربية، وربما تقدم مؤشرات للإجابة عن التوقيت الذي يمكن أن يتم فيه
الخروج من المصيدة.
(*) تقديم ملف العدد ، مجلة السياسة الدولية، العدد 188 ، إبريل 2012
تعريف الكاتب:مساعد رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام